سوريا في النموذجِ الإرتيري ..إعادةُ إنتاجِ التاريخ

سوريا في النموذجِ الإرتيري ..إعادةُ إنتاجِ التاريخ

في روايتهِ الأخيرة يتناول الكاتب و الصحفي الأرتيري حجي جابر، فكرةَ تشويه المجتمعات و إعادة انتاج التاريخ بإشرافٍ مباشرٍ من السلطة الحاكمة التي تسعى لترسيخِ الحُكمِ عبر امساكِها بكلِّ شيء، كل شيء يدخلُ من ضمنها التاريخ السريُّ و العلني للبلاد التي يحكُمُها الديكتاتور، لعبةُ المغزل التي جاءَت مُتخمَةً بتفاصيل البيئةِ الإفريقية عموماً و الإرتيرية على وجه الخصوص لا يُمكِن قراءَتُها بمعزلٍ عن الشرق العربي الذي يظهرُ خلف الكلمات و الصور التي يمررها الكاتب لأسمرة المدينة التي تدور فيها تفاصيل الحكاية.

ليبيا القذافي و سوريا الأسد و كوريا كيم كلُّها يمكن رؤيتُها ضمن الصورةِ الكاملة للعمل فالديكتاتور يأخُذُ صورةً واحدةً و إن تغيَّرَ العلمُ الذي يظهرُ في كادِرِه أو اللغةُ و اللهجةُ اللتي ينطق بها.

صناعةُ الأسطورة:

ضمن تزوير التاريخ يُعيدُ الرئيس عبر دائرتِهِ الخاصة في الأرشيف صياغةَ التاريخ، ليشطبَ مناضلين و أحداث ليكونَ هوَ- أي الرئيس- مصدر الأحداث و محورَها، فلا تاريخَ قبلَهُ و لا سُلطة لنتذكَّر ذلك المشهدُ الذي صرخَ فيه الممثل المصري أحمد السقا في الفيلم السينمائي الشهير "الجزيرة"، مافيش حكومة ، أنا الحكومة.

بهذا المنطق يُحكَمُ الشرق الذي اُبتُلِيَ ببقايا الإرث الإستعماري، على هيئةِ حكوماتٍ صنعت مُستَبِدِّيها و سلطتها القائمة سواءً بمنطقِ الآيديولوجية أو بمنطقِ الإنقلابات العسكرية،  و هنا لا بدَّ من التذكير أنَّ المشكلةَ الحقيقية بدأَت حين طالَب الثوَّارُ الأوائلُ بالإستقلال و أجَّلُوا الحرية، فحصلوا في نهايةِ المُطافِ على حياةٍ مُشوَّهَةٍ معطوبة لأنَّها تسيرُ على ساقٍ واحدة.

الزمان و المكان:

إذا كان المكان يمتدُّ شاقولياً في "لعبة المغزل" عند حجي جابر فإنهُ يمكنُنا سحبُ المكان عمودياً على مُدُن أخرى تنطبِقُ فيها الحكايةُ على أبطالَ من ورقٍ وصلوا في ظروف غامضةٍ في كثيرٍ من الأحيان إلى السلطة، دائماً في الشرق هناك روايتان للحدث، الأولى يحتفظُ بها أصحابُها الأصليين و الثانيةُ تُروِّجُها السلطة الحاكمة بأجهزتِها و مثقَّفيها و أدواتها الاستبدادية، لتبقَ الروايةُ الأولى حبيسةَ الصدور بينما تُعلَنُ الروايةُ الرسمية على أنَّها الروايةُ المقدَّسَةُ للأحداث ليتمَّ تمريرها في الكتب المدرسية و لتشتغلَ المكنةُ الإعلامية للأنظمة الحاكمة لترسيخها حقيقةً غير قابلةٍ للشك مثلَ كثيرٍ من المُسلَّماتِ التي يعجُّ بها العقل العربي.

الرئيسُ يقتُل الرفاق:

في "لعبة المغزل" الصادرة مؤخَّراً يتناولُ حجي جابر الثورةَ و روايةَ السلطة لها بينما يُفاجِئنا بقدرتِهِ على الوصول إلى الأبطال الحقيقيين أو أبطال الظل ليحصلَ من خلالِهِم رُغمَ سلطةِ العسكر و الأمن على الروايةِ الأصلية التي لم يكن الرئيسُ الضرورة شاهداً عليها، في هذا التفصيل يمكنُ الغوصُ أكثر في الحالةِ السوريةِ نموذجاً يُحاكي واقعَ "لعبةِ المغزل" و لنا في شواهدَ عديدة عاشَ فيها الأبطالُ الحقيقيين على هامش الحياة بينما جاءَت رواياتُ السلطةِ للأحداث متوافقةً مع رغبةِ البقاء و الحكم الأبدي من خلال الإصطفاف خلفَ القائدِ الذي بالضرورةِ خاضَ كلّ الأحداث و كان شاهداً ملكاً عليها، فنراهُ مثلاً في مكانينِ مُختَلِفين في ذات الوقت، في المنطِق الكوني لا يمكِنُ وجودُ شخص في ذات اللحظةِ ضمن مكانين و لكنَهُ في منطقِ السلطةِ الحاكمةِ مثلاً ممكن و ضروري و منطقي!.

الدولةُ الهرمية:

الدولةُ التي بناها و استقاها حجي جابر من واقعِهِ الإرتيري الذي يصارعُ البقاء في عباءةِ العروبة، نراهُ منسحباً بصورةٍ دراماتيكيةٍ للأحداث إلى الحال السوري، فتلك الدولةُ هندَسَها الرئيسُ ليكونَ في أعلى هرمِها، و هذا ما فعلَهُ حافظ الأسد حين أرسى ثلاثةَ أعمدةٍ للحكم في سوريا، أولُّها الجيشُ و ثانيها أجهزةُ الأمن و ثالثُها كوادرُ الحزب ليستمرَّ الوريثُ على نهجِ أبيهِ في الحفاظِ على الأعمدةِ التي تُرسِّخُ الحُكمَ و تُبقيهِ عبر إعادةِ إنتاجِ الأحداث و الواقع.

يبدو هذا الحال جليَّاً في السنوات الأخيرة خلال الثورة السورية التي كشَفَ النظام بأعمِدَتِهِ الثلاث و ما تُنتِجُهُ من مثقَّفين و مُروِّجين و رواة عن خطابِهِ الغريب الذي امتاز من خلالِهِ بروايتين الأولى كانت للخارج بأنَّ ما يحدُث هو حركةٌ اسلاميةٌ تُريدُ الإطاحةَ بالنظام العلماني الحاكم لتتحوَّلَ سوريا إلى خلافةٍ إسلامية لنراهُ فيما بعد يشتغلُ على هذه الرواية لترسيخِها واقعاً لمسناه في كثيرٍ من الجغرافية السورية، بينما برزَ خطابُهُ الداخلي بكثيرٍ من الألم على اللُحمَةِ الوطنية التي تستهدِفُها مؤامرةٌ كونيةٌ تريدُ الإطاحةَ بالنظام المقاوم الممانع للمشاريع التي تريدُ البؤس للمنطقةِ عموماً، و بين تلك الروايتين راوحَت أعمدة النظام و مؤيدوه في حلقةٍ مُفرَغَةٍ كان من خلالِها يُعيد انتاج الروايات حتى لو كانت خارج منطق العقل البشري كما في قصَّةِ الطفل حمزة الخطيب و نموذج "أبونزير،ربي يسِّر" الكاريكاتوري!.

الجيلُ المحظوظ:

أعتبرُ أنَّ جيلنا الذي يشاهدُ ما يحدُث اليوم، جيلاً محظوظاً برغمِ كل الدمار و ما تلاه، فقد انكشَفَ زيفُ السلطة و رواياتُها التي مرَّرَتها مراراً طيلةَ سنواتِ دراسَتِنا في مدراس البعث و مناهجه، فالرئيسُ الذي ظلَّ يوصَفُ بالقائد الضرورةِ و القائد المرحلة لم يجد حرجاً في الإنتقالِ من ضفةِ العروبةِ التي ظلَّ النظامُ مُدافعاً عنها طيلةَ حكمه، إلى ضفةِ إيران و روسيا راكلاً بقدمِهِ كلَّ ما قدَّمَهُ في وقتٍ سابق لأجيالٍ عاشت تقتاتُ على المنطلقات النظرية و الفكرية التي يُنتِجُها، هذه الحالةُ تضعنا في مواجةٍ صادمةٍ مع الحقيقةِ الضائعةِ، الحقيقةُ التي نراها نقطةً مُتحوِّلةً فينا و معنا في ذات الآن، الحقيقةُ ذات الوجهين التي تلبسُها السلطةُ بحسبِ المناسبة و نراها في كتُبٍ عديدة يُنتِجُها شهودُ زورٌ على الروايةِ المفقودة!

التعليقات (1)

    عبدالصمد محمود

    ·منذ 8 سنوات 5 أشهر
    الرواية مجرد تحوير لافكار رواية جورج ارويل الشهيرة 84
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات