وصال التي قبّلت أقدام أولادها لتخفّف ألمهم

وصال التي قبّلت أقدام أولادها لتخفّف ألمهم
كانت دمعة الطفلة ريم سحويل خارجة عن السياق في لقاء تلفزيوني جمعها مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. دمعة جعلت المستشارة “الحديدية” تتلعثم، وتتجه للفتاة مباشرة باحثة عن عبارات مواساة حارة في قاموس السياسة “الحيادي البارد”.

حتى المذيع أشاح بوجهه عن الكاميرا وخاطب المستشارة قائلاً: “إن الفتاة تحتاج لخطوات ملموسة على الأرض لا للمسات حنان وعبارات ترضية”. من المؤكد أن سياسة ميركل اللاحقة فيما يتعلق باللاجئين لم تؤثر فيها تلك الدمعة فقط، ولكن تبقى هذه اللقطة التلفزيونية العفوية من أكثر اللحظات التي باغتت فيها عاطفة ميركل ليس المشاهد وحده بل المستشارة نفسها، فهي برغم ما توصف به من جدية وصلابة، تظلّ ابنة ألمانيا الشرقية سابقاً بكل ما يعنيه هذا من مشاعر عزلة وحرمان ومعاناة.

هذا التغير في سياسة ميركل رافقه أيضاً تبدّل في الصورة النمطية لبلادها، فحلّت صورتها كمستشارة اللاجئين مكان "المرأة الحديدية" وسياستها الجائرة تجاه اليونان، وحلّت صورة ألمانيا كبلد مرحّب بالمهاجرين مكان ألمانيا المعادية للأجانب. وبدأت تظهر بوادر دور جديد لألمانيا في منطقة الشرق الأوسط، حيث لا حضور ثقافي مباشر لها فيه ولا تاريخ استعماري قديم يجمعهما. ورافق هذا ارتفاع في شعبية ميركل بين اللاجئين، مقابل انخفاض لشعبيتها في استطلاعات الرأي العام الألمانية مما قد يكلّفها مستقبلها السياسي في الانتخابات القادمة. فالكثيرون يتخوّفون من تبعات الهجرة على سوق العمل والعقارات، كما أن هناك قلق على القيم الغربية المتمثلة بالديمقراطية وثقافة حقوق الإنسان وحرية المرأة من القادمين الجدد "أبناء منظومات الاستبداد"، بل هناك من يذهب أبعد من هذا إلى حدّ المطالبة بمترجم ثقافة لا مترجم لغة فقط! لكي يستطيع المهاجرون التأقلم والاندماج مع ثقافة ومجتمع غريبين عنهم.

ولا شك أن موجة الهجرة ستؤثر في حياة اللاجئ ولكنها على المدى البعيد ستؤثر إيجاباً أيضاً في بلد اللجوء، وهذا ما شجّع كثيرين من رجال الأعمال وأصحاب البنوك على دعم سياسة ميركل الجديدة، فهم يرون في استقبال الأيدي العاملة الشابة تحريكاً لعجلة الاقتصاد وتنشيطاً لدورة الحياة الألمانية، بعد أن باتت ألمانيا توصف بالبلد المسنّ بسبب ارتفاع نسبة المتقاعدين وانخفاض معدّل الولادات الجديدة. وعلينا ألا ننسى أن ألمانيا ما بعد الحرب بنيت بسواعد عمال أجانب، ولكنها وجدت نفسها بعد سنوات البناء في معضلة استيعاب وإدماج هؤلاء وعائلاتهم في مجتمعها، فظلّوا يعيشون على هامش المجتمع في كانتونات معزولة. ولهذا يجب اليوم عدم تكرار خطأ الماضي، والسعي منذ البداية لإدماج المهاجرين الجدد في المجتمعات المضيفة. وفيما يخصّ موجة اللجوء الأخيرة، فمن الملفت للنظر ارتفاع نسبة حاملي الشهادات العالية، الذين يحتاجون فقط لتجاوز عائق اللغة من أجل العمل والإنتاج في البلد الجديد. طبعاً هناك مشكلات لا تستطيع اللغة وحدها حلها، فالكثير من العائلات قدمت بصحبة أطفال، يعانون من كوابيس واضطرابات نفسية، هؤلاء يحتاجون لرعاية وتأهيل نفسي وعاطفي يتجاوز التأهيل اللغوي والثقافي.

على طريق الهروب إلى ألمانيا:

 ليس نادراً أن يسافر أطفال بمفردهم لأنهم فقدوا أسرتهم كلها أو لأن مدّخرات الأسرة لا تكفي إلا لتذكرة عبور واحدة في قوارب الموت المطاطية، وكثيرة هي الروايات عن حالات إنسانية مؤثرة كفتى حمل صديقه المصاب على ظهره لساعات، بعد أن خذلته ساقه الاصطناعية، أو كرجل انتزع حذاءه الرياضي وقدّمه لزوجته المنهكة، منتعلاً بدوره حذاءها البلاستيكي بزهوره الحمراء دون أن يشعر بالخجل.

وقد روت شابة، كيف أنها نجت من الموت بأعجوبة عندما امتلأ القارب بالماء وبدأ الجميع بخلع أحذيته واستخدامها لإخراج الماء، وكيف هي المحجّبة أمام الموت، نزعت غطاء رأسها الأبيض وراحت تلوح به طالبة النجدة بين أصوات التكبير والبكاء، إلى أن استجابت لهم سفينة عابرة وتم نقلهم للشواطئ اليونانية. تقول إنها بعد أن نظرت للموت مباشرة في عينيه، صارت قادرة على مواجهة أي شيء في هذه الحياة.

وصال، الأم لطفلين، قالت لي: “هربت من أجل أولادي لأنني أريد لهم الأمان، فحيث الحرية والأمان يكون الوطن”...

كانت تنظر بقوة وثقة وهي تخبرني أن طريق الهروب يسلكه الرجال عادة نظراً لقسوته، ولكنها خرجت مع أولادها وحدها، فهي "أخت رجال" ولا تخاف من الموت، فالحياة لا معنى لها أمام التهديد المستمرّ بفقدانها ولا فائدة ترتجى منها إن هي افتقرت إلى أبسط شروطها ومقوّمات استمرارها.

الموت لنا نحن السوريون فقد هيبته وقدسيته، اعتدنا عليه واعتادنا، ولم نعد نخشاه!

سألت وصال عن أقسى ما عاشته في طريق الهروب. “أولادي”... قالت لي.

أولادي عندما يتعبون وأقبّل أقدامهم لأخفف ألمها أو عندما كانوا يسألونني عن المسافة المتبقية وأغشّ بالكيلومترات والزمن، أو عندما كنت أكذب عليهم وأخبرهم بأننا لن نموت وسنصل ألمانيا سالمين.

"عندما هاجمت عصابة سطو مسلّح مجموعة اللاجئين عند الحدود الصربية المجرية، حملت طفلي بين ذراعي وركضت إلى الغابة، كنت أسمع الرجال خلفي يصرخون، عودي يا مجنونة. لكنهم في النهاية استجمعوا شجاعتهم وتبعوني، من مبدأ: هي تستطيع فكيف بنا نحن معشر الرجال!"، كانت وصال تسرد قصصها ولا تتوقف عن ملامسة ولديها والتأكد من أنهما قربها معافين سالمين.

ضحكت بمرارة وهي تخبرني كيف ألقت الشرطة المجرية القبض عليهم، واقتادتهم إلى المخفر، وهناك بصمت ليس بصمة لجوء، بل بصمة جنائية، والتهمة “الحلم بالحرية والجري وراءها حتى آخر الدنيا”، كما تقول.

أما أجمل لحظات الهروب، فهي بالنسبة لوصال، ركوبها الدراجة قبل الوصول لآخر نقطة في اليونان، حيث لا حافلات تسير وحيث الأقدام المتورّمة والنازفة لم تعد تقوى على المشي...

قالت لي وصال: “أحسست أنني أطير بلا أجنحة، كنت أقود الدراجة وكأنني أقود حياتي لأول مرة بإرادتي، تمنيت ألا ينتهي الطريق وتمنيت لو أستطيع ركوب البحر بدراجة... كان رأسي حرّاً من الكوابيس لساعات قليلة، ولكنها كانت كافية لجعلي أقوى وأشدّ اصراراً على المضي نحو الأمام، دون أية التفاتة إلى الوراء.

في صف الانتظار الطويل:

الانتظار... هكذا يبدأ اللجوء في ألمانيا ولا ينتهي، انتظار لساعات وأحياناً لأيام من أجل الحصول على رقم التسجيل أو ما بات يطلق عليه اللاجئون "الرقم الذهبي"، بعدها يتمّ فرز اللاجئ إلى مخيم اللجوء ليتمّ البتّ في طلب لجوئه، هي معركة طويلة مع الروتين والبيروقراطية وهو امتحان للصبر حتى أقصى الحدود، فالأعداد التي وصلت إلى ألمانيا، صارت بالآلاف أمام قدرة استيعاب للمكتب الصحي والاجتماعي لا تتجاوز بضعة عشرات من المراجعين يومياً.

المستشارة ميركل دافعت عن سياستها أمام منتقديها، بأن الحل لا يكون بإغلاق الحدود في وجه الهاربين من الجحيم وقدمت ألمانيا الشرقية مثالاً، حيث نشأت وترعرعت، لا شك أن ميركل محقة فيما يخصّ فشل سياسة إغلاق الحدود وبناء الجدران في إيقاف تدفّق اللاجئين، فالحلّ في مكان آخر... الحلّ يكون بمحاربة السبب لا النتيجة، وبداية الحلّ تكون في القضاء على الاستبداد السياسي والديني الذي يدفع هؤلاء البشر للنزوح والهروب عبر المتوسط أو ما بات يعرف باسم "القبر الأبيض المتوسط"، وبدلاً من اغلاق طريق الموت، لمَ لا يفتح طريق آخر شرعي وقانوني لاستقبال هؤلاء الهاربين؟ وإلى متى عليهم أن يبقوا فرائس للبحر ومهرّبي البشر وعصابات السطو والسرقة؟

في شهادة لأحد المتطوّعين، أشار إلى إن القادمين في قوارب “البلم” يكونون مبللين ليس بالماء فقط بل بالدموع، وقال إنه لم ير في حياته رجالاً تبكي بألم وحرقة كما رأى على متن تلك القوارب، ومع ذلك ورغم فداحة هذه الفاجعة الإنسانية على الشواطئ المنذورة عادة للسياحة لا للموت، مازال العالم المتحضّر يقف مكتوف الأيدي أو غير راغب حقاً في إيقاف سيل الدم السوري.

"وصال" الأم السورية مع طفليها... مازالت إلى اليوم تنتظر أن تمنح شرعية اللجوء في ألمانيا، أما "سورية" فلا تشتاق إليها طالما الأسد يحكمها، ولكنها تشتاق إلى أهلها وتحمل صورهم في رأسها، فلا جدران في المخيم لما هو حميمي وشخصي. قالت لي أنها ستعود عندما تصبح سورية حرة، وهي أكيدة أن الشعب السوري سينتصر في النهاية، هناك في ألمانيا تحلم أن تجد عملاً وتعيل أبناءها وتحلم لهم بمستقبل آمن وبكثير من الحرية.

"محمد" الطفل السوري، الذي نجح في الوصول بسلام لألمانيا، لا يتقن اللغة الألمانية ولكنه يتقن الرسم، في المدرسة قسّم الورقة كما قلبه إلى قسمين:

في القسم الأيسر رسم سورية: امرأة تنزف وقناص وطائرات وموت يلفّ المكان...

في القسم الأيمن رسم ألمانيا: أشجار خضراء وبيوت جميلة وشرطة لحفظ الأمن لا للقتل...

للأسف العالم ليس ببساطة رسمة طفل صغير، فالمعطيات تقول إن أمام ألمانيا وسكّانها الجدد الكثير من الجهد والعمل للتفاهم والاستيعاب، فرغم كل حملات التضامن واللافتات التي رفعت في البداية مرحّبة باللاجئين، مازال الرأي العام الألماني ينظر بقلق وتوجّس إليهم، كما أن هناك تيار يميني متطرّف، لا يعدم فرصة أو وسيلة لبث الحقد والتحريض ضدهم.

في إحدى المظاهرات المعادية للعنصرية والتطرّف قال أحد الناشطين الألمان: ما ذنب اللاجئ المسكين في أنهم عاطلين عن العمل؟ قد يكون أي منا في ظرف مشابه لهم لو أن ما حدث في سورية حدث في بلادنا، وما دمنا قادرين على المساعدة فلماذا لا نفعل!

وقال آخر، إنه لأول مرة منذ ولادته يشعر بالفخر بجنسيته، وإن بلاده صارت توصم بالإنسانية لا بالنازية!

وبين هذا المرحّب باللاجئين وذاك الكاره لهم وبانتظار أن تحلّ المشكلة لا النتيجة، لا تملك وصال ورفاقها إلا انتظار تسوية ما لأوضاعهم هناك وعيونهم معلقة على الضفة الأخرى، حيث مازال القلب ينبض ويعيش.

التعليقات (3)

    تحية

    ·منذ 8 سنوات 7 أشهر
    تحية إلى الأستاذة آية الأتاسي وإن شاء الله سوريا بتتحرر من عصابات الأسد عما قريب

    حسين سليمان

    ·منذ 8 سنوات 7 أشهر
    نص جميل مكتوب بوعي عميق، يجب ترجمته الى اللغات الأخرى كي يقرأه العالم ويتعرف على الوجدان السوري.

    Ibrahim alfalah

    ·منذ 8 سنوات 7 أشهر
    سيدة آية لطالما كانت النساء يحملن العواطف والحنان اكثر من الرجال . فليس من الغريب أن تكون السيدة ميركل تحمل صفات الام الحنونة كمآ يحملونها نساء الكون جميعا . نوجه لها تحية طيبة ولك أيضا ودائما يخلق التاريخ عظماء .
3

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات