جماعة غولن.. انقلاب.. انقلابان.. بل ثلاثة

جماعة غولن.. انقلاب.. انقلابان.. بل ثلاثة
لم يكن انقلاب تموز الدموي الشهر الماضي هو الأول لجماعة فتح الله غولن في تركيا. فقد قامت الجماعة قبل ذلك بتنفيذ انقلابين ناعمين سلميين ، انطلاقا من سلك القضاء والنيابة العامة، والذى تمتعت فيه الجماعة  بحضور ونفوذ كبيرين، وبينما وقع الانقلاب الأول في شباط/فبراير من عام 2012، جاء الانقلاب الثاني بعد أقل من عامين أي في كانون أول/ديسمبر2013.

استدعت النيابة العامة في الانقلاب الأول رئيس المخابرات هاكان فيدان للتحقيق معه بتهمة الاتصال مع جماعة إرهابية. فيدان كان قد باشر آنذاك حوارات مع حزب العمال الكردستاني بي كا كا في مدينة أوسلو النرويجية تنفيذاً لأوامر رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان. وفي سياق التمهيد لما عرفت بعملية التسوية أو عملية السلام الداخلي مع الأكراد، وهي العملية التي استمرت لثلاث سنوات تقريباً قبل أن تنهار مع الغطرسة التي انتابت الحزب بشقيه في تركيا وسورية، وأدت إلى تخليه عملياً ورسمياً عن وقف إطلاق النار في حزيران/يونيو 2015، وعودته بالتالي إلى الأعمال الإرهابية ضد السلطة التركية ومؤسساتها.

استدعاء فيدان للتحقيق هدف إلى لى ذراع السلطة السياسية المنتخبة وابتزازها، والتأكيد لها أنه لا يمكن أن تنطلق أو تكون حرة في تطبيق خياراتها وتوجهاتها السياسية دون تشاور تنسيق مع الجماعة أو تقديم تنازلات لها فى ملفات داخلية أخرى مثل التعليم الإعلام والاقتصاد.

الاستدعاء هدف كذلك إلى إقصاء هاكان فيدان نهائياً من المشهد الأمني السياسي، بعدما شعرت الجماعة أنه يشكل خطر كبير عليها بانكبابه على إعادة بناء الجهاز وفق أسس مؤسساتية ومهنية بعيداً عن هيمنتها، نفوذها واختراقاتها.

وهنا يجب الانتباه إلى أنه لولا العمل الكبير الذي قام به فيدان لما نجح جهاز المخابرات أصلاً في إكتشاف وإفشال الانقلاب الثالث  والأخير، بعدما قاتل عناصره حتى الموت، وواجهوا المروحيات بمسدساتهم وأسلحتهم الخفيفة في ملحمة بطولية موصوفة ، ورغم أن الجهاز فشل في اكتشاف أو وأد المحاولة في مهدها  وفعل ذلك متأخراً جداً، إلا أنه كان بالتأكيد أحد أسباب هزيمتها بالتنسيق مع رئيسس أركان الجيش وأجهزة رسمية أخرى، وبالتأكيد كانت النتيجة مختلفة لو كان الجهاز خاضعاً كلياً أو جزئياً لنفوذ جماعة غولن، أو لم يشهد الإصلاحات والعمل  الكبير، الذي قام به فيدان خلال ست سنوات.

أفشل اردوغان المحاولة الأولى لأنه فهم مغزاها وتداعياتها،  رفض خضوع رئيس المخابرات للتحقيق رفضاً قاطعاً. ومن ثم تحمّل المسؤولية السياسية للأمر برمته ، وباشر على الفور استصدار قوانين برلمانية لحماية رئيس المخابرات، وكبار الموظفين الرسميين الذين ينفذون توجيهات القيادة السياسية المنتخبة.

بعد فشل الانقلاب الأول انتظرت الجماعة سنتين تقريباً لتنفيذ انقلابها  الثانى الذي وقع في كانون أول/ديسمبر 2013 وانطلق أيضاً من ساحة القضاء والنيابة العامة. وكان أكثر اتساعاً وشراسة، كونه استهدف الحكومة برمتها، وجرى على مرحلتين خلال أسبوع 17 - 25 ديمسبر، وشهد اعتقالات لأبناء وزراء ومسؤولين رسميين ورجال أعمال مقربين من الحكومة، ورغم أن القضايا أو الملفات منفصلة، وغير مترابطة إلا أنها جمعت معاً وتم تنفيذ الاعتقالات في وقت واحد، وأمام كاميرات الإعلام لإحداث هزة سياسية أمنية، والإيحاء و كأن عصابة تحكم وتدير البلد، وكان المخطط واسعًا لئيماً لدرجة أنه تضمن أيضاً استدعاء بلال أردوغان، وحتى رئيس الوزراء نفسه للشهادة، وربما الاعتقال أيضاً.

أهداف الانقلاب الثاني. كانت طبعاً أكثر عمقاً وخطراً، وشملت إسقاط الحكومة  كلها عبر إجبارها على الاستقالة وإزاحة أردوغان وكبار قادة الحزب من الساحة السياسية، والذهاب إلى انتخابات مبكرة، ببقايا حزب العدالة وبقيادة الغولانيين، تأتي بحكومة ضعيفة ائتلافية تكون فيها الجماعة هي المتحكمة وصاحبة النفوذ في السلطتين التشريعية والتنفيذية أيضاً.

الانقلاب تم توقيته كذلك على مسافة شهور قليلة من الانتخابات البلدية، وكانت الخطة ب – فيما لو صمد أروغان - تقتضي شيطنته تشويه صورته، والنيل من هيبته، وإلحاق الهزيمة به في الانتخابات البلدية - كانت مقررة مارس/آذار 2014 - أو على الأقل منعه من تحقيق انتصار حاسم ما كان سيؤدي حتماً إلى زيادة الضغوط السياسية الإعلامية والجماهيرية من أجل الذهاب إلى انتخابات نيابية مبكرة تحقق أهداف الانقلاب في التخلص من حزب العدالة، والاتيان بحكومة ائتلافية ضعيفة من أحزاب المعارضة خاضعة لهيمنة الجماعة ونفوذها..

أردوغان كما المرة الأولى فهم خلفية الانقلاب الثانى ومغزاه، وعمد إلى التصرف كما ينبغى ، حيث قام بتوصيف الأمور كما هي وتسمية الأشياء بمسمياتها، أطلق وصف الكيان الموازي على جماعة غولن، وأعلن الحرب عليهم. وبدأ حملة تطهير واسعة ضدهم ضمن ما يسمح به القانون والدستور، شملت الآلاف من المدّعين العامين وكبار المسؤولين في النيابة العامة، الشرطة، وأجهزة الأمن التابعة لها، ونزل للشارع طالباً حماية الناس ودعمهم، واصفاً ما يجري بالانقلاب ومحاولة إسقاط حكومة منتخبة ديموقراطية بوسائل غير ديموقراطية، وراهن على مستقبله السياسى عندما تعهد بالاستقالة فيما لو خسر الحزب الانتخابات المحلية، علماً أن أي انتصار ضعيف محدود آنذاك كان سيزيد الضغوط الداخلية عليه ويدفعه مكسور الجناح، ومهان باتجاه انتخابات نيابية مبكرة تماماً وفق المخطط المرسوم من جماعة غولن.

الفوز الساحق في الانتخابات البلدية - زادت شعبية الحزب فيها بسبع درجات مئوية تقريباً - شجع أردوغان على المضي قدماً في مشروعه لتركيا الجديدة. كما على مواصلة حرب التطهير ضد الكيان الموازي في القطاعات المدنية المختلفة، النيابة القضاء التعليم الإعلام والاقتصاد، بما يسمح به الدستور والقانون، وبينما تم التعاطي مع وجودهم بالجيش بحساسية ودقة، إلا أن الأمر كان لا مفر منه، وعلى ذلك كان يفترض بمجلس الشورى العسكري الأعلى أن يقصي آلاف الضباط من المنتمين لجماعة غولن فى إجتماعه الذى كان مقرراً اوائل  شهر اب أغسطس، وهذا ما شكّل السبب الأساس للتعجيل بالانقلاب، إضافة طبعاً للجوء الجماعة إلى الطلقة الأخيرة في جعبتهم، أي الجيش بغض النظر عن قرار الإقصاء من عدمه.

مشروع تركيا الجديدة "تركيا 2023" يهدف لجعل البلاد واحدة من أقوى عشر اقتصاديات في العالم ويلحظ او يكرس علمانية مدنية ديموقراطية البلد وبما لا يقطع مع تاريخها ثقافتها أو المعايير والقيم الإسلامية للشعب التركي  وتكون  منفتحة على محيطها المشرقي دون القطع مع فكرة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى حلّ للمشكلة الكردية ضمن ما يعرف بعملية التسوية، والأمر كان يحتاج طبعاً إلى حزمة من الإصلاحات الدستورية والقانونية في قطاعات داخلية مختلفة أهمها التعليم والاقتصاد. وهنا وقع الخلاف الكبير مع الجماعة.

الجماعة اعترضت على عملية التسوية، ولم تكن متحمسة للسلام مع الأكراد كما تحفظت على التوجه المشرقي للأردوغان، خاصة بالاتجاه العربي، ورفضت فكرة التصعيد أو القطيعة مع إسرائيل، والانخراط بالقوة بالقضية الفلسطينية، غير أن جذر الخلاف تمثل بالاصلاحات التعليمية التي ألغت المعاهد التعليمية التى تقوم بأعداد الطلاب للدخول الجامعة، والتي كانت أهم معاقل الجماعة، ومصدر مهم من مصادر نفوذها المالي والإداري.

رغم محاولات التهدئة والصلح والحلول الوسط التي استمرت ثلاث سنوات تقريباً اتضح أن الخلاف فكري سياسي وعميق. وهنا طرح أردوغان خاصة بعد محاولة انقلاب 2013 فكرة تشكيل الجماعة لحزب سياسي، والمنافسة في الانتخابات، وطرح رؤاها السياسية الفكرية الاقتصادية والاجتماعية، ومحاولة نيل  ثقة ودعم الشعب لها، غير أن الجماعة كانت مستلبة دائماً، خاصة مع سكرة وغرور القوة  لديها لذهنية اللوبي  والإصرار على المشاركة في رسم السياسات العامة والاحتفاظ بحق الفيتو على كل ما لا يتوافق مع مصالحها الداخلية والخارجية.

إذن كان إنقلاب تموز الماضى الطلقة الأخيرة فى جعبة الجماعة ، و طوى بفشله ليس فقط حقبة الانقلابات سيئة الصيت فى تركيا ، وإنما نفوذ وحضور الجماعة فى مؤسسات الدولة المختلفة ، كما قضى نهائياً على أى إحتمال أو فرصة لتشكيل حزب سياسى يمثلها ويدافع عن رؤاها وتصوراتها الفكرية والسياسية ، وحتى لو بقيت بؤر لها هنا وهناك فستكون معزولة محاصرة ، وغير قادرة على التأثير الجدى فى حاضر ومستقبل البلد وهو الأمر المنوط كما فى اى نظام ديموقراطى بالاحزاب الشرعية التى تعمل تحت مظلة الدستور والقانون وتتبع الوسائل السلمية والديموقراطية لتحقيق سياساتها و أهدافها.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات