لماذا من الخطأ القول بأن الانتفاضات العربية فشلت؟

لماذا من الخطأ القول بأن الانتفاضات العربية فشلت؟
ثمة فكرة سائدة تقول بأنَّ الثورات العربية التي بدأت في تونس في ديسمبر عام 2010 قد فشلت. من الصعب أن نجادل مع مثل هذا الحكم القاسي. لقد تمكّنت معظم الأنظمة العربية من الصمود أمام التحديات الجماهيرية التي تواجهها من خلال مزيج من الاستقطاب والإكراه وبعض الإصلاحات البسيطة. انتهت الفترة الانتقالية في مصر بنظام عسكري أشد قسوة. وانهار اليمن وليبيا وتحوّلتا إلى دول فاشلة وحروب إقليمية، في حين تحوّلت سوريا إلى حرب مروّعة.

ولكن وصف الانتفاضات بأنها فاشلة لا يعكس كيف حوّلت جميع أبعاد السياسة في المنطقة. السلطويون اليوم هم أكثر رجعية لأنهم أقل استقرارًا، وأكثر خوفًا وأكثر عجزًا على الحفاظ على سيطرتهم. ومع انهيار أسعار النفط وازدياد السخط الشعبي مرة أخرى، فمن الواضح أن تحدي الانتفاضة العربية مازال يتكشف لنا باستمرار. ولذا، فإنَّ “النجاح أو الفشل” ليست وسيلة مفيدة لفهم العمليات المجتمعية والسياسية الحالية.

بدلًا من النتائج الثنائية، بدأ علماء السياسة دراسة أشكال وأنماط سياسية جديدة أنتجتها الانتفاضات العربية. وقبل بضعة أشهر، عقد مشروع العلوم السياسية في الشرق الأوسط ندوة مع 30 من علماء السياسة لدراسة كيف أثرت الاضطرابات في السنوات الخمس الماضية على السياسة العربية. تقدم هذه المقالات وجهة نظر مختلفة حول التغيّرات التي طرأت على المنطقة منذ عام 2011، وتشير إلى العديد من التحديات المقبلة.

السياسة الجديدة التي شكّلتها الانتفاضة العربية يمكن تتبعها إلى جانب مستويات متعددة من التحليل، بما في ذلك العلاقات الإقليمية والدولية، الأنظمة والدول، والأفكار.

العلاقات الإقليمية والدولية

تجلت انتفاضات عام 2011 كحدث عابر للحدود الوطنية بشكل كامل، مع تحديات لمعظم الحكومات في المنطقة. وكان رد الفعل اللاحق أيضًا إقليميًا بشكل كامل. كتابي الجديد “الحروب العربية الجديدة،” المقرر نشره في غضون بضعة أسابيع، وندوة POMEPS الأخيرة، يتتبع هذه الأبعاد في العلاقات الدولية للاستجابة للانتفاضات العربية.

الإطاحة بقادة مصر وتونس أرعبت الأنظمة العربية بشدة، التي كان يُعتقد أنها أنظمة لا تُقهر، في حين أتاحت فرصًا جديدة لسياسات إقليمية عدوانية. الخلاف بين هذه الأنظمة وواشنطن بشأن الفترة الانتقالية في مصر والحرب في سوريا (جنبًا إلى جنب مع الاتفاق النووي إيران) أدى إلى أزمة عامة مكثّفة على نحو غير عادي في بنية التحالف التقليدي للولايات المتحدة.

كما تمّ تغيير كبير في موازين القوى بالمنطقة. لقد أطاحت الاضطرابات بالقوى الإقليمية التقليدية مثل مصر والعراق وسوريا. ويبدو أن الحجم والسكان والمكانة التاريخية أصبحت أقل أهمية من جمع الثروة، والاستقرار الداخلي، وإمبراطوريات الإعلام والشبكات العابرة للحدود الوطنية والحصول على أسلحة متطورة، لممارسة السلطة الإقليمية.

دول الخليج، مثل المملكة العربية السعودية وقطر ودولة الإمارات العربية المتحدة، استغلت الانتفاضات للانخراط في أنواع غير مسبوقة من التدخلات في جميع أنحاء المنطقة. والأنظمة داخل مجال النفوذ السعودي، مثل الأردن والمغرب ودول مجلس التعاون الخليجي، حصلت على مساعدات كبيرة لمنع اندلاع المظاهرات في بلدانهم. وقد وفّرت الأنظمة الخليجية الموارد لمنافسي الأنظمة الأخرى خارج هذا النظام الإقليمي، مثل ليبيا وسوريا، مما أدى إلى تكثيف الصراعات السياسية ومن ثمّ العسكرية. كما تلقت القوى المناهضة للإسلاميين في البلدان التي تمر بمراحل انتقالية مثل مصر وتونس دعمًا من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، بينما حصل الإسلاميون على دعم من قطر وتركيا. وفي النهاية، أصبحت سوريا الموقع المركزي لحروب الوكالة الإقليمية بما في ذلك ليس فقط القوى العربية ولكن أيضًا إيران وتركيا.

حروب الوكالة والتدخلات غيّرت بشكل واضح من ديناميكيات العلاقات الدولية والإقليمية، ومعظمها بطرق مدمرة وهدّامة.

الأنظمة والنظم السياسية

من بين كل الدول العربية التي شهدت احتجاجات واسعة في الأشهر القليلة الأولى من عام 2011، نجحت تونس فقط ولو جزئيًا في تعزيز التحوّل الديمقراطي. أما مصر فهي حالة نموذجية للفشل. آمال ميدان التحرير، والانتخابات الرئاسية في يونيو عام 2012 انتهت بانقلاب عسكري في 3 يوليو عام 2013. والتحوّلات المدارة في ليبيا واليمن انهارت، في حين تلاشت الاحتجاجات في الأردن والمغرب، وسُحقت انتفاضة البحرين بالقوة. ولكن هذا لا يعني أن أيًا من هذه الأنظمة استمر ببساطة كما كان في السابق. إنَّ الأنظمة الاستبدادية التي تتولى السلطة حاليًا هي في معظمها أقل شمولًا وأكثر قمعًا.

تبقى تونس هي قصة النجاح الجزئية الوحيدة للانتفاضات العربية. عن طريق تجنب الأخطاء القاتلة في مصر، تمكّن التونسيون من إيجاد تسوية سياسية، كما يوضح ماركس مونيكا، وصياغة دستور جديد، وتناوب السلطة سلميًا عن طريق الانتخابات. لكنَّ نجاح المرحلة الانتقالية في تونس لا يزال جزئيًا للغاية، بطبيعة الحال. لقد دمّرت الضربات الإرهابية المتكررة الاقتصاد التونسي الضعيف بالأساس وازداد الشعور بخيبة الامل في القيادة السياسية للبلاد. ومع ذلك، في ظلّ الإحباط وعودة سياسيّ النظام القديم إلى السُلطة، كما تلاحظ لاريسا كومياك، سيكون من الخطأ أن نقول إن شيئًا لم يتغيّر على الإطلاق. هناك مجموعة جديدة متنوعة وثرية من الممارسات السياسية، التي لا تزال تطور فرصًا جديدة، في انتظار مبدأ لإجراء انتخابات مجدية. كما تغيّرت المؤسسات التي تراوح ما بين النقابات العمّالية إلى المؤسسات العسكرية، على نحوٍ عميق في البيئة السياسية الجديدة.

لم يكن فشل الفترة الانتقالية في مصر حتميًا، كما يقول مايكل وحيد حنّا. وتوضح إلين لاست وجمال سلطان وجاكوب يشمان كيف يمكن لمزيج سام من الخوف وعدم اليقين أن يتدخل في تعزيز الديمقراطية. أما الجيش والشرطة، وجماعة الإخوان المسلمين والطبقة السياسية، فقد اتخذوا جميعهم خيارات مختلفة في ظلّ هذه الظروف الصعبة التي أدت إلى انحراف الفترة الانتقالية عن مسارها. وعلى الرغم من اعتقاد العديد من المصريين أن هذا الانقلاب من شأنه أن يعيد الديمقراطية لا أن يقضي عليها، أثبتت النتائج أنه أدى إلى مزيد من القمع كما توقع علماء السياسة. فشلت مصر في ترسيخ التحوّل الديمقراطي، ولكن سياستها تغيّرت جذريًا بسبب الاضطرابات في السنوات الخمس الماضية. ولكن يجب ألّا ينخدع أحد من عودة مصر إلى الممارسات والأشكال والشخصيات من عهد مبارك. مصر عبد الفتاح السيسي هي أكثر قمعًا وعنفًا، وأقل إضفاءً للطابع المؤسسي، وتواجه تحديات اقتصادية كبيرة وأصبحت عالة على المجتمع الدولي. وهذا ليس وصفًا لنظام مستقر بأي حال.

وفي حين أنَّ مصر وتونس تستحوذ على أكبر قدر من الاهتمام، لم ينج أي نظام عربي سالمًا من الانتفاضات. تمكّنت المغرب والأردن من صرف المعارضين دون الأنماط الكامنة وراء السلطة الملكية. وأجرت المغرب إصلاحات دستورية وسمحت بانتخاب حكومة بقيادة الإسلاميين، ولكن كما يجادل مروان مكوار بأنَّ هذا لم يقدّم مساءلة سياسية حقيقية. وعلى الرغم من شعورهم بالإحباط، يواصل النشطاء الشباب في المغرب إيجاد طرق جديدة من التحدي، كما تقول أدريا لورنس. لقد ساعدت الآثار المروّعة للحرب في سوريا النظام الأردني على التخلص من التحديات السياسية، كما يوضح كورتيس ريان. بينما نجت البحرين من خلال تبني أشكال شرسة للغاية من القمع الطائفي مع تكاليف طويلة المدى للاستراتيجية الحاكمة للنظام.

حتى الدول التي كنا نعتقد في البداية أنها تجنبت تأثرت احتجاجات الانتفاضة العربية تأثرت هي الأخرى. الإصلاحات الدستورية في الجزائر، كما يلاحظ جون إنتيليس، لم تخف واقع الحكم من أعلى إلى أسفل والجمود السياسي في البلاد. كما تعطلت السياسة الفلسطينية. وأظهرت الاحتجاجات في لبنان الأمل المستمر لدى النشطاء في إيجاد طريقة لتحدي النظام السياسي الراكد. بينما اجتازت قطر والمملكة العربية السعودية مرحلة انتقالية ملكية، مع انعكاسات كبيرة على سياساتها الداخلية والإقليمية. في عام 2012، تقاطعت حركة احتجاج سُنية في العراق بطرق مدمرة مع طائفية نظام رئيس الوزراء نوري المالكي والحرب في سوريا لإنتاج ظروف ساعدت على صعود تنظيم الدولة الإسلامية.

ولذلك، فإنَّ عودة الدول الأمنية العربية لا يشير إلى العودة إلى الطرق القديمة ولكن إلى التغيير في المساومات الحاكمة واستراتيجيات بقاء هذه الأنظمة المحاصرة.

الدول

إذا وضعت الأنظمة الناجية أشكالًا جديدة من الحياة السياسية، فهذا لأنَّ العديد من الدول قد فشلت بشكل كبير. أدت المراحل الانتقالية الكارثية، والمدارة خارجيًا في ليبيا واليمن إلى تحولهما لدول فاشلة، وتدخلات إقليمية واسعة النطاق وحكومات متعددة ومتنافسة. لقد أدى انحطاط الانتفاضة في سوريا إلى حرب مدوَّلة ووحشية إلى تشظي الدولة السورية. كما ترك فشل هذه الدول جيوبًا واسعة من المساحات غير المحكومة أو المتنازع عليها، بينما دفع ملايين الناس إلى هجر منازلهم. وقد نحتت القوات الكردية أنظمتها السياسية الخاصة بها، في حين يتمسك تنظيم الدولة الإسلامية بعناد شديد بالأراضي المتبقية والتي تمتد عبر الحدود السورية العراقية.

لا تمتلك هذه الدول ولا شعوبها المصدومة أي احتمال حقيقي لحكم مستقر أو سلمي على المدى القريب. وفي هذه المرحلة بالتحديد، من غير الواضح ما إذا كانت سوريا، العراق، ليبيا أو اليمن لا تزال موجودة كدول سيادية، أو كيف يؤثر انحلال تلك الدول على السياسة الإقليمية على المدى الطويل.

الأفكار والهويات

لقد كانت هناك أيضًا تحوّلات ملموسة في مجال الهويّات والأفكار. وكانت الفكرة المحفزة الوحيدة لمعظم الأنظمة العربية هي بقائهم في السلطة. ولكن الكشف عن غريزة البقاء العارية أمام حشد جماهيري عربي لم يسبق له مثيل كان له دلالات كثيرة. لقد كان فشل الانتفاضة العربية درسًا سياسيًا مؤلمًا لجيل موهوب للغاية من الناشطين والمفكرين ورجال الأعمال. والحال نفسه بالنسبة لفشل الإخوان المسلمين في الحكومة، والنتائج القاسية للانقلاب العسكري في مصر، الذي أيّده الكثيرون منهم.

وقد فتح ذلك المجال لتفكير سياسي جديد وتشكيل شبكة بعيدة عن الرقابة العامة في الوقت الراهن. لم يكن هناك إجابة لتطلعات الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، التي أظهر مارك بيسينجر، وأماني جمال وكيفين مازور أنّها الدافع وراء الانتفاضات. واعتمد مايكل روبنز على بيانات البارومتر العربي لإظهار أنَّ الديمقراطية لا تزال طموحًا حيويًا بالمنطقة، على الرغم من الإحباطات العميقة. ويجادل ميشيل براورز أنَّ المفكرين السياسيين العرب بدؤوا إعادة النظر في مفاهيم مثل الاعتدال والديمقراطية.

ولكن في خضم كل تلك الأمور، المزيد من القوى السلبية والمزعجة تهيمن على الخطاب العام العربي. لقد تعمقت جذور الطائفية في المنطقة. كما اُستهلكت وسائل الإعلام المصرية من خلال قومية داعمة للنظام وكارهة للأجانب. وانتقلت السياسة الإسلامية نحو التطرف، مدفوعةً بالانقلاب العسكري في مصر، وقمع الإخوان المسلمين، وحركات الجهاد في سوريا وصعود تنظيم الدولة الإسلامية. تلك الأفكار والهويات الخبيثة من المرجح أن تستمر في الازدهار في ظلّ غياب بدائل سياسية قابلة للتطبيق. ومن المرجح أن يتجلى خطأ الفكرة الشائعة بأن إحياء الاستبداد العربي يمكن أن يوفر الترياق للتطرف كما كانت مضلّلة في نصف القرن الماضي.

بعد خمس سنوات من الانتفاضات العربية، فإنه لم يعد كافيًا تسجيل الأوضاع من منظور النجاح أو الفشل. لقد تشكّلت أنظمة سياسية جديدة بحيث يجب فهمها وفقًا لحيثياتها الخاصة. كما تتدفق السلطة من خلال مؤسسات وشبكات مختلفة، وتطورت تحالفات إقليمية جديدة وهويات وأفكار سياسية متنوعة. توضح دراسة بعنوان “بعد خمس سنوات من الانتفاضة العربية” كيف بدأ علماء السياسة التعامل مع هذه السياسات الجديدة من منظورهم الخاص.

نقلاً عن موقع إيوان 24

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات