بوتين وسياسة دعم الرؤساء

بوتين وسياسة دعم الرؤساء

 

حاول الكثيرون فهم أسباب تدخّل روسيا في سورية ووقوفها إلى جانب النظام ومراهنتها عليه رغم يقينها بحتمية زواله، وبحثوا عن أسباب مجازفتها بالتدخّل العسكري خارج حدودها وتحدي الغرب للدفاع عن نظام مارق بالعرف الدولي، وعن مبررات استخدامها أكثر الأسلحة تطوراً وتدميراً لقصف المدنيين السوريين المساكين ومناطق سكنهم الهشّة التي يمكن أن تنهار بأقل من ذلك بكثير.

توصّل المحللون والسياسيون والإعلاميون لاستنتاجات عديدة، فمنهم من اتهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بجنون العظمة والسعي لتنصيب نفسه قيصراً من جديد من خلال عبثه بواحدة من أكثر الأزمات تعقيداً ودموية في العالم، ومنهم من افترض وجود مصلحة جيو ـ سياسية للهيمنة على قرار الشرق الأوسط كمركز توازن استراتيجي عالمي، وبعضهم توصّل إلى أن روسيا تسعى لفرض نفسها كقوة كبرى من جديد من خلال السيطرة العسكرية على الشرق الأوسط بعد أن أفل نجمها، ومنهم من رأى أن الأسباب اقتصادية تتعلق بمصالح روسيا في قطاعات الغاز والنفط وطريق التجارة العالمية.

بسبب تعقيدات الملف السوري وكثرة أطرافه الإقليمية والدولية وتناقضها، يمكن الإبحار بعالم واسع من الاستنتاجات السياسية والاقتصادية والعسكرية، أكثر عمقاً مما سبق أو أكثر سطحية، ويمكن إضافة تأثيرات اجتماعية وسكانية ودينية، وبالمقابل يمكن المغامرة والوصول للأسباب انطلاقاً من معرفتنا لسياسة القادة الروس خلال العقدين الأخيرين.

قبل عقدين من الزمن حكم روسيا بوريس يلتسن لأربع سنوات، طرد خلالها رجال السلطة التقليديين وأجرى تغييرات اقتصادية زادت من إفقار الشعب الروسي وحوّلت روسيا لمصنع للمافيات الدولية ومفرّخة للفساد، وبعد أن اطمأن لبدء خراب البصرة سلّم الرئاسة تسليماً لتلميذه فلاديمير بوتين على أن لا يحيله إلى المحاكمة طوال حياته.

حكم بوتين روسيا عقداً ونصف، مباشرة أو عبر وسيط خلّبي (هو ديمتري مدفيدف زوج أخته)، كان خلالها صاحب العضلات المفتون بجماله و(دنجوانيته) داعماً لـ (أسوأ السيئين في العالم) وفق معايير المنظمات الدولية السياسية والإنسانية والحقوقية، ويقول بعض المراقبين أنه كان ديكتاتوراً لا يرحم حتى أصدقائه، وبحث خلال حكمه عن كل الحكّام الديكتاتوريين الخطأة المستبدين في العالم، وصادق أصحاب أسوأ ملفات حقوق الإنسان، وتعامل اقتصادياً مع الحكام الأكثر فساداً وقمعاً في بلدانهم.

هذه ليست توصيفات مجازية أو تجنّي على الرجل، لأن تاريخه المكتوب يقول ذلك، والأمثلة أكثر من أن تُحصى، وتحتاج لدراسات نفسية وسلوكية، تفكيكية وتركيبية لفهمها، ولن تستطيع كل عمليات التجميل التي أجراها الرجل ليزيل آثار الزمن أن تمحي آثامه، فقد كانت سياساته سبباً شبه مباشر لإفقار وتعذيب وإذلال الكثير من الشعوب لصالح حكام ادّعوا الثورية لتغطية خياناتهم.

خلال خمسة عشر عاماً، دعم بوتين الزعيم الكوري الشمالي الأكثر دموية كيم جونغ أون، صاحب مبدأ عبادة الفرد، وشطب ديونه على روسيا، وموّل له مشاريع أنقذته من عقوبات دولية، كما دعم الرئيس التركمانستاني الأكثر نرجسية كربان محمدوف،الذي أعاد تسمية أشهر السنة وفقاً لأسمه وأسماء عائلته، ومارس قمعاً واستبداداً قل نظيره، ودعم أيضاً الرئيس الأوزبكستاني إسلام كاريموف، الذي منع الأحزاب وبنى السجون وملأها بالمعارضين واتهم بالإرهاب كل من فتح فمه بكلمة ضد نظامه.

صادق بوتين رئيس زيمبابوي روبرت موغابي الذي حكم 38عاماً تحوّل خلالها من مناضل ضد الاستعمار إلى مستبد،وسارق صاحب حسابات مصرفية مُتخمة بأطنان من الذهب، وفي الصين دعم شي جين بينغ صاحب أكثر الجيوش فساداً في العالم، الذي ضخّ مليارات في سوق غسل الأموال، واتفق معه (خطّياً) على قمع أي حركات تمرد داخلية يمكن أن يتعرض لها، كما دعم بحب الرئيس الغيني تيودورو مباسوغو الذي يملكوأسرته كل الاقتصاد الغينى بينما يعانى شعبه من فقر مدقع ويعيش دون ماء وكهرباء منذ عقود، وفي فنزويلا دعم الثورجي المزعوم هوغو تشافيز، الذي سجن كل زعماء المعارضة، ومدد لنفسه الرئاسة إلى الأبد، وفي بيلاروسيا تبنّى ألكسندر لوكاشينكو، رجل المخابرات الفاسد المُفسد، صاحب لقب (آخر دكتاتور في أوروبا)

لم تبخل بوتين بدعمه عن معمر القذافي، ملك ملوك أفريقيا وصاحب الكتاب الأخضر المُضحك وأبو الدولة البوليسية، وأنقذه مراراً من عقوبات دولية قاسية، والأمر نفسه ينطبق على علاقة ساكن الكريملين بحكام العراق الجدد، الذين يُنظر إليهم على نطاق واسع بأنهم فاسدين وطائفيين، وتنطبق نفس العلاقة كذلك على حاكم السودان عمر البشير المصاب بداء العظمة والمتهم بارتكاب جرائم حرب ضد شعبه، وعلى علاقته بالمخلوع الطاغية صالح في اليمن، النسخة اليمنية عن الأسد، الذي نهب البلد مع أسرته ثم باعها لإيران التي صادقها بوتين وعانق آيات الله فيها أصحاب النووي غير النظيف، متعهدي التطرف والإرهاب العالمي.

هذه أمثلة للأنظمة التي دعمها بوتين خلال حكمه، والتي يمكن ـ دون مبالغة ـ أن تملأ مجلدات، وهذه النماذج يمكن أن تُسهّل علينا معرفة سبب دعمه للنظام السوري، أباً وابناً، فالقيصر الجديد ببساطة رجل حساس تجاه العلاقات الشرعية الدولية البناءة، لا يستطيع مقاومة المستنقعات ذات الرائحة الصدئة، يهوى من يهوى العنف والدماء، ويعشق من يعشق نهب الشعوب وإذلالها، ويُسرّ لرؤية كل طاغية مارق، إنها ببساطة مسألة مرض نفسي يحمله كل حاكم ديكتاتوري نرجسي في العالم.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات