المخابرات السورية وإعادة الهيكلة

المخابرات السورية وإعادة الهيكلة

أقر بيان فيينا حول الأزمة السورية الذي عُقد منتصف الشهر الماضي ومن بعده القرار الدولي الذي صدر قبل أيام حول الأزمة السورية بنداً أساسياً يتعلق بضرورة الحفاظ على مؤسسات الدولة السورية، وهذا الأمر يعني ضمناً مؤسسات الأمن والجيش، وهما مؤسستان إشكاليتان للغاية، لكن الغريب أن البيان والقرار أبقيا البند غامضاً ضبابياً عن عمد على الرغم من الحاجة المُلحّة لتوضيح مصيرهما بالتفصيل، خاصة وأن السوريين يرون أن المؤسسات الأمنية هي ذراع القمع والفساد قبل الثورة والقتل والتنكيل بعدها، وهي سبب كل مصائب البلد خلال خمسة عقود، وأن الجيش مؤسسة منهارة ورّطها النظام بقتل الشعب.

ورغم مطالبة المعارضة السورية في كل مشاريع حلول الأزمة السورية أن يتم حل الأجهزة الأمنية وإعادة بناء الجيش أو هيكلته، وتأكيدها على أن أي خطوة تجاه الحل السياسي لن يُكتب لها النجاح بوجود هاتين المؤسستين، إلا أن الدول الكبرى تُصرّ على بقائهما والحفاظ عليهما بحجة أن حلّ الجيش والأجهزة الأمنية سيُدخل سورية بحالة من الفوضى وعدم الانضباط، وقد يقود لحرب أهلية طاحنة.

هذه الأسباب المُعلنة ينفيها الواقع، فالجيش غير قادر على حماية نفسه حتى يحمي السوريين، والأجهزة الأمنية هي التي مارست منذ اليوم الأول للثورة حقداً مجتمعياً دينياً مذهبياً منفلتاً كان السبب المباشر بظهور كل الكوارث خلال السنوات الخمس الأخيرة وبالتالي لا يمكن أن يحمي وطن من أي نوع.

في الحقيقة هذه النظرية مع تعديل كبير يمكن أن تصلح مع الجيش حتى لا تتكرر تجربة العراق وليبيا التي كان لحل الجيش فيهما نتائج غاية في السلبية أدخلت البلاد بحالة من الفوضى وغياب السلطة الحيادية التي يمكن أن تضبط كل الأطراف، لكن من الضروري إعادة هيكلة هذا الجيش، وهذا لا يعني بناءه من الصفر، بل أن يبقى بوضعه الحالي مع استبعاد مجموعة من الضباط الذين أعطوا أوامر القتل ومارسوا عنفاً مفرطاً أو ارتكبوا جرائم حرب، وينضم لهم كل المنشقين عن الجيش والكتائب الثورية غير المتشددة، ليُصار لإعادة الهيكلة وإعادة توزيع القيادات بما يضمن عدم قدرة الطائفة العلوية على السيطرة على الجيش من جديد مع مشاركتها فيه بنسبة متوازنة، وهذه الفرضيات واقعية ومنطقية.

بالمقابل، لا تصلح هذه النظرية إطلاقاً مع الأجهزة الأمنية والمخابرات، ولا يمكن اختراع أي تبرير منطقي للحفاظ على هذه المؤسسة المُلوّثة من رأسها لأخمص قدميها، وبالتالي يجب البحث بالعمق عن أسباب إصرار الدول الكبرى على الحفاظ على هذه المؤسسة، وبقليل من العناء لاستقصاء المعلومات يمكن التوصل لاستنتاجات بهذا الصدد.

المؤسسة الأمنية في سورية تضم فروعاً متعددة للمخابرات، مركزية ولا مركزية، يعرف الغرب أنها خلال خمسة عقود شاركت بصناعة التطرف وتنشئته وتحريكه وإخفائه، ونسجت شبكة من العلاقات غير النظيفة مع أطراف من المافيا الإقليمية والدولية، وانتهكت خصوصيات وأسرار السوريين وكثير من اللبنانيين والعراقيين، ودخلت جحوراً وحفرت أخرى لرجالها وعملائها، وعقدت صفقات مريبة وتبرأت منها، ودعمت جهاديين وخانتهم، ووظفت عملاء وباعتهم، وبات لديها عبر عقود بنك معلومات متضخم يعتبر ثروة للدول الكبرى يمكن لهم من خلاله حل الكثير من الألغاز وكشف أسباب الكثير من المشاكل والأزمات في المنطقة، ومعرفة مرتكبي الاغتيالات وداعمي التشكيلات المتطرفة وتركيباتها.

تمتلك المخابرات السورية كماً لا يُستهان به من المعلومات، فهي تعرف كل شيء عن كل سوري، حيث كان هناك أكثر من ثلاثمائة ألف عنصر مخابرات لا عمل لهم إلا مراقبة الشعب ورصد كل كلمة وهمسة يقولها وكل حركة ولفتة يفعلها، وتعاملت مع تجار أسلحة وممنوعات وحروب ومرتزقة من كل نوع إقليمياً ودولياً، وحمت عصابات إجرام وفساد، وراقبت المساجد وزرعت العملاء فيها، ودعمت حركات متطرفة وشاركت بتأسيسها، وأقامت علاقات حميمة وعضوية مع تنظيمات جهادية وأخرى إرهابية، وتعرف كل من فيها فرداً فرداً، ماذا يأكل وأين يقيم وماذا يحب بل وربما تعرف عدد شعرات رأسه.

لا تريد الدول الكبرى أن يضيع كل هذا الكنز عليها، كنز سيحل لها (شيفرة) الكثير من القضايا العالقة التي شغلتها طويلاً ولم تجد لها حلاً، قضايا تتعلق بالإرهاب الدولي والإرهابيين والتنظيمات الجهادية وغير الجهادية والسلاح وممراته، ومن يحصل عليه ومن يبيعه وأين يُخزّن، ومن هم الخونة والجواسيس، وكيف صُنعت النصرة وتنظيم الدولة الإسلامية وكتائب أخرى متطرفة، ومن هو الجولاني ومن هو البغدادي، ومن يُجنّد الجهاديين الأوربيين وكيف يصطادهم، وما علاقة شيشان سورية بالنظام الروسي، وما هي أسرار زعماء لبنان والعراق، وتفاصيل العديد من العمليات التخريبية في اليمن والبحرين والعراق وليبيا ولبنان، ومن اغتال العشرات من القياديين العرب، وغيرها الكثير من المعلومات الثمينة التي تمتلكها هذه الأجهزة باعتبارها شريكة بكل ما سبق، وربما لهذه الأسباب تستمر الكثير من الدول بالتواصل حتى اليوم معها، مباشرة أو عبر وسطاء، لحل بعض الغموض مقابل بعض المكاسب للنظام.

يعرف الروس ومن قبلهم الأمريكيون أن بقاء هذه المؤسسات بصيغتها الحالية لن يوصل أي حل سياسي في سورية لبر الأمان، ولن يُحسّن الأوضاع قيد أنملة، وأن إعادة هيكلتها أمر حتمي، لكنهم ربما يبحثون عن الآليات التي تضمن بقاءها وتفرض بنفس الوقت القدرة لإعادة هيكلتها بهدوء، ومن من رجالها يبقى ومن يغيب، وكيف سيتم سحب الكنز من يديها بالتدريج، لكن هذه الطريقة من المعالجة ستؤخر الحل السياسي كثيراً جداً، لأن المؤسسة الأمنية السورية متجذرة ومنغلقة وطائفية ومتماسكة لحماية نفسها، مرنة ومتحولة ومتلونة لا يمكن أن يوثق جانبها، وفي الغالب ستكتشف هذه الدول متأخرة أن الإطاحة بها والاستغناء عن الكنز هو الحل الممكن الوحيد.

التعليقات (5)

    احمد خالد

    ·منذ 8 سنوات 4 أشهر
    أصبت جزءاً من الحقيقة برأيي المتواضع هذه الأجهزة هي اصغر من ان ترتكب جريمة واحدة الا بإذن ساداتها من قم الى موسكو الى باريس ولندن وبرلين وواشنطن وتل ابيب هم ينفذون تعليمات ولكن كما قلت سترمى في النهاية لان العميل لا قيمة له

    نكتة معبّرة عن عراميش المخابرات العربية والسورية خصوصا

    ·منذ 8 سنوات 4 أشهر
    نسجها السورييون أيام الأب القائد ـ بالمناسبة التسمية بأب مُهينة للأمهات السوريات ـ فلو قيل العم أو الخال نصف مصيبة ـ على أيحال إليكم النكتة: تنافست مخابرات العالم بإطلاق 3 أرانب من يجد الأرنب بالأول ينال الجائزة الكبرى فبخلال عدة ساعات تمكنت مخابرات الروس و الأمريكان من إلتقاط الأرنببين أم المخابرات السورية مضى أكثر من أسبوع على إختفاءها فدفعهم الفضول للبحث فوجدوا عناصر المخابرات السورية بأحد الوديان يَسُومونَ اً بشتى أنواع العذاب قائلين له: إعترفْ بأنك أرنب إسألوا ماهر عرار؟

    الضابط العربي عموما و السوري خصوصاً

    ·منذ 8 سنوات 4 أشهر
    يركب مرسيديس وله عدد من الخدم ويزيّن الطابق أو البناء الذي بقطن فيه فيبدو مثل العين المقلوعة بتباينها عمّا حولها لا يستحي على حاله يبني فيلّا في قريته ليجاكر رفاق طفولته ـ كرشه أمامه ـ تراه كتلة من الغباء المُستحكم ـ لا يُسائل عن وفيّات المُجنّدين تحت إمرته إلا إذا تجاوز عددهم الثلاثين يظن نفسه أنه يعلم كل شيء و أبو العُرَّيف أقذر فئة بشرية البُعد عنهم غنيمة وما نشاهده من تديين الثورة السورية ماهو إلا نتيجة معاهد الأسد ومشايخه الموظفين بالأوقاف

    اللي عنده عَشِّي ليش يزفّر إيديه؟

    ·منذ 8 سنوات 4 أشهر
    الأذكياء النادرون في المخابرات يعملون عَشَّايين لدى من يدفع أكثر أكان تاجرا أم صاحب مصنع أم سفير لدولة صديقة أم معادية عناصر المخابرات حثالات المجتمعات العربية والذي يقبل على نفسه أن يخدم فيها يكون كمن غدر بعِرْضِهِ ـ فإنسان يغدر بذات عِرضه و يظلم نفسه لغباءه يكونُ أقدر على ظلم وتمزيق أعراض الآخرين

    مازن

    ·منذ 8 سنوات 4 أشهر
    والله ظننت ان الكاتب يكتب عن ال C I A التي تعتمد العلم والتقنين والعلاقات القويه مع مخابرات العالم او اي مخابرات عالميه محترمه وليس عن اغبياء مجرمون يعتمدون التعذيب واتهام الناس وتلبيسهم التهم وتوريطهم في أشياء لم يفعلوها
5

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات