السوري الذي تزوج أمي

السوري الذي تزوج أمي
 

كنت أقلّب صفحات الجرائد الألمانية في الإنترنت، عندما لفت انتباهي هذا العنوان:

"السوري الذي تزوج أمي"، للكاتب فريدريش العاني.. لأكتشف أن "السوري" المقصود هو والد الكاتب، وهو الذي جاء إلى ألمانيا للدراسة وانتهى به الأمر بالبقاء فيها والزواج بوالدته الألمانية..

رغم جمالية اللغة وحساسية السرد، لكنَ الكاتب لم يسمِ والده ولا مرةً باسم "أبي"، ولم يكشف عن اسمه إلا في النهاية عندما كتب:

"علي"، هو اسمه أو هكذا كانوا ينادونه، دون أن يخافوا منه أو يخاف هو منهم أو من كلابهم...

فمن هو علي العاني؟

دكتور علي العاني:

سأعترف منذ البداية أنني شعرت بحبّ تجاه هذا الرجل، الذي فارق الحياة قبل ثلاث سنوات، تاركاً وراءه ابناً، ربّما لا يعرف والده جيداً، لكنه في بحثه عنه وفي كتابته لهذا النصّ، إنّما يبرهن عن حبّ غامض وإعجاب خفيٍ بأب ليس كباقي الآباء..

يصف الكاتب نفسه بأنه الإبن الشرعي لغريبين: أمٍّ ألمانية مهجَّرة وأب سوري، التقيا صدفة في قرية ألمانية بافارية نائية، فأنتجا مواطناً بافارياً صغيراً، يتقن لهجة سكان القرية، يرتدي ثيابهم التقليدية في الأعياد، ويشرب البيرة مثلهم في كؤوس كبيرة، بل يذهب أبعد من هذا في اندماجه ليقف مدافعاً عن مرمى فريق كرة القدم القروي...

ولكن يبقى شيء ما عصيٌ على الاندماج، شيءٌ لا تراه العين ولا يمكن اختصاره فقط بلون البشرة الأقرب لسمرة الأب، بل ربما في مجرى الدم الذي يصبُّ في وينبع من مكان بعيد اسمه "دمشق"...

دمشق التي لا يعرفها الكاتب، ولكن يسمع لكنتها المغنّاة في صوت أبيه، عندما ينزوي في غرفة جانبية ويتّصل بأهله هناك...

فيستمع فريدريش الطفل ثم الشاب بمتعة لتلك الموسيقا التي تأتيه من الغرفة المجاورة، دون أن يفهم معنى الكلام ودون أن يجرؤ على سؤال والده عن فحواه، ودون أن يسأله حتى: لماذا لم يعلّمه لغة الأجداد؟

ربما ليعفي نفسه وليعفي والده من قسوة الجواب...

علي العاني أو "الدكتور علي"، كما اعتاد سكّان القرية على تسميته، هو طبيب القرية الناجح، أتقن الألمانية كأبنائها، واعتاد الاستماع إلى مرضاه، وقتاً طويلاً كافياً لإيجاد العلاج الناجع، وإن كان العلاج هو مجرّد الاستماع إليهم إلى ما لا نهاية...

أما في البيت فكان "الدكتور علي" يلوذ بالصمت، لا يتكلّم كثيراً عن بلاده، ولا يتكلّم لغة بلاده مع أحد... يحتفظ بها لنفسه وكجسر يصله بأهله هناك... جسر يبدو أنّه أراده سرياً حتى عن ابنه فريدريش... فبات هذا الأخير معلّقاُ بين مكانين، مكانين لا يفترض بهما أن يتّصلا...

ولكن هل تبنّى الجسور في النهاية إلا لكي تربط الأمكنة المفترض بها أن تكون بعيدة ومتباعدة؟

وكلما كان "البافاري الصغير" يكبر أكثر، كان اهتمامه بشباك المرمى يخفت ليزداد اهتمامه بالثقافة أكثر، وكلما كبر أكثر، كلما خفتت حدّة لهجته البافارية دون أن يتمكن من لفظ كلمة عربية واحدة في المقابل...

يتذكّر فريدرش والده دائم القلق، يراقب عقارب الساعة خائفاً من أن يمرّ الوقت سريعاً ويأتي وقت مغادرة الابن المشغول والمستعجل دائماً...

إلا أن الحياة منحته في النهاية وقتاً طويلاً ليبلغ الثمانين، دون أن تمنحه الوقت الكافي ليتعرّف ابنه عليه كما يجب، ولكي يسمّيه على الأقل بـ"أبي"!

اليوم يقف فريرش مدافعاً عن اللاجئين السوريين القادمين إلى ألمانيا، وجوهٌ تذكّره بوجه عزيز على قلبه، وجه أبيه الذي يأتيه كثيراً في مناماته بعد أن وُري أبيه التراب، يقول فريدريش:

"اليوم يخطر ببالي أن أسأل "سوري أمّي" عن شعوره وهو يرى أبناء جلدته يعاملون بعنصرية من قبل بعض أبناء الجيل الذي استقبله يوماً بذراعين مفتوحتين، وقدّم له الدراسة والعمل والعائلة... اليوم يأتيني صوته باكياً في مناماتي... حشرجات من الأسى على وطنه الأول الذي يؤكل أبناؤه، وعلى وطنه الثاني الذي يغلق الأبواب أمام الهاربين من الجحيم...

اليوم يخطر ببالي أن أسأله إن كان سيختار البقاء والموت هنا... لو كان يملك الخيار من جديد..."

أشباه علي العاني في بلاد الاغتراب:

مع أنني لم أعرف "الدكتور علي العاني" شخصياً، ولكنني عرفت كثيراً من الرجال المشابهين له في بلاد الاغتراب...

لاجئون قدامى، لا يشبهون لاجئي اليوم، فهم في غالبيتهم قدموا للدراسة ثم وجدوا الحب والعمل... وصارت البلاد الجديدة أوطاناً ثانية لهم، اختاروا البقاء ربما لأسباب اقتصادية أو بدافع العائلة الوليدة، وغالباً هرباً من أوطان لم تستطع الاحتفاظ بهم أو المحافظة على كرامتهم وانسانيتهم فيها...

خيارهم بالرحيل عن الوطن الأم والبقاء في الوطن البديل مختلف عن خيار لاجئي اليوم، الذين لا يملكون أمام الموت في أوطانهم أيّ رفاهية في اختيار الأوطان البديلة...

وهم كما علي العاني غالباً ما يعيشون، رغم اندماجهم الكامل، غرباء بين الجدران الأربعة لمنازلهم...

فاللغة الأم لا تتقنها الزوجة ولا الأولاد، ومذاق الأطعمة الشرقية لا تألفه شفاههم، وكما علي العاني يتكلمون لغتهم الأصلية، كمن يمارس العادة السرية، منزوين في غرف جانبية مع سمّاعة الهاتف في اليد وصوت الأهل القادم من بعيد...

وكما ابنه "فريدريش" يعاني الكثير من أبنائهم أزمة هوية.. فهم يحملون أسماء عوالم شرقية، لا يعرفونها أو يتقنون لغة التواصل معها...

كثيرون يحاولون بعد فوات الأوان، البحث عن الأب ولغته ووطنه، محاولات قد ينجحون فيها في العثور على فتات آباء وأوطان...

فالأوطان لا تُكتشف بل تُعاش، والأبناء في النهاية لا ذنب لهم في خطأ آباء فشلوا في مدّ الجسر بين الأبناء والأوطان الأصلية...

وينتهي الكثير من هؤلاء الآباء غريبي الوجه واللسان في أوطان نجحت في منحهم جنسيتها ولكنها لم تستطع أن تمنحهم روحها...

يموتون ويتركون وراءهم أولاداً معلّقين مع كثير من الأسئلة، وكأنّ الأشجار لا تزهر إن لم تستقم فوق جذور عميقة....

الجميل في نصّ فريدريش العاني أنّه رغم لغته الألمانية الصارمة، نصّ دافئ وحنون، وكأنّه مكتوب بلغة الأب، وهي إن لم تكن العربية، فهي لغة القلب، التي لا جنسية لها ولا وطن محدّد.

التعليقات (10)

    محمد جميل خضر

    ·منذ 8 سنوات 5 أشهر
    مقال يدخل القلب لأنه كُتِبَ بلغة القلب

    محمد - كويت

    ·منذ 8 سنوات 5 أشهر
    كلام من صميم المشاعر في القصص الواقعية المعبرة التي يكثر صداها في هذه الايام والله المستعان

    محمد ملص

    ·منذ 8 سنوات 5 أشهر
    أتوجه بتعليقي إليك آية ! فهذه الحكاية الحساسة جدا وعميقة ومؤثرة وهي راهنية بتعليقك عليها . تستحق ان تكون فيلما تحقيقينه أنت او تسعين ليحققه ألماني ما . ولعل علي ( اظن شقيقك ) يساعد بذلك وهي حكاية خاصة وتستحق وليت هذه الرغبة لاتهمل .

    Apo dalal

    ·منذ 8 سنوات 5 أشهر
    جميلة لغة القلب التي اكتشفتيها أحب ما تكتبين شكراً من القلب لكي أستاذة

    Apo dalal

    ·منذ 8 سنوات 5 أشهر
    جميلة لغة القلب التي اكتشفتيها أحب ما تكتبين شكراً من القلب لكي أستاذة

    آية الأتاسي

    ·منذ 8 سنوات 5 أشهر
    شكراً محمد...هي فعلاً حكاية مؤثرة وحساسة جداً، وتستحق أن تعالج بعمق ...ولكن أعتقد أن مخرج ألماني لا يستطيع أن يفهم حساسية وتشعب هذا الموضوع...وعلي أخي طبعاً، لكن أظن أن مخرج حيادي سيكون أفضل...فالسينما كالسياسة لا تحتمل العلاقات العائلية... أتخيل أن الفكرة ستكون بأيدي أمينة إن حطت بين يديك وأنا مستعدة لأي استفسار أو سؤال..محبتي

    سوري مغترب

    ·منذ 8 سنوات 5 أشهر
    انني اراها بشكل مختلف لأنني عايشتها فنحن المسلمون بشكل عام و العرب بشكل خاص نخجل من هويتنا و نشعر بالنقص جانب الأخرين اتعرفون لماذا !!!! لأننا لم نعرف عظمة الأسلام او العروبة و لم نستغل نجاحنا لنظهر للعالم اننا نستحق الأحترام , انني لا اعذر اية مغترب مسلم ان يتنصل ممن هو

    ahmad rami

    ·منذ 8 سنوات 5 أشهر
    i am sorry my labtop has no arabic keyboard. i feel sorry for Ali as long as i feel sorry for myself. i have only read your article. it is interesting one should read it. it is a new vision for those who came newly and were obliged to flee their homes into noplace. are we going to live as strangers here? I like the country happened to me to come to it. in fact i feel this to some extent. i left half of my heart in Al-Cham, the other half i left for another tragedy, for Palestine.

    مرام كنعان

    ·منذ 8 سنوات 5 أشهر
    تحياتي اذا احدا يعىف ايميل او هاتف اوعنوان السيد فريدرش اكون شاكر ة له -انا من اقرباء والده وأعيش في برلين ربما افيده ببعض المعلومات وشكرا

    Ibrahim alfalah

    ·منذ 8 سنوات 5 أشهر
    اختلف الزمن والظرف ربما يعتقد الإنسان السوري انه بوصوله إلى أوروبا قد حقق شيئا كبيرا وتختلف الطموحات حسب قدرة التفكير بالمستقبل القادم . فمن الناس من هو على قدر الطموح ومنهم ليس كذلك لان من وصلوا ليس بدرجة واحدة وليس بقدر تفكير متساوي. ولكن هناك متميزون وهناك درجات أخرى . بالمقارنة بالزمن الماضي فكان لا يصل إلى أوروبا الا المتميزون . وكانت أوروبا تستغل هذا الشيء لصالح أوطانهم . وعلى ما اعتقد الآن كثير من المتميزون قد وصلوا ولكن يجب ان يتعلموا لصالح وطنهم . والذين أقل درجة يجب أن يحسنون التفكي
10

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات