السبورة ملئ بمعادلات رياضية ، و على المنضد مجسمات و مثلث كبير ، و في وسط الحجرة ، بين صفوف الطلبة يتمركز رجل متوسط القد ، قوي الشكيمة ، يوجه نظراته في كل أرجاء القسم ....
حتما نحن في حصة الرياضيات .....
أرسل الأستاذ سؤاله نحو صفوف الطلبة : من منكم يعطيني تعريف الحب ؟
آاا ....آلله .... يا إلهي ؟؟؟ الحب بحصة الرياضيات ؟؟؟ لعله نسي ، إنه يدرس تعار يف مادة الرياضيات لا مادة الحب ؟ ربما يقصد تعريف المجموعة Z أو R أو ربما يقصد ..... ؟؟؟؟
أطرق الطلبة واجمين ، راحوا في دوامة من صمت مخجل ، و الحيرة تعلو كل محيا ، فما علاقة الحب بالرياضيات ، ثم إن الكلام عن الحب ) حسب التقاليد المبتذلة ( ممنوع و محرم ، ففي البيوت لا أحد يتكلم عن الحب ، لأن ذالك من قبيل كلام العيب و الفحش ، و أغلبنا لا يسمع كلمة حب إلا في المسلسلات التركية و المكسيكية ، حتى و إن قيلت في مجتمعنا فهي مقتصرة على الهواتف النقالة للمراهقين لا أقل و لا أكثر ، ثم سرعان ما تختفي باختفاء سن المراهقة ....
الكلام عن الحب و العواطف حسب تصورنا الموروث عكسا ، ممنوع عندنا نحن العرب و المسلمين .
فليس هناك مجال للحب في الصحراء بين الظباء و كثبان الرمل ،
و بين الجبال ، العواطف كالنــتوء القديمة التي تكلست بفعل الرواسب و أحماض الشتاء و الزمن : متحجرة .
حتى على سرير غرفة النوم كلمات الحب تنسى بين براثين الجنس و الاستغلال و سلطة الذكر أو الأنثى ....
كلمات الحب قد تكون ضاعت بين الخجل و بين سوء الظن . فالمتيم الصب سرعان ما يقع في شراك الإستنزاف . ...
مساكين هؤلاء الطلبة ، لا أحد منهم يعرف معنى الحب ....
فاستسلموا لسيد الصمت ، إلى أنقدهم صوت طالبة من الخلف : آوا لسنا بدرس الرياضيات يا أستاذ ؟
بلى ، و لكن سؤالي في نطاق درس اليوم ... أجاب الأستاذ .
عمت الدهشة و الفرحة حجرة الدرس ، يا لها من حصة . إنه درس المراهقين المحبوب بكل امتياز .
أعيد السؤل مرة أخرى - إستطرد المعلم - ما هو تعريف الحب ؟
بدأت رؤوس الطلبة تتمايل يمينا و يسارا ، و يتهامسون في أذان بعضهم البعض ، كأنهم يعرفون الجواب و لكن لا أحد منهم يريد أخد المبادرة ليجيب .
و بينما هم على حالهم تلك ، رفع شاب جميل المحيى ، و سيم القسمات ، سبابته ليجيب ....
يبدو أنه لدى أحدهم من الجرأة ما يجعله يجيب على سؤال الموسم – همس الأستاذ - نعم تفضل يا بني ، أعطيني تعريفا للحب ؟....
تلعثم الصبي برهة ، ثم شهق فزفر ، تلكأ في الكلام وبدا و كأنه يريد إطلاق كلمة مكوكية :
( الجنس ) .....
تمخض الجمل فولد فأرا ...
الحب هو الجنس ، الفتى من قالها . لديه الحق . و هو على صواب إذن .....
أسمى العواطف و الأحاسيس البشرية ، كلمة من حرفين عجز طفل من أمة الثمانية و عشرين حرفا أن يجد لها تعريفا ، جيل من أجيال خجلوا حينما سمعوا المجهول المعرف ، ليغيبوا في صمت دلالته أكبر من التعريف .
صمت الأستاذ هنيهة فقال لابأس يا صغيري ، لا عليك .ليستطرد قائلا :
الله يا أبنائي خلق الكون على تيمة الحب .
الحب هو الأمان في زمن ضاعت فيه صور النبل و صدق المشاعر ، و طفت مكانها زخرفة مفبركة لأساليب رديئة استدرجت قلوبنا لمقصلة الإعدام .
كدور الصفيح بين أحياء مانهاتن ، أصبحت عواطفنا .
كالتعفن فوق حلمة عروس تركت الفردوس لتنعم بالجحيم على أكف إبليس .
الحب يا أبنائي بضاعة بخسة الثمن في زمن الفضيلة فيه تتمسك بالطهر في دور الدعارة ، و بالنبل في زمن المسخ و الاستنساخ .
فما انفكت لغة العرض و الطلب تسمو بسوق البشرية لتعرض مشاعرنا المغبونة وسط رحبة الباعة الماكثين و المتجولين و عابري السبيل .
عواطفنا غدت لغة الإشهار في تلفزيونات الوطن العربي ، و طبقا دسما لقنوات الدعارة و الإفتتان ، فصار لحم بناتنا على أشكاله رخيصا ، و معلبا ليبدو في أبهى حلة ، في هنيهة غفلت فيها غيرتنا و تقاليدنا و أخلاقنا و كثير من مكنونات قلوبنا لتتمرد عن الأصل .....
أبنائي : الحب هو الصرح العظيم للسعادة الأبدية ، و هو شفرة سرية لمناجم الحياة في جوارحنا ، هو نعمة الرب و نغمة العبد ، هو الأكل الطيب و الشراب الحلال في زمن بدلت فيه نواميس الكون من طرف البشرية . فأصيبت عروقنا بالتصلب ، و قلوبنا بالصدأ ، و أصيب أبنائنا و نحن بقرحة الفساد و سرطان العواطف ، فأصبح الحب جنسا في زمن غير فيه الجنس ، ليصير الرجل حورية ذات نهدين ، و صارت الوردة الجميلة شبحا ، لا هي برجل و لا هي بخنثى ، صاروا جنسا ثالثا ليس ممن كان يزرع الحب في قلوبنا في سالف العهد .......
الحب في زمن الدبدبات ، أفلام و أقراص مدمجة ، و رنات هاتفية أناء الليل و أطراف النهار ، فمافتئت العواطف تتناقل عبر تقنية البلوثوت ، و رسائل SMS ....
الحب في زمن مدونة الحقوق بالوعة جائعة ببيداء لم يعرف بها ساكن رسما ،
الحب في زمن أمريكا و بريطانيا هو دمار و شتات ، و استدراج لقوالب الإرهاب ، و زرع الطائفية .
الحب في زمن العولمة مسرحية كوميدية أبطالها حمقى ، أو بقايا من شعب المدينة الفاضلة ....
الحب في زمن الهجرة السرية ، سجن مركزي لذوي الإحتياجات الخاصة ، و قارب منخور لرحلة متهورة عبر سراديب العشق الحرام نحو حانات و دور برخص و أختام إدارية ....
الحب في زمن أوباما و بشار الأسد ، هو أضغاث أحلام ، أو رجل صلب قبل الحرب العالمية في معابد التتار و المغول .
يا بني : الحب ليس جنسا أ و متعة ، و ليس نزوة عابرة بسرعة قطار الأنفاق ، إنما هو ضرب و طرح و قسمة ....
لا ضرب أخماس في أسداس ، بل ضرب قيم الشارع بمبادئ الشرع ، و طرح الفساد و قيم الأبالسة من شعائر العفة و أبجديات الغرام ، و قسمتها بعدل لتطهر أبناء أدم من سموم الحقد و الغل ...
الحب أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك ، و تكره له ما تكرهه لنفسك .
الحب دين ، الحب فلسفة ، الحب لغة ، الحب تاريخ ، و رياضيات هندسة و جبر ،
الحب رياضة القلوب .
الحب مدرسة ، بل هو الحياة ....
رن الجرس ، و انتهت الحصة . كان من عادة الطلبة في صف الرياضيات بل في كل الفصول الدراسية إطلاق سيقانهم للريح ، حين يدوي صوت جرس الساعة معلنا انتهاء إحدى الحصص ، لكنهم اليوم على غير العادة ، فالأستاذ قد صمت و انتهى الدرس ، و التلاميذ غير عازمين على مغادرة الفصل ، كأنهم يريدون المزيد ، و جدوا مخلصهم من أنين الحيرة ، و عبث التقاليد المبتذلة ، يريدون تحرير قلوبهم من ظلمة الصمت ، و من المقررات المدرسية العقيمة ، التي تتحدث عن الصفر و نسيت غفلة أمة الصفر ، أمة أصبحت عواطف شبابها تحت الصفر ، مناهج و مقررات تصف الفقر حول العالم بيد أننا نحن أفقر أمة ، كنا خير أمة أخرجت للناس ، بحبنا و علمنا و شرع ربنا ،فنمنا و طاب كرانا و بلغ سيل غفلتنا الزبى ....
رفض الطلبة الخروج من الفصل ، رغم إصرار الأستاذ . كيف لهم أن يخرجوا ؟
فالغيث قد أقبل و الأرض عطشى .
النور سطع و أضاء ظلمة الجهل الأعمى .
و بعد أخد و رد تخللته كلمات الإقناع و الوعد ، أذعن المساكين لطلب المعلم على شرط أن يتم لهم درس اليوم غدا .
و في صباح اليوم الموالي ، تلقى الطلبة خبر انتقال مدرس مادة الرياضيات إلى مدينة أخرى .
التعليقات (1)