أقوى رجل في العالم.. على مَن؟

أقوى رجل في العالم.. على مَن؟
للسنة الثالثة على التوالي، تختار مجلة "فوربس" الأمريكية بوتين بوصفه أقوى رجل في العالم. في حيثيات الاختيار، تشير المجلة إلى أن التدخل الروسي لدعم بشار الأسد ساهم في تعزيز نفوذ بوتين على الساحة الدولية، مثلما لم تؤدّ العقوبات الاقتصادية المفروضة بسبب الأزمة الأوكرانية إلى إضعافه، مع أنها أضعفت الروبل والاقتصاد الروسي! 

يصادف مع إعلان لائحة "فوربس" أن تتلقى قوات بشار، المدعومة بالقصف الروسي، هزائم في "مورك" و"عطشانة" وفي مساحات واسعة واستراتيجية من ريف حماة الشمالي، كما يصادف أن تتراجع تلك القوات في عدة مواقع سيطرت عليها أخيراً في ريف حلب الجنوبي. بالطبع ليس من المصادفة إطلاقاً أن الطيران الروسي لم يستهدف تنظيم داعش سوى بغارات قليلة ومحدودة، استهدف في إحداها آثار تدمر، مع أن "داعش" كان ذريعة التدخل الروسي بدايةً. إذاً، وفق تصنيف المجلة، إما أن أقوى رجل في العالم على وشك أن يمرّغ سمعته في الوحل السوري، أو أن التصنيف لا يعدو كونه فقاعة إعلامية. ثمة احتمال آخر لا يعنينا، أن يكون الشخص قوياً على مسؤولي حكمه، وربما هذا ما يبرّر اختيار أوباما في المركز الثاني، على رغم شهرته كرئيس ضعيف في ميدان السياسة الدولية.

تماشياً مع التصنيف ذاته، تحالف بوتين مع بشار هو بمثابة تحالف الرئيس الأقوى مع "الرئيس" الأضعف، ولم يحدث سابقاً أن أدى مثل هذا التحالف إلى تقوية الأضعف، بل كان دائماً لعنة على الأقوى. ولعل هذا التحالف يوضح المعنى الحقيقي لعبارة "الطغاة يجلبون الغزاة"، فالطغاة مهما بلغت وحشيتهم يصلون في النهاية إلى المصير المحتوم، مصير الضعف الذي ينكشف بالثورة عليهم، وحينها يظهر الطاغية على ما هو عليه حقاً، يظهر مجرّداً من دعايات القوة وبهرجة القادر على التفوّق على خصومه. هذا المصير هو ما ينبغي أن يضعه بوتين أيضاً نصب عينيه، وهو مدفوع الآن بوهم القوة التي لا رادّ لها، وهو ما ينبغي أن يتحسّب له جيداً وهو ينزلق إلى مستنقع "الرئيس" الأضعف.

حتى الآن كان ثمن عنجهية بوتين في سوريا بضع عشرات من صواريخ التاو، خلال شهر فقدت قوات بشار نحو 120 دبابة، فضلاً عن الخسائر الأخرى في العتاد والأرواح. هذه الحصيلة في أية معركة كافية للدلالة على الطرف الخاسر، ولنا تخيّل ما سيكون الحال عليه لو امتلك مقاتلو الجيش الحرّ أسلحة نوعية حقاً. في الواقع يستفيد الرجل الأقوى في العالم من الميزة التي استفاد منها حليفه الأضعف، أي امتلاك الجو، وهي كما نعلم ليست ميزة ذاتية لبشار الأسد أو لبوتين بقدر ما هي ممنوحة لكليهما من القوى الدولية التي حمت النظام من السقوط، ولأنها كذلك فقد تنقلب ضدّهما في حال استمرّت الحرب وقررت إدارة أمريكية لاحقة إذلال الروس على نحو ما جرى في أفغانستان من قبل. يجدر التنويه بأن الإذلال سيكون مضاعفاً في حال حدوثه على صعيد القيادة الروسية التي لم تتعلم الدرس، وعلى صعيد تحجيم الطموحات الإمبراطورية لروسيا خلال فترة طويلة من الزمن.

مع ذلك، كان من المنطقي أن تصل الأمور إلى حدّ التدخل الروسي المباشر، بعد أن لم تعد تنفع شحنات السلاح وحدها. ومن المنطقي أكثر، ربما، أن يتورّط جميع داعمي بشار من محور موسكو/طهران مباشرة في المعارك، ليختبروا قدرتهم على إنعاش نظام ساقط. لنأخذ الأمور بتسلسلها؛ في البداية تدخل "حزب الله" منفرداً بتعليمات من الحرس الثوري، وسرعان ما انكشفت قدراته التي كان يضخّمها في وسائل إعلامه، وكانت الدعاية المضادة لإسرائيل تساهم أيضاً في تضخيمها، الأهم انكشف الحزب "المقاوم" على طبيعته الطائفية، وأيضاً على طبيعته الاستبدادية المضادة لفكرة الحرية. في المرحلة الثانية أتى تدخل الحرس الثوري الإيراني مباشرة ليقود الميليشيات الشيعية من كل حدب وصوب، وأيضاً أتى بعد سنوات من القضاء على المعارضة الإيرانية وتسويق فكرة المحور الإيراني الذي لا يُقاوَم في المنطقة ككل، بخاصة بعد السيطرة على العراق إثر الانسحاب الأمريكي منه.أتى رجل إيران القوي قاسم سليماني ليقود معركة حوران بنفسه، وكما نعلم مُنِيَ بهزيمة نكراء، بل تقدّم الثوار للسيطرة على أراضٍ كانت تخضع للنظام حتى ذلك الوقت. في الواقع تمرغت سمعة حزب الله وسمعة الحرس الثوري الإيراني في وحل هزائمهما، ولم يبقَ من الحلفاء سوى مجيء بوتين ليلاقي المصير نفسه.

القول بأن بوتين محكوم بالمصير نفسه لا يندرج في إطار الشعارات المستهلكة، بل لأن مقتل بوتين، وإيران و"حزب الله" من قبله، يتجلّى في النظر إلى الحرب في سوريا على أنها مسألة تقنية، وفي النظر إلى عجز النظام عن مواجهة الثورة على أنه نابع عن شحّ في الموارد يلزم تعويضه. هي نظرة لا تعترف بمرور عقود من الزمن استهلك النظام فيها كافة إمكانيات بقائه، نظرة لا تعترف بأنه وصل إلى الحائط المسدود بفعل بنيته، وأن العجز العسكري تعبير عن عجز يطال كافة مناحي الطغمة الحاكمة. منذ منتصف السبعينات ظهرت ملامح التغوّل العسكري والأمني التي تشكّل النظام، ما تبقى هي مؤسّسات الحدّ الأدنى لا غير، واستمرّ الحال طوال حوالي أربعة عقود مساوية تقريباً لحكم ديكتاتورية فرانكو في إسبانيا، ومهما نقّبنا في التاريخ الحديث لن نعثر على ديكتاتوريات من هذا القبيل استمرّت بلا انقطاع مدة أطول. هذه وقائع لا تندرج ضمن الشعارات، ولا في إطار تمجيد مستحق لثورات الشعوب، هي علاوة على ذلك تدل على استنفاذ نظم الطغيان وظيفتها ودورها إلى حد يستحيل بقاؤها بعد ذلك.

من الدارج، حتى في بعض أحاديث المعارضة، القول "لو فعل بشار كذا أو كذا لما وصل الحال إلى ما وصل عليه"؛ الأقرب إلى الواقع أن ما فعله بشار هو ما لا يستطيع فعل غيره، ليس على سبيل الحتمية العمياء، ولكن لأنه لو كان سوى ما هو عليه لاستغل الفرصة التي أُتيحت له في بداية تنصيبه. تالياً، من غير المتوقع من قادة الحرس الثوري الذين كمموا أفواه الإيرانيين تقديم أداء سياسي مختلف في سوريا، ولعلهم استخدموا في سوريا ما كانوا يتمنون استخدامه تجاه معارضيهم في إيران. أما سياسة بوتين فتنكشف على حقيقتها فيما يتبعه تجاه خصومه الروس، وتحديداً سياسة الاغتيالات التي تلاحقهم داخل روسيا وخارجها. بمعنى أننا إزاء محور شديد الانسجام، وإن كان بشار يجسد وجهه الأكثر قبحاً وابتذالاً. لكن البشرى التي يدفع السوريون ثمنها هي أن سقوط بشار يعني فشل المحور بأكمله بعد أن استنفذ فرصه في محاولات الإبقاء عليه، الفشل الذي سينعكس مستقبلاً في الداخلين الروسي والإيراني.

من المرجح ألا يطول الزمن قبل أن يستيقظ بوتين على أن وصف الرجل الأقوى في العالم فضفاض عليه، أو أنه لن يستحقّه بعد أن يتورطّ جيداً في سوريا، أوباما نال قبله "جائزة نوبل للسلام" بلا استحقاق، ونال مركز الوصيف في القوة دون استحقاق أيضاً. المفارقة أن البغدادي، الذي تحتشد كل هذه الطائرات في سماء سوريا والعراق بذريعة محاربته، لم ينل سوى المركز السابع والخمسين في القائمة. ربما كانت المستشارة الألمانية ميركل تستحق بجدارة المركز الثالث الذي نالته في اللائحة، فهي امتلكت من الجلَد ما جعلها تتحمل أزمة اللاجئين التي تسبّبت بها سياستي أوباما وبوتين معاً.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات