"قصة حسكاوية"

"قصة حسكاوية"
صوتُ ديك الجيران يعلو في الحي وهو يؤذن الفجر ......ليكسر الصمت الذي استمر لساعات الليل الطويلة تخللها قصف بالمدفعية الثقيلة على مناطق بعيدة .....ومن يدري أين تقصف هذه المدفعية ....بات هذا المشهدُ معتاداً كما كل ليلةٍ .....إنها الخامسةُ صباحاً ....لازال ظلام الليل يسيطر على المدينة بأكملها رغم أن الفجر أعلن قدومه لكنه كثيراً من الأحيان يُطيل الوقت حتى يظهر بشكلٍ علني ...وسط هذا السكونِ بين الفجر والضُحى يحاولُ الاستيقاظ إنها الخامسة وخمس عشر دقيقة صباحاً انه يوم الأحد ....يحاول أن يبدأ بالنهوض لكن الجو لازال بارداً وربما ستزداد البرودة أكثر فأكثر ... طيلة النهار بأكمله فالشتاء لا يحمل في ساعاته الطويلة سوى البرودة القارسة ...يحاول أن يستمتع بدقائق الدفئ الأخيرة لكنه لا يستطيع .....التفكير في هذا اليوم يشغل باله كثيراً ... عليه أن يذهب للعمل وأن يجني أي شيء يستطيع عليه اليوم ... حالته المادية تتدهور يوم بعد يوم كما هي أحوال سكان المدينة وخصوصاً الفقراء منهم رغم أنهم لا يبتغون الكثير من مطامع ومكاسب الحياة إلا أنها الحياة هكذا تعيسة وقاسية على الفقراء وهي أقسى عليهم في زمن الحروب أيضاً لا يكون ضحاياها إلا من الفقراء ......يبدأ بالنهوض والخروج من الفراش لازالت زوجته نائمة وطفلاه..... يحاول أن يغطيهما باللحاف والأغطية الاخرى التي يستعملونها منذ أن انقطعت التدفئة التي اعتادوا عليها ... سيحاول الخروج من المنزل قبل أن يستيقظ أحد من الأسرة الصغيرة لكن هو أيضاً لا يدري لماذا يُريد أن يفعل هذا .......الحياة تصعب عليه وتضيق شيئاً فشيء لم يكن يريد منها سوى بيتاً جميل ومعيشةً كريمة إلا أن ما جرى في سوريا بشكل عام خلال هذه السنوات .........غير هذا كله ......فصارت المعيشة الكريمة صعبةً جداً عليه وعلى غيره من سكان  الحسكة ..... يُخرج بعض حبات الزيتون ويضعها في صحنٍ صغير ويُخرج قطعةً من الخُبز لكي يأكل منها ..... يعلم أن هنالك بعض اللبن في البراد لكنه يريد أن يأكل منها زوجته وابناه .....عندما يستيقظان لذلك فضل لنفسه الزيتون والخبز فقط كان يود أن يشرب معها كوباً من الشاي الساخن لكن جرة الغاز فارغة منذ عدة أيام ...... ويُشفق على زوجته أن يوقظها من النوم الآن لكي تغلي له بعض الماء على نار الحطب في فناء الدار ......يُنهي تناوله من الزيتون والخبز .....يشرب كأساً كبيرة من الماء  ...ربما كان يُرضي نفسه بها بأنه أطيب من الشاي .....يشكر الله على نعمته .....يرتدي ثياب العمل وحذائه القديم ويذهبُ إلى طرف البيت ليأخذ دراجته الهوائية لينطلق بعدها إلى المكان الذي يقف فيه جميع العمال مثله .....ربما يلقى اليوم حظاً أوفر مما كان عليه في الأمس وربما يُسعفه القدر بأن يأتي أحدٌ إليه ويأخذه لنقل قطع الأسمنت أو لصب إحدى السقوف .. ...يحب دراجته كثيراً هي كل سنده الآن في الحياة هي كل ما يملك وهي السبيل للوصول إلى الرزق والعودة منه إلى كنف الأسرة الجميلة إلى ولديه وزوجته هي كل ما يملك الآن بعد أن فقد عمله في معمل البناء والأسمنت الذي كان يتواجد في منطقة معمل الغزل ...... لقد كان يجني من عمله رزقاً جميلاً تمكن من الزواج وتأسيس أسرته الصغيرة إلا انه بعد هذه الحرب الآية أصبحت مقلوبة وذهب كل شيء.

في الطريق يُمرر بنظره على العديد من بيوت الأهل والرفاق الذين تركوا الحسكة ولجأوا إلى البلدان المجاورة أو إلى أوروبا ..... يتصلون به أحياناً لا أحد يُخبره بأنه مرتاح ....هو نفسه يحتاج لهذه الكلمات ...لأنه لايريد أي شيء يُشجعه في الخروج من المدينة ...... يصلُ إلى مكان العمل .........يلتقي بالعديد من أصحابه جميعهم مثله ينتظرون الرزق ......أحدهم يُهيأ الشاي تحت نارٍ هادئة من بعض الورق الجاف ...... بكل تأكيد سيشرب كأساً من تلك الشاي التي تتخمر بهدوء... سيشربها بمهل وهدوء .

يمضي النهار كله في انتظار أي شخص يأتي إليه يؤجره في أي عمل ...لكن لا أحد يأتي ...المدينة تبدو في الكثير من الأحيان خاوية لكنها لا زال يملك الأمل ....النهار يقترب من العصر يُقرر الذهاب إلى البيت ..... يمتطي دراجته الهوائية وبعد عدة خطوات يتوقف ...... كيف سيعود إلى المنزل وهو سيعود كما خرج منها لا طعام ولا أي شيء ......هذا الموقف ربما اقسى عليه من كثير من الأشياء في لحظة ذهول بسيطة ..... يبدأ بالتفكير عن حل ويبدأ مرة بقيادة دراجته بهدوء يمرر بنظره على أراضي الأرملة......مقفرةٌ عابسة تغيب عنها الروح .......يتسائل هل سيكون هذا مظهرها في الربيع أيضاً هل سيحمل لنا الربيع أياماً ادفئ من هذه الليالي الباردة والتي لا نملك فيها سوى الأغطية ......يتوقف قليلاً ينظر إلى دراجته .....وفي قرار سريع يقرر بيعها في تلك اللحظة ......يُقنع نفسه بأنه سيكون من الأفضل بيعها اليوم قبل الغد ربما ستُسد حاجته لعدة أيام ...... يجتاز جسر العزيزية وهو يقود دراجته .... يشعر بأنه سيودعها بعد قليل سوف يبيعها في احدى محال شوارع فلسطين هذا أفضل بكثير من أن يبيعها في الحي لن يراه أحد من الناس الاقرباء منه ....يصل للمحل .......يبيع دراجته في عُجالة لم يبدي كثيراً من المبازرة مع صاحب المحل يضع الأربع آلاف ليرة في جيبه.....يذهب للسوق ليبتاع بعض الأغراض والطعام ليعود إلى المنزل ...

يشعرُ ببعضٍ من السعادة وهو يحمل أكياس الطعام عندما يدخل باب البيت ....تسألهُ زوجتهُ عن الدراجة فيقول بأنهُ من الصباح الباكر عندما استيقظ من النوم لم يجدها في المنزل   ... وخلال اليل سُمعت بعض الأصوات ... ربما أحدهم اتى وسرقها .. لكن الله عوضني عن ذلك ولقد جنيت اليوم رزقاً جميلاً والحمد لله.....

يُنهي كلامه بسرعة هارباً من نظرات زوجته يشعرُ بسعادة كبيرة وهو ينظرُ إلى طفليه الجميلين ..... بعد اشترى لهم بعض الحلوى ولعبتين جميلتين.

في المساء تأوي إليه زوجته وتقترب منه ......زوجي الحبيب ...أراك هذه الأيام تُظهرُ لنا الأبتسامة التي نحتاجها وتُشعرني بالأمان والاطمئنان لكنني أدري ما تُخفيه عني أيها الحبيب .....رأيتك اليوم وأنت تخرُج من البيت... تمتطي دراجتك ودعوت لك أن يرزقك الله ......كُنت أدري أنك اليوم ان لم تلقى أي عمل ستبيع دراجتك ....وتشتري به زاداً لنا.

زوجي الحبيب .......هذا خاتمي الذي كان رابطاً لزواجنا الجميل ......خذهُ مني وبعهُ من الغد أرجوك .....لم أعد بحاجة لأرتدائه فهو ليس الرابط بيننا ....الرابط بيننا بات يسكنُ في القلوب .. بعهُ أرجوك واشتري به عربةً لكي تبيع عليه الخضروات سأساعدك في إعداداها وترتيبها وتنظيفها بعد ان تجلبها كل يوم من سوق الهال حتى تبدو جميلة ويشتريها الناس....دعنا نجرب هذا العمل لعلهُ سيكون أفضل لنا ...كما أني أشفقُ عليك وأنت تعمل في حمل الأسمنت ومواد البناء ....قاسمتني أياماً جميلة دعني اقاسمك هذه الايام العصيبة .

يُقبل يد زوجته .....تتلئلئ الدموع في عينيه .....لا يخشى من سقوطها لأن الظلام دامس ....يضمُها إلى صدره ويقول ...الربيعُ قادم ستكون الأيام القادمةُ أكثر دفئاً ...تبكي زوجتهُ على صدره وتقول ....حتى وان لم يكُن دافئً يا زوجي يكفيني دفئُ قلبك علي وعلى ولدينا ... ينامان بهدوء لا يكترثان لأصوات قذائف المدفعية ...

تنهمر بعض قطرات المطر في الخارج...

غداً سيكونُ يوماً ماطراً.......

التعليقات (1)

    ابن راس العين

    ·منذ 8 سنوات أسبوعين
    الزوجة الصالحة بحجم وطن
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات