لا يتوقف الحديث حاليّا عن موضوع التغيير الديموغرافي في سوريا، و ذلك بسبب ما تمّ في الكثير من المناطق السوريّة من تهجير لسكّانها عبر الإحتلال العسكري المباشر على نموذج بلدة القصير، أو بأماكن أخرى من سوريا عبر القصف و التدمير الشامل، و منع كل وسائل الحياة عن هذه المناطق لدفع من تبقّى حيّا من سكانها لمغادرتها كما نرى في كل المناطق المحرّرة .
لكنّ الحقيقة أنّ التغيير الديموغرافي بحاجة لعشرات السنين حتّى يحدث و يستقرّ , كما أنّه بحاجة لعنصر بشري كافي يستوطن المناطق الّتي يتمّ إخلاءها , بالإضافة إلى تأمين حماية هذه المناطق بشكل دائم حتّى يتمّ إعمارها و إستثمارها . لا يملك النظام السوري و حلفائه لا الوقت ولا الإمكانيّات و لا العنصر البشري لتحقيق ذلك. و الّذين يتحدّثون عن التطهير العرقي و التغيير الديموغرافي يشيرون إلى أنّ هذه الأمور حدثت في السنوات الأخيرة و بفعل مضاعفات الثورة السوريّة . لكنّ متابعة الوقائع و العودة للماضي تقودنا إلى إستنتاجات مختلفة، و هي أنّ عمليّة التغيير الديموغرافي كانت تحدث بشكل يومي طوال الثلاثين عام الّتي سبقت الثورة السوريّة و لكنّ الثورة هي التي أوقفتها .
في نهاية السبعينات من القرن الماضي و مع تصاعد موجة الإحتجاجات الشعبيّة ضدّ حكم آل الأسد و الّتي شملت أغلب مناطق سوريا، أدركت هذه العائلة أنّ سبيلها الوحيد للإحتفاظ بالسلطة سيكون عبر ضمان ولاء الطائفة العلويّة و تحويلها إلى حرس خاص لهم , لكنّ مشكلة كبيرة واجهت عائلة الأسد و هي أنّ الطائفة العلويّة كانت تشكّل في بداية السبعينات بحدود 7- 8% من عدد السكّان فقط و هذه النسبة غير كافية حسب رأيهم لضمان إستمرار سلطتهم لفترة طويلة فقاموا بشكل مقصود بمجموعة من المحاولات لرفع هذه النسبة , إبتدأوا بتقديم كل التسهيلات لعلويي تركيّا و لبنان للحصول على الجنسية السوريّة , لكنّ إنخفاض مستوى الدخل في سوريا بالمقارنة بلبنان وتركيّا بالإضافة لنمط النظام الأسدي المغلق خفّف من جاذبيّة هذه التسهيلات و جعلها تقتصر فقط على من لديهم مشاكل معيشيّة أو قانونيّة في بلدانهم , و في عام 1981 أنشأ جميل الأسد جمعيّة المرتضى و الّتي عملت على نشر المذهب العلوي في مناطق واسعة من سوريا بما فيها المحافظات الشرقيّة و أرياف حماة و حمص وحتّى ببعض أحياء مدينتي دمشق و حلب بذريعة أنّ هذا هو المذهب الأصلي لسوريا قبل أن يفرض العثمانيّون المذهب السنّي على حسب إعتقادهم !!, أمّا رفعت أسد فقد كان له إجتهاداته الخاصّة في هذا الموضوع حيث كان يتكفّل بمصاريف زواج الكثير من جنوده "و هم من طائفة واحدة كما هو معروف" مع منح حوافز للإنجاب , بالإضافة لدفع أصحاب البنية القويّة منهم لتعدّد الزوجات و كثرة الإنجاب مقابل مكافأت ماليّة !! كان يفكّر بعقليّة من يملك مزرعة ثيران و كان الهدف الوحيد من هذه المجهودات زيادة عدد "جنود الأسد".
و من ناحية أخرى فأنّ الكثير من الأزمات المعيشيّة و الإقتصاديّة و التضييق الأمني الّتي شهدتها سوريا، في تلك الفترة، ترتّب عليها إرتفاع نسبة الهجرة عند مكوّنات الشعب السوري الأخرى , و نتيجة لمجمل هذه العوامل و غيرها فقد إرتفعت في الواقع نسبة العلويين إلى 10-11%من مجمل السكّان قبيل إنطلاق الثورة السوريّة .
ضمن نفس خطّة عائلة الأسد للتغيير الديموغرافي قاموا بإنشاء قطعات عسكريّة كبيرة و حديثة التسليح و صافية من ناحية التكوين الطائفي، بداية من سرايا الدفاع و سرايا الصراع و إنتهاءاً بالحرس الجمهوري , أمّا باقي القطعات العسكريّة و أجهزة الأمن فقد كانت الأغلبيّة المطلقة من ضبّاطها و صف ضبّاطها المتطوّعين أيضا من نفس الطائفة، و كانت وجهتهم الرئيسيّة للإقامة بأمكنة تواجد قطعاتهم العسكريّة و خاصّة في مدن اللاذقيّة و طرطوس و حمص و دمشق، و بعد سنوات معدودة وجدت هذه المدن نفسها محاطة بأحياء جديدة ذات لون طائفي واحد , من الأمثلة في دمشق : السومريّة في الجنوب و عش الورور في الشمال و سكّانهما بالكامل من العلويين و بجوارهما المزّة 86 من الجنوب و ضاحية الأسد من الشمال و أغلبيّة سكّانها المطلقة من نفس الطائفة , بالإضافة للأحياء المرتبطة بالقطعات العسكريّة كمساكن الحرس و جنود الأسد وغيرها الكثير و كلّها صافية تماما من الناحية الطائفيّة , هذه مجرّد أمثلة فلا مجال لتعداد كل المناطق و الأحياء , و لا ننسى عمليّات الشراء الّتي قام بها لصوص نظام الأسد لبيوت و فيلّات بأغلى أحياء دمشق من الأموال الّتي نهبوها من الشعب السوري عبر السنين. نفس هذه الأمثلة الّتي نذكرها عن دمشق تنطبق تماما على مدن الّلاذقيّة و طرطوس و حمص و بنسبة أقل المناطق الأخرى . و من خلال عمل 90% من سكّان الأحياء المذكورة في الجيش و الأمن نستطيع تصوّر الحاجز النفسي الّذي يفصلهم عن باقي سكّان المدن المذكورة الأصليّين . و رافق ذلك أيضا الإستيلاء على الكثير من الأراضي الزراعية و أراضي أملاك الدولة في جميع المناطق و المحافظات لحساب أطراف متنفّذة أيضا من نفس الطائفة.
في عام 1979 قامت الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران و نشأ تحالف فوري بين النظامين السوري و الإيراني كانت طبيعته طائفيّة صرفة رغم محاولات تغطيته إعلاميّا و خطابيّا بشعارات "محور المقاومة" . أعقب قيام هذا التحالف الطائفي نقطتين , الأولى إجراء بعض التعديلات على المذهب العلوي في سوريا تقرّبه أكثر من المذهب الشيعي . و رغم أنّ إدخال بعض التعديلات و القيام بإجتهادات على المذاهب و الأديان موضوع طبيعي و حدث كثيرا عبر التاريخ لكن النقطة الغريبة في المثال السوري أنّ من دفع بإتّجاه إجراء هذه الإجتهادات "كما قيل وقتها" لم يكن رجال الدين العلويين كما هو المفروض، بل مسؤولي الأمن و تحديدا اللواء محمد ناصيف بتوجيه من عائلة الأسد !! و كان الهدف من هذه العمليّة أن يستند حكم هذه العائلة على حليف إقليمي .
و النقطة الثانية هي إنطلاق حملة إيرانيّة لنشر التشيّع في سوريا ترافقت مع بعض الحوافز و الإغراءات الماليّة . كانت نسبة الشيعة في سوريا بحدود 1% عام 1970 و يسكنون في مناطق محدودة و معدودة و كانوا يسيرون بإتّجاه الذوبان في محيطهم الواسع , لكنّ الثورة الإيرانيّة و الحرب الأهليّة اللبنانيّة و الإعتداءات الإسرائيليّة على جنوب لبنان الّتي أدّت لنزوح كبير بإتّجاه سوريا و كذلك تطوّرات الوضع الداخلي في العراق مع نزوح مماثل للكثير من العراقيّين لسوريا , كل هذه العوامل مجتمعة أدّت لتغييرات كبيرة داخل سوريا , فمثلا بلدة جرمانا قرب دمشق، و الّتي كان عدد سكّانها بضعة عشرات من الآلاف أغلبهم من الدروز و المسيحيّين، تحوّلت في التسعينيات إلى مدينة يقطنها أكثر بكثير من نصف مليون شخص، يغلب عليها الطابع العراقي من ناحية اللهجة و المطاعم و التسميات، و من الناحية المذهبيّة يغلب عليها الطابع الشيعي , و مثال آخر بلدة السيّدة زينب جنوب دمشق و الّتي أصبحت مقاطعة إيرانيّة تماما داخل سوريا : من ناحية اللغة و العملة المتداولة و نوعيّة المقيمين فيها و حتّى أصحاب و نزلاء الفنادق , و ترافق ذلك مع شراء واسع للأراضي حول تلك المنطقة مع إستثمارات ماليّة كبيرة من قبل دولة أجنبيّة هي إيران , حتّى مناطق في وسط مدينة دمشق لم تسلم من ذلك التغيير مثل الست رقيّة في منطقة العمارة و غيرها , كما أصبحت اللغة المتداولة في فنادق و أسواق مركز مدينة دمشق هي الفارسيّة، نتيجة أفواج "الحجّاج" الإيرانيّين و هم السيّاح الشبه وحيدون الّذين يقصدون سوريا نتيجة علاقات النظام السيّئة مع كل محيطه و العالم و عدم توفير البنية السياحية في سوريا . كما أصبحت السفارة الإيرانيّة و المراكز الثقافيّة الإيرانيّة مركزا لحركة دعويّة مذهبيّة , و لم يكن حزب الله اللبناني غائبا عن هذا النشاط من خلال معسكراته ذات الظاهر الوطني المقاوم و الجوهر الطائفي و الهادف أيضا لنشر التشيّع .
هذه هي الحالة تماما لدى إنطلاق الثورة السوريّة و هي بنفس الوقت أحد أسباب قيام هذه الثورة و إنتشارها، لقد كانت هناك عمليّة تغيير ديموغرافي تجري بتخطيط و ثبات لأكثر من ثلاثين عام تقوم بها عائلة الأسد لهدف وحيد هو الإستمرار في السلطة مهما بلغ الثمن و مهما كانت المضاعفات.
و رغم هذا النهج الطائفي الواضح الّذي مارسه نظام الأسد و الّذي أدّى إلى تهديد الوحدة الوطنيّة و نموّ كل أشكال التعصّب و التطرّف , فإنّ لدى هذا النظام و أتباعه ما يكفي من الوقاحة لإتّهام من يصف هذا الواقع الّذي لا يوجد سوري واحد لا يعرفه و يلمسه و يحذّر من آثاره بأنّه هو الطائفي !!.
و لكن من سوء حظ عائلة الأسد أنّ طموحها بالتغيير الديموغرافي غير واقعي نتيجة التفاوت الكبير جدّا بعدد السكان على المستوى الوطني أو الإقليمي بين هذا المحور الطائفي و بقيّة المكوّنات و خاصّة بعد إنفضاح طبيعته و أهدافه , و لم يكن ذلك ليحدث لولا الثورة السوريّة الّتي أنهت حلم الهلال الطائفي و حلم التغيير الديموغرافي .
التعليقات (17)