(عنتريات)

(عنتريات)
عندما فاز "حزب الشعوب" الكردي ـ التركي قبل نحو خمسة أشهر في الإنتخابات البرلمانية التركية (الأولية)، اعتبر أكراد سورية ذلك نصراً استثنائياً تاريخياً للقضية الكردية، بل وحتى مقدّمة لنشأة قوة إقليمية كردية قومية ضاربة، خاصة بعد رؤيتهم استقرار أكراد شمال العراق، ومراقبتهم التوسّع السرطاني ل"حزب الإتحاد الديمقراطي" الكردي ـ السوري في شمال سورية وسيطرته على المنطقة إدارياً وعسكرياً.

تباهى أكراد سورية وأظهروا كثيراً من (العنتريات)، وعلا صوتهم على أساس أنهم قوة إقليمية وليدة يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار، وأفرز هذا الفوز (الذي لم يكتمل) نزعات قومية متعالية لدى الكثير من الأكراد الذين يبحثون عن انتماء بعيداً عن (سوريتهم)، بل وأحيا أيضاً لدى البعض، من الأكثر تشدّداً، النزعة الانفصالية التي يحاول معظم السوريين، عرباً وأكراداً، التنبيه من خطورتها على الجميع.

راح قسم من أكراد سورية يؤيدون عدم تحالف هذا الحزب مع العدالة والتنمية، ويشدّدون على أن هذا الأخير سيرضخ لمطالب الأكراد، وسيستسلم أمام نجاحهم الجارف، ويجزمون بأن تركيا لن تُحكم بعد اليوم إلا بمشيئة أكرادها.

تهجّم الكثيرون منهم على أي مُنتقد لهذه النزعات والأحلام والخيالات، ونال كثير من الإعلاميين والمحللين والدارسين والمعارضين السوريين نصيبهم من التقريع من نظرائهم الأكراد نتيجة تحذيرهم من الانجرار وراء هكذا أوهام رغم تقديمهم دلائل من التاريخ والسياسة على خطأ هذا التوجّه.

سرعان ما أصيب الحزب الكردي-التركي بنكسة، وتراجعت مراكزه في الانتخابات (النهائية) كثيراً، وخسر دوراً قيادياً محتملاً في حكومة تركية ائتلافية، وكانت مواقفه درساً وخسارته قاسية للأكراد عموماً ولأكراد سورية على وجه الخصوص، الذين شعروا بالإحباط ربما أكثر من أنصار ذلك الحزب في تركيا، وشعروا أن (القضية الكردية) تلقّت ضربة قوية.

بعد خمسة أشهر من التباهي و"المنفخة"، عاد كثير من الأكراد السوريين لمواقعهم، واعترفوا بأن التحالف مع الحزب التركي الأكبر كان أمراً ضرورياً، تمليه الواقعية السياسية وضرورات التكتيك والاستراتيجيات، وربما لمسوا أن النزعة القومية لأكراد تركيا لا تتشابه في مقوماتها ومتطلّباتها وتركيبتها مع ذلك التعصّب القومي (الطارئ) لدى أكراد سورية، فالانتماء لدى الأكراد في الدول التي يتوزّعون فيها، كتركيا والعراق وإيران، صار أقرب للدولة لا للقومية وحسب، والمؤثر على الرأي هو الأمان والمستقبل والمواطنة والحقوق لا مستوى (التكريد)، فلكلٍّ خصوصيته، والمشتركات بين أكراد تلك الدول أقلّ مما يتوقعه أكراد سورية.

يُخشى أن لا تكون العبرة قد وصلت، وأن تكون القوة الكردية الإقليمية الضاربة أو الدولة المتمرّدة الماردة، أو الكونفدرالية والفيدرالية والتفوّق القومي الشوفيني، مازالت تداعب أفكار وقلوب أكراد سورية، وهذا هو الأرجح.

"الموبقات" التي يستمرّ حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي ـ السوري بارتكابها، ومعه بعضاً من الأكراد المتشدّدين، لا توحي إطلاقاً بأنهم استوعبوا الدرس، فصورتهم كما أفعالهم، تزداد قتامة وسواداً، ويتصرّفون بتطرّف قومي شوفيني استعلائي انفصالي وأحياناً لا أخلاقي، فيسيئون لقضية أكراد سورية العادلة أكثر بكثير مما يفيدوها، وباتوا عاملاً أساسياً لزيادة التعصّب القومي والمواقف التمييزية، ويدفعون السوريين للصدام مع الأكراد.

رفض هذا الحزب شراكة الأحزاب الكردية (على كثرتها)، كما رفض الاندماج مع المعارضة السياسية السورية، عدا هيئة التنسيق التي لم يعد أحد يعتدّ أساساً بثوريتها ومعارضتها، و"موبقاته" كثيرة، كتشكيل ميليشيات انكشارية كما ميليشيات النظام، والسيطرة على مناطق شاسعة من شمال سورية بعد انسحاب "طوعي" لقوات النظام، واختراع "الإدارة الذاتية"، ثم تسمية (الجزيرة السورية) بـ"روج آفا" بالكردية، وإقصاء كل الأحزاب الكردية وكذلك المعارضة السورية، وتعيين "رؤساء" وتشكيل برلمان ثم وزارات ومديريات، وإصدار قرارات ومراسيم "قراقوشية" تفرض كفيلاً كردياً لكل داخل، واعتماد اللغة الكردية للتعليم، ومصادرة الممتلكات الخاصة خدمة لـ(القضية)، وحذف كلمة (العربية) من اسم الجمهورية العربية السورية، وتبديل أسماء قرى وبلدات عربية بأسماء كردية، وتغيير ديموغرافية قرى عربية وآشورية أو تدميرها، وارتكاب ما وصفته منظمات دولية بـ "جرائم الحرب".

على الأكراد أن يدركوا بسرعة، بعد تجربة هذا الحزب، وتجربة أكراد تركيا، أن حلم (كردستان) مدمّر لهم، لأن شروط الواقع لا تجعله خياراً مُتاحاً، وأن أي مشروع كردي ذاتي لن ينجح، ولن يكون إلا تكملة لمشروع السلطات الشمولية، وأن ضمانتهم وضمانة حقوقهم ومستقبلهم يكون عبر دستور سوري جديد، ودولة المواطنة والتعددية والسلطة التداولية المأمولة، وغير ذلك عبث سيقلب التعاطف السوري معهم إلى عكسه، وسيؤدي إلى حروب جانبية لا تنتهي وكوارث لا يُحمد عقباها، الأكراد أنفسهم هم الخاسر الأساسي فيها.

عليهم أن يتذكّروا أن النظام لا الشعب (العربي السوري) هو الذي حرمهم من حقوقهم خلال العقود الخمسة الماضية، وحرمهم من الجنسية، وسلّم عبد الله أوجلان للسجّان التركي، ومنعهم من الغناء بلغتهم، وأطفأ شعلة النوروز، وأن نفس هذا النظام هو الذي أفقر السوريين في دير الزور ودرعا وإدلب وأرياف سورية كلها، وميّز طائفياً واعتقل وقتل على الشبهات، ولم يميّز بين عرب وآشوريين وأكراد، وكان (عادلاً) في توزيع القمع والتعذيب والدمار والتشريد والموت.

على أكراد سورية أن يبقوا في سلّتهم السورية، تلك السلّة التي تتّسع للجميع، لا أن ينساقوا وراء أحلام لا تُسمن ولا تُغني من جوع، فالضامن لهم هم السوريون أنفسهم، وليس أي حليف إقليمي أو دولي مهما كان، فالأقليات دائماً أضعف من أن تبني دولاً ومؤسّسات، فكيف بها أن تبني وطناً، وإن حاولت، سيحكمها الخوف إلى الأبد.

 

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات