النظام "الوطني"، الذي يرعى شؤون شعبه "الوطني" أيضاً، والذي يكتب خطابات "وطنية" ويستقبل زعماء "وطنيين" في زيارات رسمية "وطنية"، قتل عبر السنوات الطويلة تلك، ما يمتّ إلى الوطنية في قلب الكائن السوري.
لأن الوطن مفردة مجرّدة، والوطنية بمعناها الواسع مفردة أيضاً غير محسوسة، عمل النظام ومؤسساته وأجهزته وكل التابعين له، بوعي محكم وحثيث على قتل فكرتي الوطن والوطنية. إذ أن الوطن ليس مادة دعائية يومية يتمّ الترويج لها على شاشات التلفزيون وعلى صفحات الجرائد الرسمية وعبر أثير الراديو. والوطنية كذلك، ليست درساً على النظام أن يلقّنه مع كل شهيق. ما أن تحولت تلك المشاعر غير المحسوسة والمجرّدة إلى دروس في الوطنية والوطن، حتى تجرّد الكائن السوري منها. ما أن حملها النظام على ظهر دباباته وفي فوهات بواريده وفي ألوان صور العائلة المقدّسة من منطقة اللاوعي إلى منطقة الوعي، حتى سقطت إلى الأبد، أبده هو. باتت "وطنية" الكائن السوري منتزعة منه ومرهونة ببقاء النظام "المعلّم" و"الملقّن" و"الواعي". سيبقى الكائن السوري "غير وطني" طوال بقاء النظام "الوطني".
عندما يقول النظام كل لحظة، إنه "الوطن" وإنه "الوطنية"، سيصبح التجرّد من ذلك "الوطن" ومن تلك "الوطنية"، الحل الوحيد للدفاع عن الكيان والموقف والروح والجسد والذاكرة. ستصبح تهمة "الخيانة العظمى"، اعترافاً بنظافة الكائن وبمقاومته الانجرار إلى امتيازات السلطة وفسادها. سيصبح التجريد من الوطنية أمراً يلهث وراءه الكائن لينام مطمئناً إلى إنسانيته.
التعبير عن تلك اللا"وطنية" يتفاوت كان بين شريحة وأخرى. يكون عبر معارضة النظام علناً لدى شريحة وبالتالي دفعها ثمن مواقفها حبساً ونفياً واختفاء ومنعاً من مغادرة "الوطن". يكون عبر إتلاف الممتلكات العامة لدى شريحة أخرى، الكتابة على مقاعد الحدائق وتكسير مقاعد المدرسة ورمي النفايات في الشارع لأنه "شارعهم" وليس "نا". يكون عبر عدم احترام قانون السير مثلاً، لأنه القانون الوحيد المتاح بينما تغيب قوانين أخرى أساسية تحمي الكائن من الاعتقال والموت ثمناً لحرية تعبيره واعتقاده وآرائه السياسية. يكون عبر الوشاية بالكائنات الأخرى نظراً لغياب العدالة والاحترام وأمام تعسّف الأمن والمخابرات وسيطرة الوساطات على حياة البشر. يكون عبر طرق تعبير لا تعدّ ولا تحصى، يجمع بينها "العداء" للوطن الذي لا يملكه الكائن ولمشاعر الوطنية التي لم يجرّبها بتجرّد وفي منطقة اللاوعي وفي الوجدان، بل فرضت عليه كدروس القواعد والتربية القومية أو مادة "الوطنية" كما كانت تسمّى. هل يعقل أن يكون في المناهج ما اسمه "تربية وطنية"!
ثم يتفاجأ النظام أمام سعادة ذلك الكائن بالتدخل الأميركي في العراق! يتفاجأ ويسرع إلى إطلاق تهمة "العمالة" وتخوين من شعر بسعادة من إسقاط تمثال الطاغية تحت رعاية الدبابات الأميركية. وتلك التهمة بعد تحرير العراق، كانت أيضاً مدعاة للفخر كما كانت دائماً. ويستغرب النظام اليوم توق الكثير من السوريين لتدخل أجنبي ينقذهم من العيش "تحت سقف" وطن يموتون فيه ويجوعون ويخوّنون ويعتقلون ويعذّبون ويُقصفون ويُبادون! النظام "الوطني" الذي استقدم احتلالين أجنبيين خلال أربع سنوات ونصف، يستغرب من انتظار الكائن لاحتلال واحد مضاد، لإنقاذ ما.
تحضرني تلك الأفكار اليوم مع شغف السوريين بمصائر سياسيّي العالم. إذ أن الكائن السوري اليوم، الوطني حقاً وفي لاوعيه وداخل وجدانه، ينتظر أمام شاشات التلفزيون أخبار الانتخابات في ألمانيا وتركيا وأميركا. يتابع الوضع الداخلي في روسيا وأوكرانيا وإيران ومستجدات وضع "حزب الله" في لبنان. يعرف الكائن السوري أن أوباما لن يفعل شيئاً وأنه سينتظر فلوله وقدوم رئيس جديد "أكثر حسماً". يعرف أن لبقاء أردوغان معانٍ مرتبطة ببقائه هو على قيد الحياة والأمل. يعرف أنه في طور اختبار الوطنية الجديدة حتى وإن كانت مجروحة بتدخلات خارجية مضادة، إذ ما الفرق في النهاية بين التدخل الروسي والإيراني والأميركي والتركي؟
ولأن الكائن السوري يختبر وطنيته ويمسك بها بين أسنانه ولن يفلتها بعد الآن، يعرف أن "حريته" لن تكون وطنية. إلا أن ذلك لا يعني أنها ستكون ممسوسة أو محط شكّ. فمن عاش لسنوات طويلة، طويلة جداً إلى حدّ أنني لا أذكر غيرها، تحت سقف الخوف "الوطني" والجزمة "الوطنية" والمعتقل "الوطني"، لن يخدشه تدخل خارجي يحفظ له كرامته ويتيح له العيش تحت سقف السماء، سماء وطنه هو.
التعليقات (6)