مغترب.. ولكن؟

مغترب.. ولكن؟
يعيرونني بغربتي التي مضى عليها عقدان من الزمن ويزيد, يحطمون فؤادي عندما يقولون لي بلهجتنا العامية " أنت شو بتعرف عن حمص لحتى تحكي أو تدافع عنها ؟ " أو" أنت بتعرف وبتعترف بسوريا بس بالصيف! "

يحاولون تهميشي وذكرياتي التي أعمل جاهداً على ألا أفقدها, غير آبهين لقلبي الذي ينفطر عندما اُتهم بعدم معرفتي بمدينتي أو يُشكك بحبي وتعلقي بها.

والداي مثلاً .. وبعد مرور عامين على بدء الثورة في سوريا, قررت في صيف عام 2013  أن أقضي إجازتي في سوريا, قررت أن اذهب إلى هناك آملاً بالوصول إلى مدينتي حمص المحتلة أسدياً, متحمساً لرائحة ترابها ونسمات هوائها, حالماً بدخول أحيائها القديمة المحاصرة آنذاك , متشوقاً لملامسة جدران بيوتها الحجرية والتجول في أزقتها, سارحاً بشوارعها وأهلها.

عزمت الأمر رغم محاولة والديّ منعي مرات ومرات وبطرق عدة .. أبرزها

" أنت شو بتعرف عن سوريا لحتى قاتل حالك لتروح وتعرض حالك للخطر ؟؟ "

"يا أمي .. أنت وحيدي ومالي غيرك إذا نزلت ماني رضيانة عليك! "

" يا أمي .. انت طول عمرك عايش هون شو مآخدك لهنيك ؟؟ "

" يا أمي نحن ما منعرف سوريا غير بالصيف, مين عم يلعب بعقلك؟؟ "

أما أبي فقد كانت مهمته إرسال رسائله مع أمي وأصدقائي ..

صحيح أني مغترب منذ 25 عاماً وصحيح أني لا أعرف سوريا إلا في الصيف, نعم لا أعرف أجواء أعيادها ولا أعرف شتاءها ولا حتى رائحتها بعد المطر كما تقولون, لا أعرف طعم الخبز المقمر ولا لذة المشروبات الساخنة على "الصوبيات", لا أعرف كيف تنشؤون رجل الثلج وكيف تلعبون بكرات الثلج, حتى أيام الدراسة التي تتحدثون عنها كثيراً لا أعرفها ولم أجربها, زوجتي عمر غربتها عام واحد أخبرتني أيضاً كيف تجلس العائلة بحجرة واحدة حول أدوات التدفئة وكيف يضعون الأجبان تحت "الصوبيا" حتى تسيخ ليتلذذوا بأكلها, أخبرتني كيف يضعون الفول والحُمص على نار "الصوبيا" لأيام .. أشياء كثيرة لا أعرفها.

نعم.. أنا ولدت في مشافي الغربة وتعالجت فيها, كبرت وترعرعت في الغربة, أكلت من ثمارها حتى شبعت وشربت من مائها حتى ارتويت, تعلمت في مدارسها وجامعاتها وعملت في مؤسساتها, تزوجت وكونت أسرة سورية جديدة فيها .. لا أنكر

ومع ذلك لم أسمح لنفسي بأن تنسى أصلها وإلى أي الأوطان تنحدر وتميل كما لن أسمح لأحد بأن يشكك بحبي وتعلقي وانتمائي لتلك الأرض الحنونة.

يا من تعيروني بغربتي .. من قال لكم إني نسيت أصلي وفصلي ونسبي ما قال إن قلبي لا يهوى حمص القديمة وأبوابها .. باب الدريب وسيباطها, باب السباع وقلعتها, باب هود وحجارتها, باب التركمان وأهلها, باب تدمر, باب السوق, باب المسدود؟

من قال إن روحي لا  تجول هناك في أحياء حمص الحديثة .. الدبلان والحمراء والانشاءات والغوطة والمحطة وجزر الوعر الحديثة؟

من قال لكم إني لم ألعب "الطابي" و "الكلال" و "الغميضة" في زواريب الأحياء القديمة ومن قال لكم إني لم ألاحق من كبار السن بسبب إزعاجنا لهم  في الحي؟

من أخبركم بأني لا أعرف جامع الأربعين وقصة ضربة سيف الصحابي خالد بن الوليد الموجودة على أحد حجارة مئذنته؟

كيف لا أعرف جامع بازرباشي أو مسجد أبو الهول ومسجد سيدنا خالد كما يناديه أهلي هناك, جوامع عوف والمريجة والعنابة والدروبي والصوفي والجامع الكبير وسط المدينة .. اقسم أنهم لم يغادروا ذاكرتي.

كنيسة أم الزنار وكنيسة مار الياس, كنيسة السيدة نجاة , كنيسة السيدة العذراء, كتدرائية سيدة السلام, كنيسة الروح القدس وكنيسة مار يوحنا المعمدان, الكنيسة الأنجيلية في العدوية أعرفهم.

كيف لي أن أنسى الروضة وصحن فتة الحمص فيها, قهوة الفرح وجلستها, المسبح البلدي وسهراته؟

من قال لكم إني لا أتذكر مغطوطة الجلبجي أو حلاوة جبن السواس أو حلويات أبو اللبن وكنافة المعراوي ونمورة مخزوم ؟

من قال إني نسيت فروج أبو العوف أو فلافل البتول وحمص أبو شمسو ومخللات الأبرش وشيش كريش وشاورما خير الله وفول وذرة العربات في الشوارع؟

من يستطيع أن ينسى السهرات على أسطح المباني وشرفات المنازل؟

كيف لي أن أنسى أنغام فيروز صباحاُ وصباح فخري مساءً ؟

كيف لا أحن إلى موالد وأعراس وعراضات حمص؟

كيف أنسى ديك الجن ونهر العاصي وشارع الخراب وغابات الوعر ومشاتل الغوطة وبساتين بابا عمرو؟

كيف لي أن أنسى رائحة أفران العكام ومحال الحلويات أو رائحة سوق الحشيش ورائحة خبز التنور وطعمه .. من لا يعرف سوق البالة أو سوق الحرامية؟

كيف لا أعرف بيوت عوائل حمص وكيف يجتمعون في مضافات آل السباعي بحي بني السباعي ,آل الجندلي في السوق ,آل الصوفي في الإنشاءات , الأتاسي, طيارة, حاكمي وغيرهم ؟؟

من قال لكم أني لا أعرف ولا أميز بين أهالي حمص الأصليين وبين ما جاء واستقر بها؟

يا من تعيرونني بغربتي .. أجواء رمضان وزحمته لم أنسها بعد, لم أنس التدافع على مشروبات العرق سوس والجلاب والتمر الهندي وقمر الدين ومشاجرات ما قبل أذان المغرب؟

كيف تتهمونني بعدم معرفتي بمدينتي وتفاصيلها, ومن أخبركم أصلاً بأن المغترب لا يحن لوطنه ولا يئن عليه؟

من أين أتيتم بهذه الأفكار ؟!

لم نخرج بإرادتنا ولم نخرج حباً بالغربة ولأننا كذلك لم ننس تفاصيل مدينتنا ومازلنا نهوى مدننا

نعم أنا مغترب .. لم ولن أنس مدينتي رغم بساطة ما أتذكره, لم ولن أنس كيف يعيش أهلها وكيف يقضون يومهم وكيف يفكرون وماذا يفعلون

أخيراً سأخبركم بأني نجحت في الوصول إلى سوريا بصيف 2013 ولكن قدر الله بأن أبقى محروما من رؤية مدينتي الطيبة حيث استقر بي الحال في ريف حلب ولم أتمكن من تحقيق حلمي بالوصول إلى أعتاب حمص .. لأعود إلى هنا منتظراً أن يحنّ القدر لنعود إلى ديارنا.

التعليقات (6)

    الحجة

    ·منذ 7 سنوات 6 أشهر
    تاء رت بكلامك لدرجة ابكتني عواطفك الصادقة وانا بشوق لكل شبر بسوريا لعانق صغارها وكبارها واكون بقربهم ئمسح جراحهم بدل ما ءاقف مقابل شباكي رافعة يديا ءالى السماء بعد كل صلاة باكية ليس لنا غيرك يا الله فرجك قريب ان شاء الله

    شام

    ·منذ 7 سنوات 6 أشهر
    عن انت ما بتعرف سوريا

    مواطن سوري

    ·منذ 7 سنوات 6 أشهر
    أنت تعرف من سوريا القدر الكافي لتحن لها وتنتمي إليها ... وهناك من يعرف من سوريا ما هو أكثر بكثير .. ولكنه ارتضى أن يبيعها ويتاجر بمحنتها .. فالموضوع إذاً ليس بالأقدمية .. ولكن بالآدمية

    عربي سوري

    ·منذ 7 سنوات 6 أشهر
    لا يعرف قيمة الوطن إلا الي تغرب عنه

    اياد من جبل ااشيخ

    ·منذ 7 سنوات 6 أشهر
    لا كثر الله امثال هذا الموضوع البائس...عندما تكتب موضوع في المستقبل تخيل ان قاسم سليماني يقرأ موضوعك...او بوتين او بشار اونتنياهو...او أصغر مقاتل في حزب حسن نصرالله...أو أي إمرأة متوحشة في الحشد الشعبي ..أو متطوع أجنبي مع داعش.....إلا إذا كنت تنتظر مخرج باب الحارة أن يعيش بإبداعك أو نانسي عجرم سفيرة الطفولة أن تصفق لك...موضوعك عزيزي مكانه مجلة سيدتي أو زهرة الخليج

    حمصي من باب الريب

    ·منذ 7 سنوات 6 أشهر
    والله حطيت إيدك على الجرح ياطيب.
6

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات