والحقيقة، أن تل أبيب وصلت تقريباً إلى نفس الاستنتاجات التي وصل إليها الحشد الشعبي الإعلامي في بيروت والتي وقفت خلف تشنجه وعويله تجاه العملية وتطوراتها وتداعياتها.
نقلت القناة الإسرائيلية العاشرة مساء السبت 3 أيلول/ سبتمبر، عن مصادر عسكرية في قيادة المنطقة الشمالية انزعاجها وقلقها من التداعيات الخطرة جدا -حسب تعبيرها-لعملية درع الفرات كونها قضت على فكرة الرواق، أو الكيان الكردي، شمال سورية؛ وبالتالي فكرة تقسيم سورية وهي الفكرة التي دعمتها تل أبيب دوما، كما الكيان الكردي الانفصالي الذي تراه أيضا حليفا محتملا لها في سورية لمواجهة الحركات الإسلامية المعادية لها سواء بقي النظام، أو سقط، كما نقلت القناة الإسرائيلية.
الانزعاج الإسرائيلي من العملية طال كذلك الولايات المتحدة التي اضطرت كما نقلت القناة الإسرائيلية الأولى عن مصادر في ديوان رئيس الوزراء لتأييد العملية بعدما فرضتها عليها تركيا كحقيقة واقعة على الأرض، وان سياسة الانجرار أو التبعية تشبه تلك التي اتبعتها واشنطن مع روسيا في سورية نفسها؛ كما مع طهران في ملفها الملف النووي، وتغاضيها عن السياسة الإيرانية الإقليمية الدموية والمدمرة في سورية والعراق واليمن، علما ان تل أبيب تستغل الجرائم الإيرانية للتغطية أو لفت الانتباه عن احتلالها وجرائمها بحق الشعب الفلسطيني.
وكان المعلق الإسرائيلي "بوعز بسموت" زعم في صحيفة إسرائيل اليوم، الجمعة 2 أيلول/ سبتمبر، ان الخطط الأصلية لدرع الفرات كانت تلحظ مشاركة القوات الخاصة الأمريكية إلى جانب القوات الخاصة التركية جنبا إلى جنب في العملية، إلا ان أنقرة بادرت إلى التنفيذ وحدها ثم إجبار واشنطن على التساوق معها وتأييدها سياسا، ودعمها عسكريا؛ ولافتة كانت إشارة بسموت إلى ان واشنطن اعتقدت ان العملية ستستغرق أسابيع طويلة، بينما أنهتها تركيا في ساعات قليلة ما زاد من ثقتها بنفسها، كما بتكريس تحكمها وقيادتها بالعملية وأهدافها.
الحقيقة ان ثمة أسباب عديدة تقف وراء الانزعاج الإسرائيلي من درع الفرات؛ أولها الدخول التركي القوى على خط القضية السورية فيما يتعلق بالبعد العسكري تحديدا كون تل أبيب لا ترتاح إلى السياسة التركية العامة في المنطقة، وهي اضطرت للمصالحة معها تحت ضغط المصالح المشتركة الاقتصادية أساسا؛ غير ان العلاقة بين البلدين تشبه، الزواج بالإكراه ودون حب، حسب التعبير الإسرائيلي الدارج، ولا تصل إلى حد إجراء حوار سياسي أو عسكري عميق حول سورية كما يحدث مع الروس مثلا، ربما يكون حوار امنى متعلق بمكافحة الإرهاب ومنع إسرائيل من دعم الحركات الإرهابية حسب التصنيف التركي؛ ولكن أنقرة لن تكون مضطرة بأي حال من الأحوال أيضا لنقاشات سياسية متعلقة مع تل أبيب حول سورية رغم سعى هذه الأخيرة الدؤوب لحدوث ذلك.
شروط تركيا لمحاربة الإرهاب في سورية والتي تبدت في عملية درع الفرات تزعج إسرائيل أيضا علما ان تلك الشروط تتضمن الحفاظ على وحدة التراب السوري ورحيل الأسد ورموز نظامه ومجرميه وتأسيس إدارة وحكم وطني غير طائفي لا يقصى أحدا، مع التأكيد على قدرة أنقرة على سحق الحركات الإرهابية والانفصالية دون تمييز بجيشها الجرار والقوى، وبالتالي إعادة الهدوء والاستقرار لسورية وهى كلها أمور تنزعج منها إسرائيل التي تريد استمرار المحرقة التي يمارسها بشار الأسد وحلفائه بحق البلاد والعباد، مع حفظ الأمن على الحدود في الجولان؛ كما كان الأمر طوال الخمسين عام الماضية.
السبب الثاني للانزعاج الإسرائيلي يتعلق بقضاء العملية منذ يومها الأول، بل من لحظاتها الأولى وحتى بمجرد حدوثها على فكرة إقامة كيان كردى شمال سورية متصل لا يضعف تركيا فقط ويعزلها عن عمقها العربي الإسلامي، وإنما يقسم ويضعف سورية نفسها ويحول دون عودتها قوية موحدة، ما يشكل خطر جدي على إسرائيل ولو بعد حين.
وحسب القناة الإسرائيلية فان كيان كردى أو إقليم كردى متصل جغرافيا يطل على المتوسط مدعوم أمريكيا هو حليف محتمل، بل أكيد لإسرائيل، خاصة من الناحية الأمنية في مواجهة الحركات الإسلامية المعادية لها؛ ومن ناحية أخرى فانه يجسد فكرتها وهدفها بتفتيت المنطقة عرقيا ومذهبيا وتقسيم وإضعاف دولها المركزية الكبرى، والاهم انه يكرس مفهوم تكتل أو حلف الأقليات الذى نادت به إسرائيل منذ وقت طويل، واستغلت استبداد وعجز وفشل الأنظمة العسكرية العربية التي حكمت بلادنا في حقبة ما بعد الاستقلال في تأسيس دول مدنية ديموقراطية لكل مواطنيها دون تمييز أو استثناء لإقامة قنوات اتصالات مع ما اعتبرتها أقليات مضطهدة، كما حصل في لبنان والعراق وحتى في السودان .
إسرائيل فهمت كذلك مغزى عودة الجيش الحر كقوة مركزية على الساحة لا يمكن محاربة الإرهاب أو هزيمة داعش ودحرها دونه؛ الجيش الحر الذى يعبر عن المزاج الجمعي السوري التوحيدي المعادي لإسرائيل والذى لا يحمل ودا لها أو حتى للولايات المتحدة نفسها، والأهم من ذلك ان هذا الجيش الحر مصر على قتال وهزيمة النظام ورحيله، كما على توحيد البلاد ورفض تقسيمها لاستعادة قوتها ومنعتها، وهى كلها أمور لا ترتاح لها إسرائيل المستلبة لفكرة أو مفهوم الأمر الواقع، كما كان الحال مع نظام الأسد الأب والابن ثم في الواقع الحالي الذى فرضه في سورية بعد الثورة مع القتل المنهجي والجرائم التي ارتكبها بحق الشعب السوري، كما بحق البلد ثرواتها ومقدراتها.
إسرائيل فهمت بالتأكيد مغزى ودلالة نموذج جرابلس بالضبط، كما فهمته الولايات المتحدة وحلفائها العلنيين في إيران وحشدها الشعبي والذي يثبت ان بالإمكان هزيمة الإرهاب بالاستعانة باهل البلد وقواه الحية والشرعية دون تدمير المدن وتشريد أهلها –نموذج منبح والفلوجة-وبما يكفل أيضا عودة المهجرين واللاجئين لتخفيف الأعباء عن دول الجوار، وإفشال خطط بشار وحلفائه ومعادلته الإجرامية -التي استثنيت منها إسرائيل-الأسد أو نحرق المنطقة، التي مثلت تحديثا إقليميا للمعادلة المحلية الأسد أو نحرق البلد.
في العموم قضت عملية درع الفرات على كيان بى كا كا السوري الذى تعاطت معه تل أبيب كحليف حتى قبل ولادته رسميا، وهى كرست تركيا كما الجيش الحر لاعبين مركزيين في التطورات السورية لا يمكن تجاوزهما لاعبان يصران على وحدة التراب السوري وعودة المهجرين وإعادة إعمار البلاد وتأسيس حكم وطني ديموقراطي رشيد غير طائفي لا يقصى أو يستثنى احد ما يتناقض مع تمسك تل أبيب العلني والذى لم يعد سرا ببشار الأسد كحاكم يقتل شعبه ويدمر بلاده، بينما هو "جبان أمام إسرائيل يحمى امنها كما فعل خلال عقود" وفق التعبير الدقيق الحرفي والصحيح للأكاديمي والمحلل الأمني ايدى كوهين الذى اوجز أخيرا نظرة القيادة الإسرائيلية الحقيقية للأسد ونظامه، وهى النظرة التي تمثل درع الفرات بتطوراتها ومغزاها نقيض موضوعي وجدي لها.
التعليقات (6)