ذكرياتُ الرُبع ساعة الأخيرة ... قطارُ الحسكة الذي لم يصل إلى دمشق

ذكرياتُ الرُبع ساعة الأخيرة ... قطارُ الحسكة الذي لم يصل إلى دمشق
قبل أيام من نهاية حزيران من العام 2009 …..

بيني وبين الحُرية وتحقيق الحُلم دقائقٌ معدودات لا أدري كم عددها لكنها لاتزيد عن رُبع ساعة ... هذا ما كُنتُ أقولُهُ لنفسي وأنا أحاولُ أن أصُب كل تركيزي على السؤال الأخير في فحص الكيمياء الأخير من امتحانات البكلوريا ...... دقائقٌ وينتهي عذابُ عامين كاملين بليلهما ونهارِهما ....... عامين من التعب والعُزلة والدراسة المستمرة.

كُنتُ أدري أني قد ضمنتُ الدرجات الأمتحانية لكافة الأسئلة في هذه المادة لكن السؤال الأخير لم أعد امتلك السيطرة على نفسي لإتمام إجابته.... حاولتُ جاهداً جمع البروتونات ......لكن كنُت أعلم أن هنالك خطأً ما ودرجةُ العلامات على هذا السؤال لن تتخطى الثلاث درجات ...

لكنني ما لبثت لأجد روحي تترُك قاعة الامتحان .... وبدأتُ السفرة التي انتظرها طيلة حياتي .... وإذ بي أرى نفسي في محطة إنطلاق الحافلات في مدينتي الحسكة وعلى ظهري حقائبي وذكريات وكُتبي ..... وأهمُ بالسفر إلى العاصمة دمشق للدراسة الجامعية فيها ....استطيعُ القول أن الدُنيا كانت متوقفةٌ كل مساراتها عندي والحياة بالنسبة لي كانت طريقاً واحداً لا ثاني له ....  طريقُ الحسكة - دمشق مسافةٌ تمتدُ على 900 كيلومتر.....كل أحلامي وأمنياتي تسيرُ في هذا الطريق البري الجميل..من سهول ووديان وبادية .....ربما هو يلخص مشواراً لحياةٍ ما زلت فيها ...لعل ذهابي للشام كان وعداً أكثر من أنه كان غايةً ......هذا ما وعدت به أبناء عمومتي الأعزاء.

دمشقُ الحلمُ الذي راودني  منذُ زمنٍ ... روضةُ الحنان ...عُلو قاسيون .... ومياهُ بردى .....رياحٌ قادمةٌ من الغرب ......عشقتها مع أصوات جوقة الفرح في الشتاء الحسكة البارد... مع صوت الأب إلياس زحلاوي....عبر أثير المذياع حين كُنتُ ادرس.

تبدأُ الرحلةُ والحافلةُ تمضي بي وكأنها بطيئةٌ في السير سريعةٌ في سرد الذكريات من الصور التي أراها لمدينتي عبر زُجاجها هنُا كل الذكريات ...... اليوم فقط يُقسم قلبي لقسمان قسمٌ اتركُهُ هنا في مدينتي وقسمٌ آخر سآخذه معي ليذكُر الأول....نجتازُ نهر الخابور ...كأنه آخر المودعين .... نصلُ إلى نهاية المدينة من الجنوب ...اُلقي النظرات الأخيرة عليها من بعيد ......احاول ان أعلو بنظري كثيراً لعلني آخذ النظرة الأخيرة للصالحية لكننها أصبحت بعيدة  ويصعب رؤيتها ربما استطيع فقط رؤية خزان المياه الكبير من بعيد .....بدأ الشوقُ يراودني لبيتي لعائلتي وجيراني ورفاقي ......نقتربُ من تلك القُرى الجميلة النائية على أطرف السد ...هو القدرُ يُخفي لي أصدقاءً أوفياء بينهم سأعرفهم بعد حين. ....الطريقُ من الحسكة إلى دير الزور مليئةٌ بالقصص التي لا تُنسى أبداً ....اذكُر منها ذاك الجسرُ الجميلُ والكبير القريب من السبعة والأربعين ....والمشفى المستدير في الشدادي  ..... والكنيسةُ البيضاء المضيئةُ دوماً في مركدا......البادية التي لا حياة فيها  ..... كم أحببت هذه العيون الصافية ...اقرأ فيها آلاف القصص والحكايا دون ان تتحرك اي شفاه ...كم هي حمراء هذه التراب.....كل شيء هنا قصة بحد ذاتها.

الحافلةُ تمضي بسرعةٍ تقطع كميات من المسافات هنا صحراءٌ لا زرعٌ ولا ماءٌ لكن حتى هذه المناظر تخفي الكثير من الحكايات والقصص القديمة ربما احتاج للكثير حتى اعرف جزء منها ...هنا سؤالٌ آخر قد يأتي من هذه الصحراء المكسوة بجبالٍ صخرية  .... كيف للإنسان أن يُغير قدرهُ .... أن يجعل من الصخر بستاناً وان يُخرج من الصحراء ماءً وان لا يخاف علو الجبال ولا وعورة الودايان ....أشمُ رائحة الفرات من بعيد ...كم هي عذبةٌ هذه المياه ... يا فرُات أعلم ان كثير من الناس القوا فيك امنياتهم ...ألك مكان لأمنياتي ..أمانة يا فرات ...لا انسى تلك اللحظة عندما اصل للمسافة التي اصبحت فيها في حضن الفرات اسمع الموال ... "تشتاقهم عيني وهم في سوادها "..... اليوم بدأت اخرجُ من قوقعتي لأجد ثمرة الصبر الذي اتخذته سبيلاً ..... ما أجمل برودة تدمر في هذا الصباح .... وأنا أمر لا أرغب ان  اسير لداخلك ...ربما أنا بمقام ليس لي الحق فيه ان أسالك عما في جوفك من أسرار ......تنامُ عينٌ وتسهر عينٌ وتنوبان عن بعضهما هاتان العينان كيف لي ان انام ..... يبدأُ قلبي بالخفقان تُرى أين هي الشام ...يطولُ النظرُ حبيبتي جميلةٌ كبيرة لدرجة لا تُوصف  ......أصل إلى ضفاف دمشق بدأتُ بفقدان الشعور الكلي بما حول وينصبُ نظري كله لنورٍ وحيد يُضيءُ من بعيد .... وكأن الدُنيا تمضي وأصبحتُ خارج إطارها الزماني .... جميلةٌ من بعيد وأخيراً يا دمشق رأيتك  .....و في الجوانب المحيطة بدأتُ أرى الكثير من الأشياء ...

هنا اسمعُ صوت فيروز تُغني بشجن ...شامُ ياذا السيفِ لم يغبِ .....يا كلام المجدِ في الكُتبِ

التفتُ لأرى محمود درويش يُخاطبُ جمهورهُ قائلاً .... في دمشق ينامُ الغريبُ على ظله واقفا ًمثل مئذنةٍ في سرير الأبد لا يحن إلى أحد أو بلد...

وإلى الجانب الآخر يقفُ أحمد شوقي ليقول:  آمَنْتُ بالله واسْتَثْنَيْتُ جنَّتَـــــهُ       دمشقُ روحٌ وجناتٌ ورَيْحانُ

هذا هي هي دمشق التي تخيلتها وأحببتها من بعيد....

لكن فجأةً وفي رعشةٍ غريبةٍ انتابتني .....أعود لقاعة الامتحان ..... استيقظُ من الحُلم الذي كنُتُ فيه ...... بسرعةٍ رهيبة أُسلم ورقة الإجابة الإمتحانية ..... لأخرج بسرعةٍ من قاعة الامتحان .....أحتاجُ لأوكسجينٍ كثيف ليدخل إلى الأجواف الداخلية في رئتاي .....آه يادنيا وأخيراً عانقت الحُرية...... أخيراً .....كُنتُ أظنُ أن هذا اليوم لن يأتي.  

ركضتُ بأقصى ما استطيع في شوارع حي العزيزية......... تنفستُ بعُمقٍ أكثر ....أجولُ نظري على الشوارع والمحال أرى الناس كأن كل شيء بدت ألوانه متغيرة من حولي حتى الشمس أصبحت أكثر جمالاً ورائحة أشجار الكينا باتت أكثر قوة ...... أطفالٌ يلعبون وينظرون الي يتسألون هل هذا مجنون.....أضحكُ حين أسمعهم وأحاولُ أن ابدوا فعلاً كالمجنون لأُضحكهم ...أصل إلى البيت أُقبل يد أُمي بشكل عفوي...أمسك بخرطوم المياه لأرشه على نفسي وأنا أرقص ... اذهبُ إلى الهاتف كي اتصل بكثيرٍ من أقربائي واهلي وأحبائي أقول لهم بأنني اليوم حُرٌ.... أنا حُرٌ أستطيعُ أن أذهب للملعب أستطيع أن أجلس وأتحدث مع اصدقائي أستطيع أن أزور قريتي .......يالله كم هو جميلٌ مذاقُ الخلاص...... استلقي على الارض أغمضُ عيوني لا أستطيع النوم ....يحين المساء افتح المذياع الذي رافقني منذ سنتين كأنني اُريدهُ أن يشاركني هذا اليوم كما شاركني أيام عديدة...مذياعي الجميل كم أحببتك ياصغيري يامن لم يبخل علي بالنصح والحب كنت خير أنيس لي طوال هذين العامين ...زرعت فيني عالماً آخر .....احتاجُ لأغاني فيروز في هذه اللحظات ...ربما أنني سهرتُ الليل كُله منتظراً لكنني أدركت غايتي في الخامسة والنصف صباحا حيث بدأت الإذاعة ببث أغاني فيروز ...... أرشفُ أولى الرشفات من قهوتي التي أعددتها بنفسي لأول مرة ...وهنا ينتهي ذاك النهار بالنسبة لي في ذاك الصباح.

في حقيقة الأمر  ....لم يتحقق هذا الحلم ....كانت علاماتي أقل من أن تؤهلني للدراسة في إحدى كليات جامعات دمشق ....ولم أستطع زيارتها بقصد الدراسة فيها ....مات الحلمُ الجميلُ بسهولة ... وربما صعُب علي جداً تقبلً واقعٍ مغايرٍ تماماً لحُلُمي... لكن اليوم وبعد سنوات عديدة استطيعُ أن أقول أن ذاك الحُلم الذي لم يتحقق وما تلاه من أمورٍ عدة كانت الخطوات الأولى في معرفتي للكينونة الإنسانية وللحياة الحقيقية التي لا يزينها البهرج الحياة التي يُجبر الإنسان عليها راضياً بقدره .

في هذه الأيام بتت على قناعة وإدارك آخر ربما كُنتُ بحاجته منذُ زمنٍ ..رُبما الحياةُ جميلةٌ ان استطاع الإنسان ان يحقق وينال فيها كل ما يريد .....لكن ما أن دخل الإيمان قلبي اقتنعت بأن هنالك من يريد لنا الخير أكثر من انفسننا ....لكن الفهم في مقاصد حكمه هو ما يسبب الحزن والألم الذي هو في الحقيقة الم ناتج عن تفكيري خاطئ... الكثير من أبناء بلدي لم تكتفي الحرب بقتل أحلامهم بل تمادت إلى أخذ الجانب المشرق فيه وبصيص النور .... إلا ان النماذج التي قد تراها العين تبث شيئاً من الطمأنينة حتى لو كانت قمم اليأس تعانقنا في المساء .... أدركتُ أن الأمل لا ينبع إلا من آخر اللحظات الشديدة من الصبر وقتها يتحول ذاك الصبر لضياء .....كما أن الحياة تتحول لغابة من الأمل عندما نتخذ القرار بأن نجعلها رسالة جميلة حبرُ حروفها هي أيامنا التي نقضيها بدقائقها وثوانيها.... ونؤمن فقط بقدرٍ جميل ...أو ليست دقات قلب المرء قائلةُ له بأن الحياة دقائقُ وثواني.  

شُكراً دمشقُ .... وشكراً قاسيون .... شكراً بردى لأنكم زرعتم من بعيد أشياء وأحلامً جميلة لن تموت حتى وأنتِ متعبةٌ ومثقلةٌ بما يجري بجسدك الجميل الطاهر ...أما بذورك قد زرعتها شتلات ريحانٍ وياسمين اسميتها باسماء بناتك لابد أن يأتي يومٌ ان تعبق بالروائح الزكية من جديد .... أما أنا ببساطة شديدة ربما لم يتحقق حلمي لكنني أدركت أمر أكثر عظمة

دمشقُ .......هي قصةُ حُبٍ لن تنتهي .......أبداً.

التعليقات (1)

    متابع طيب القلب

    ·منذ 8 سنوات 3 أسابيع
    كلمات جميلة صادقة دمشق ماتت و معها سوريا سننتظر ما يخبئ لنا المستقبل
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات