السوري هو السوري الذي ينتمي إليهم

السوري هو السوري الذي ينتمي إليهم
يحدث أحياناً أن أتسلّل إلى صفحات أقرباء لم ألتق بهم يوماً إلا والهمّ تزفره أنفاسهم مع كل بوح. أقرباء ولدوا في طرطوس أو في الضيعة، عاشوا طفولتهم هناك، درسوا في جامعات دمشق أو اللاذقية، سافروا إلى أوروبا وأكملوا تعليمهم وكانوا متفوقين. لم يختاروا الجيش ولا المخابرات. لم يدرسوا الطبّ في جامعات الشكتلة الشرقية. ولم يحصلوا على منح دراسية رسمية. سافروا إلى أوروبا، تعلّموا لغتها، صادقوا أهلها، خاضوا في مجالات فكرية وفنية كالهندسة المعمارية أو الفلسفة. ثم عادوا إلى بلاد يسكنها الفساد والوساطة والقرابة من الضبّاط الكبار منهم والصغار.

قليل منهم استطاع العمل في مجال دراسته. منهم من رمي في معمل الإسمنت المجاور للضيعة ليقضي نهاره بين غيوم الغبار المسرطن، يحتسي المتّة، ويمارس النميمة وينسى مع الزمن أنه مهندس أو عالم اجتماع أو طبيب نفسي.كثيرو الشكوة كانوا. الوضع المعيشي والظلم والفراغ على زمن حافظ الأسد. ثم تكريس كل تلك المعاناة على زمن ابنه بشار. إذ أنهم في اللاوعي، يدركون الظلم الذي لحق بهم، هم "أصحاب السلطة" وفي الوقت ذاته، المهمّشون فيها.يعملون من الصباح وحتى غروب الشمس، وفي كل مرة يعودون فيها إلى بيوتهم، يلمحون قصراً ما، فارهاً، على وشك الاكتمال، لأحد المسؤولين في ضيعتهم. هو يعيش وهم يموتون لمنحه "عيشاً كريماً"، في قصر من عدة طوابق، مزنّر بأشجار وحجارة تحجبه عن أعينهم. ولكل مسؤول قصر. ذلك القصر هو سوريته، وطنه الصغير، حيث يسرق ويمارس كل أنواع الفساد هو وعائلته، بناته وأصهرته وأبناؤه وزوجاتهم وأطفالهم. من يعرف تلك القصور، من مرّ بمحاذاتها لسنوات طويلة، من رأى المجنّدين في الجيش وهم يعمّرونها ويتحمّلون نزق الضابط ونزق زوجته، من رأى كيف يطبخون ويشطفون الأرضيات ويحفضّون الصغار ويحملونهم على أكتافهم، من رأى كل ذلك القهر، قد يتساءل: لماذا لم يشهد ذلك الساحل ثورة كانت محقة طوال أربعين عاماً؟

اليوم، بعد حوالي خمس سنوات من الثورة السورية، يحدث أ أتسلّل إلى صفحاتهم، هم كثيرو الشكوة في السابق. أبدأ بقراءة عباراتهم ومواقفهم والصورة الكثيرة التي ينشرونها، يضيق صدري وأشعر بغصّة لعينة تبدّد كل روابط الصداقة التي جمعتنا يوماً، تبدّد كل إحساس بالانتماء إلى مجموعة من البشر تحوّلوا إلى معلّبات حاقدة وينقصها الكثير الكثير من الإحساس بالآخر، من الإنصاف، من العقل والحكمة والضمير. هل أتحدث هنا بـ"لغة خشبية"؟ هل الضمائر اليقظة، باتت شعارات؟ ثم أفكر، هل الأحساس بالآخر كان موجوداً أصلاً في يوم من الأيام؟ هل كانوا على الرغم من كل ما زفرته أنفاسهم من هموم طوال سنوات، يعيشون في سوريا لنا جميعاً؟ أم أنها كانت دائماً سوريتهم المتمدّدة على سفح جبالهم هم، وعلى شواطئ بحرهم هم، وفي أزقة بيوتهم هم.

لا شيء في كتاباتهم يشي بأنهم كانوا يعيشون مع آخرين. لا شيء يدلّ على أنهم اجتازوا خلال حياتهم امتحانات الحوار مع الذات في الطائفية وفي تقبّل طوائف أخرى وفي فهم أمزجة وطبائع تخالف ما اعتادوا عليه. أكثر ما يؤلم في تلك الكتابات (وهي طبعاً ليست كتابات الجميع بل فئة منهم تمثّل شريحة عريضة، والباقي استثناء)، هو تجاهل معاناة أشخاص يحملون الجنسية "النكبة" ذاتها. السوري هو السوري الذي ينتمي إليهم. أي سوري آخر هو خائن وعميل. هم يعرفون أن "العصابات الإرهابية" فتكت ب"الوطن". وأن "مؤامرة كونية" استهدفت "بلدنا الغالي والعزيز". طيب، أليس الشعب السوري المتضرّر من تلك "العصابات" ومن تلك "المؤامرة" ضحية. لماذا تشتمون إذاً من هرب بروحه وبثيابه التي يرتديها مع عائلته من قصف "العصابات" وبراميلها وطائراتها؟ لماذا تلاحقون السوريين المهجّرين بتهم العمالة؟ لماذا كتبت (أنت السوري الوطني) على صفحتك في شهر آب الماضي يوم تعرّض الأردن إلى عاصفة رملية قاتلة: “جماعة مخيم الزعتري، مبروك الحمام الرملي، وعقبال حمام الكرامة!!!”؟ أي كرامة تتحدث عنها؟ ألم تلاحق براميل نظامك كرامة السوريين فهربوا إلى أصقاع الدنيا وتبدّدت أحلامهم الصغيرة، وجُرح انتماؤهم إلى رقعة من الأرض كانت وطناً فصارت مسرحاً للموت؟ طبعاً، كاتب التعليق "الوطني"، الذي يعيش ب"كرامة"، لم تتعرّض منطقته لا للقصف ولا للموت ولا حتى لأصوات الطائرات.

ثم في بوست آخر يتساءل "الوطني" صاحب "الكرامة" عن سبب خروج السوريين وتركهم بيوتهم إن كانوا يتعرّضون في الخارج إلى مضايقات من اغتصاب لبناتهم ومن اختطاف لأبنائهم ومن عمالة الأطفال! ويردف: “يلعن دينك دين وسخ". أي دين غير دينه هو دين وسخ، ويتبجّح بأن سوريا للجميع! كيف؟ ثم من منّا يهوى ركوب البحار والمناطيد وعبور الأسلاك الشائكة بين الدول؟ من منّا يكره ابنه ويعرّضه للموت؟ أليسوا مجبرين على الرحيل؟ أتحاسبهم على هروبهم ولا تمتلك جرأة محاسبة من أجبرهم على ذلك؟ حتى وإن لا تريد الاعتراف بأن نظام الأسد أجبرهم، ألم تجبرهم "عصابات إرهابية"، عجز الأسد ومعه إيران وروسيا و"حزب الله" ومقاتلين أجانب، على القضاء عليهم لخمس سنوات متواصلة؟ ألايزال نظامك جديراً بالحكم بعد كل هذا الفشل وكل هذه الهزائم؟ ثم ترحّب بالتدخل الروسي وتنتقد من عارضه! هل تنتعش وطنيتك مع الروسي ويجرحها الأميركي أو التركي؟ إنها وطنية مطواعة، تنقصها الكرامة التي لا تتردّد في تجريدها منا"نحن السوريون".

وفي مكان آخر، يلتقط صورة على شاطئ "بحرهم" لرجل يتمشى مع زوجته المحجّبة على الرمل بمحاذاة الماء. على الأغلب، إنها عائلة نازحة من إدلب أو حلب أو حماة. نزحت من القصف والموت ولم تجد سبيلاً إلا للجوء إلى "ساحلكم". “بس بدي افهم شو جايب ربك لهون.. هاد بحر.. لمّ كيس زبالتك وإمشي". هو يقصد أن زوجته "كيس زبالة" بسبب فستانها الأسود وحجابها. طيب، هؤلاء ربما ليسوا معارضين لنظامك! إنهم يعيشون معكم. هل كل سوري مختلف، هو كيس زبالة!

لا يمكن للكراهية أن تبني وطناً لكل السوريين. ليست سوريا لكم وحدكم. هناك على بعد كيلومترات، ثمة كواكب أخرى عاشت بالقرب من كوكبكم لسنوات. ثمة درعا وحمص وإدلب وحلب وريف دمشق. ثمة سوريون تملؤهم الكرامة، يتوقون إلى الحرية. ثمة "أكياس زبالة"، فقدت أولادها وعائلاتها وكل ما يمت للحياة والانتماء والأمان بصلة. واليوم، لن تكون ثورة السوريين لإسقاط النظام فقط، بل لإسقاط كل من جرّد السوريين من كرامتهم، وادّعى الوطنية وجعل منطقته هي"الوطن" الأوحد.  

التعليقات (15)

    أبو جلال

    ·منذ 8 سنوات 5 أشهر
    لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي

    أبو سعيد

    ·منذ 8 سنوات 5 أشهر
    ديمة ونوس الرائعة المتألقة أنتي فخراُ لسوريا وللسورين الشرفاء. تكتبين مالايستطيع الكثيرون من السورين التعبير عنه. بؤس هذا النظام المخابراتي المجرم والفاسد الذي لايصنع منكي ومن المرحوم المبدع سعدلله ونوس وأخرين مبدعين سورين أيقونة يفخر فيكم السورين في العالم كما شكسبير إنكلترا و..... إن كعب حذائك أشرف من رأس بشار الأسد وعصابته من رجال أمنه وسلطته وكل من يتحالف معه.

    أبو همام

    ·منذ 8 سنوات 5 أشهر
    هكذا اﻻنسان حين يكون ضميره حرا وحيا ويسيعين به لنصرة الحق والكرامة

    سامي الصوفي - واشنطن

    ·منذ 8 سنوات 5 أشهر
    مقالة ديمة ونّوس حلوة و هي حديث تناوله السوريون في أول سنتين للثورة و يأسوا منه. لأنني أنظر إلى ديمة كسورية، و لأنني أيضاً ابن الساحل السوري، و لأنه ربطتنا علاقة حسن جوار مع "هؤلاء السوريين"، كان يجب تسمية الأمور بمسمياتها الشفَّافة. و ذلك لاقتناعي بأن ديمة كسورية تعرف تماما الطائفة التي ينتمي لها "هؤلاء السوريون و مسؤولهم" و طائفة "كيس الزبالة". عدم تسمية الأمور بمسمياتها الدقيقة هو ما يجعلني أنتقد شفافية صديقتي السابقة ديمة ونوس!

    سامي بن محمد

    ·منذ 8 سنوات 5 أشهر
    اعتقد انه بات واجبا على العلوين مراجعة صفحة العائلات العلوية الثلاثة الذين شاركو علي سليمان الوحش التوقيع على الوثيقة التي قدموها باسم العلويين للرئيس الفرنسي ليون بلوم، وكيف ساق بهم هذا الوحش الى مشروع الخيانة والتخوين وقبل ان يكون على سوريا وسورييها، بل على ما تدعي هذه الطائفة من شرف لها هذا إن بقي مكان للشرف، ولا أتكلم عن شرف النساء بل شرف رجالهم، لأن يكونوا أجراء لهذا ولذاك مقابل كأس فودكا روسي أو ريال إيراني .. وعلى ابنائهم الان ان يعيدوا النظر بالاخطاء التي لاتغتفر، ويصححوا جهل العربدة هذا

    حازم

    ·منذ 8 سنوات 5 أشهر
    صح لسانك ايتها الحرة ....بمثل هذه الاقلام تزهوا وترقى بلادي

    يوسف سني لبناني متدين

    ·منذ 8 سنوات 5 أشهر
    ماشااء الله يا استاذة ديمة، كتاباتك حكم واقع. الله يهدي الجميع. بارك الله فيكي

    ابو عادل

    ·منذ 8 سنوات 5 أشهر
    هذه الكاتبة سنية ... ديما ونوس !!! .

    سمر

    ·منذ 8 سنوات 5 أشهر
    مقال جميل و مؤثرو محزن

    سوري مقيم في ألمانيا

    ·منذ 8 سنوات 5 أشهر
    نحن الان في عصر الانترنت ويحق لكل شخص أن يعبر عن رأية وبطريقته. هذه فرصة من جهة للتعبير ومن جهة أخري فرصة لمعرفة المستوي المتدني من الاخلاق والتعامل والانسانية لشريحة صغيرة من المجتمع. للاسف القانون مازال غير متطور لمحاسبة هؤلاء، ان كان محليا ام عالميا ، لان الانترنت وسيلة عالمية. هذه مشكلة أصبحت عالمية، لكن والحمدلله هذه الشريحة صغيرة ومن الافضل إهمالها والتركيز على الاراء الايجابية البناءة والمنطقية. أرجو من الكاتبة ومن كل انسان عاقل ان يتجاهل هؤلاء الاشخاص وهذا أكبر عقاب لهم وشكرا ل أ.ن.

    samir

    ·منذ 8 سنوات 5 أشهر
    روع مقالة قرائته في حياتي كاتبة رائعة وهذا هو الواقع اخوتنا في الوطن الواحد لا يوجد على السنتهم الا اذا ما بيقلو فيه ريئيسن بدنا نعملو رئيسنا بالساحل وبدنا نعمل دولة لوحدنا

    سوري تركي

    ·منذ 8 سنوات 5 أشهر
    ديمة ونوس انت من القليلين الذين تعيش المواطَنة في تفكيرهم وفي حياتهم العملية. الحقد والكراهية والفوقية لا تبني وطنا.

    سوري حر

    ·منذ 8 سنوات 5 أشهر
    بارك الله فيكي أخت ديما فأنتي والله مثال لكل سوري حر شريف يؤمن بأن سوريا بلد الحضارات الإنسانية ولا يمكن أن تختزلها عائلة الأسد المشؤومة ولا أي طائفة كانت ومهما كبر شأنها أم صغر

    نضال نعيثة

    ·منذ 8 سنوات 5 أشهر
    كلام جميل يذكرني بدعوات حسن الجوار التي تدعوا لها منظمات السلام الصهيونية(المهضومة الحقوق) في فلسطين,بتاكل العنبات وبتقتل الناطور وبتسرق الأرض ثم تدعوا إلى السلام.واللبيب من الإشارة يفهم.

    البحر الأبيض المتوسط

    ·منذ 8 سنوات 5 أشهر
    للأسف هاد الواقع

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات