كان الجواب على هذا السؤال هو سؤال أول وجهه لي شريك لي في سكن خاص بالطلاب الأتراك، أو بالأحرى بالطلاب القادرين على دفع تكاليف هكذا سكن بغض النظر عن الجنسية، فالمال هو جنسية الأجنبي، سألني (نعيم) شاب تركي، من أين أنت؟
وبالطبع بدأنا حديثنا بشكل تلقائي باللغة المسيطرة على اللغات (اللغة الإنكليزية) تلقائية مذلة للغة أزلية كاللغة العربية، جاوبته من سوريا! في البداية رأيت ملامح التعجب على وجهه فظننتُ أنه يستنكر وجودنا هنا، لكنَّ حدسي لم يصب بقدر ما أصيب بالغبطة حين سألني، أين تقع سوريا؟!
جاوبته على الحدود مع تركيا، قال لي: تقصد بلاد الشام!
قلت لا، أقصد سوريا، وشرحتُ له ما المقصود ببلاد الشام، كانت هذه الحادثة من أولِّ ما استغربته في الأتراك، رغم أن مثالاً واحداً لا يكفي كي نكوّن نظرة عامة.
في اليوم الثاني، تعرفتُ إلى شاب يدعى (عثمان )، شاب تركي بدأنا حديثنا حين أحببت أن أمرر له لفافة تبغ كعادة طبيعية عندنا في سوريا، فكان من الشاب أن أخذها وشكرني، سألني عثمان: أنت من أين؟ قلت له من سوريا على الحدود مع تركيا! والتي تعد جزءاً من بلاد الشام !
أن تكون سريعا في تعلم الاختصار فضيلةُ كالتعلم من الأخطاء، تبادلنا الأحاديث، سألته عن رأيه في أردوغان، جاوبتني عيناه قبل لسانه، لم يعرف ربما من أين يبدأ أو أنَّ لا رأي لديه، لكنَّ هذه الظاهرة وجدتها كثيرا هنا بين الأتراك، بين أعمار 18-25.
ليست لهم آراؤهم عن الحالة السياسية الراهنة في بلدهم أو عن طبيعة نظام الحكم أو عن الحالة الاقتصادية، فالجميع هنا في السكن ليس لديه أي معلومات عن سياسة الدولة مع السوريين بما يخص الإقامات وهناك من استنكر منح السوريين إقامات إنسانية والفرض علينا المال كي نحصل على إقامة ما ووصل الأمر إلى أمور تخص بلدهم واتفاقياتها بشأن النفط والانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والسفر إلى أوروبا بدون تأشيرة، كل هذه الأمور لا معرفة لهم بها!
لكن كما فاحت رائحةُ ثقافتهم الضيقة، طغت رائحةُ أخلاقهم، فهم ودودون ومؤدبون جدا، لدرجة عدت للتفكير في حياتي السابقة وذنوبي على قلتها، فهذا (تشاري) كأنه كاهنٌ أرسل لي، شريكي في الغرفة، مرت علينا ليلة باردة، لم يفكر بمشاركتي الغطاء لثوان.
وفي اليوم التالي وعدني بأنه سيجلب لي غطاء جيدا من منزله، تلك الطيبة ليست فيه وحده، فهناك نعيم أول من تحدثت معه، يأتي كل يوم ليرى إن كنت بحاجة لشيء ليس فقط ماديا، بل كي يساعدني في تعلم اللغة، وهناك عثمان يذكرني كل مرة بفنجان من الشاي، وبالعودة لزميلي بالغرفة تشاري تصل به الأمور كلما رآني شاردا متألما على سوريا أو أشاهد مقاطع مؤلمة عن شعبي اليتيم، ليتدخل بسرعة، إما برقصة مضحكة أو غناء مبهج، أو يجلس بقربي ويشاهد بألم.. وأنا إن كنتُ ذئباً مؤدبا بين الذئاب، فالآن أنا ذئبٌ مؤدبٌ بين الحملان.
الثقافة العامة والشخصية يمكن أن تظهر لدى نفر يحب الاطلاع والمعرفة لكن أن تظهر لدى مجتمع كامل فهذا يحتاج الى توعية شاملة وحملات تثقيفية للثقافة نفسها وضرورتها، ربما بسبب حياتهم الأمنة والمكتملة من كل شيء، لا تدفع شاب مثلي ليغوص فيما لا يعنيه.
هذه النتيجة جعلتني أرى الحياة هنا كاختبار لي أكثر من كونها هروب، فالنسمات الباردة التي ضربتني في منتصف ايلول ليلا وأنا أضع قدمي في مطار اسطنبول لم تكن فقط نسمات خالية من روائح ترعبني كرائحة البارود ورائحة الموتى وإنما هي نسمات تجعلني أتسأل هل سأستطيع استنشاقها؟
ولكن النتيجة الأهم، هي أن الأتراك كشعوب كثيرة فيهم من الإنسانية ما يكفي لنضمد جراحنا بمحبتهم، بغض النظر عن سياسة الحكومات التي هي بالمجمل لم تعبر يوما عن إرادة شعب. فعلى السوري أن يعيد تأهيل نفسه واحترام البياض في هذا الشعب وألا يكونَ من سوادهِ.
وهكذا فما دفعه الشعب السوري من ضحايا إنما دفعه كي نفتخر أكثر بهويتنا وبأخلاقنا وبثقافتنا و لنعيد بناء شخصيتنا السورية الفريدة بتكاملها بين الأخلاق والثقافة.
التعليقات (7)