كيف تغير العالم بينما كنا نياماً..

كيف تغير العالم بينما كنا نياماً..
ما الذي يحصل للعالم؟، وكيف علينا أن نقضي بقية حياتنا وحيوات من سيأتي بعدنا؟، أين سنذهب، وهل نشعر بالأمان ؟.هي الأسئلة التي تجتاح عقول سكان الأرض دون توقف منذ 48 ساعة على الأقل ،وبين المزاح الأسود و السخرية ووصولاً إلى نوبات الهلع ،استفاق سكان الشرق الأوسط واوروبا والعالم على بعبع دونالد ترامب الهائج ،والذي يريد الاطاحة بالضعفاء و المضطهدين لينتصر إلى بني قومه من البيض الأنجلو ساكسونيين البروتستانت ،الذين تكونت النواة الأصلية من مهاجري الولايات المتحدة الأميركية منهم في الأصل، قبل أن تتحول أكبر دولة راعية للمهاجرين إلى كابوس لهؤلاء أنفسهم .فاضطربت الأسواق و تداعى المسلمون للتنديد واللاتينيون و الأفارقة للتظاهر، الأوروبيون أصدروا بيانات تطالب بتوضيح الموقف ،الصينيون و الإيرانيون انكمشوا على أنفسهم ، فجأة فتح الباب و دخل الذئب الجائع الى قن الدجاج .وانقلب الراعي إلى صياد.

 فبعد فرض القوانين الليبرالية والضغوط التي تمارسها لوبيات اليسار و مشرعي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي بات أشبه بدستور أو إنجيل الحضارة البشرية التي نعيش بها ونعرفها ،منذ ذلك الإعلان عام 1948 بدأ تطبيق  تدريجي في العالم لأساسيات الحضارة الحديثة ،من المساواة إلى حرية التعبير و حق السفر وتقرير المصير والحرية الجنسية  وحرية المرأة الخ ..

وباتت رقعة هذه المفاهيم تكبر عاماً بعد عام ، مشكلة رقعة كبيرة جداً من خريطة عالمنا المعاصر ،حتى صار تقييم الدول والأنظمة والحضارات مرتبطاً بحجم تنفيذ هذه المبادئ التي حكمت حتى الاتفاقيات الاقتصادية والتبادل التجاري وقروض البنك الدولي وأصبح أحد شروط توقيع الاتفاقيات الدولية هو إحداث تغيير في المجتمع انتصاراً للإنسان وقيمه ، لكن من هنا تحديداً جاءت المشكلة الرئيسية، حيث دفعت المجتمعات الغربية وحدها فاتورة الأنظمة الدكتاتورية حول العالم ،وحينما نتكلم عن العالم الغربي المتحضر، فنحن نتحدث عن الولايات المتحدة و كندا و اوروبا الغربية و استراليا ونيوزيلندا فقط ،دون بقية العالم .

حيث كان من تبعات تشدد الأنظمة السياسية في هذه الدول في تطبيق مفاهيم الليبرالية وحقوق الانسان، أن استقبلت وعبر المائة سنة الأخيرة، المهاجرين من إفريقيا والشرق الأوسط وكتلة الاتحاد السوفييتي و أوروبا الشرقية والصين والهند وأميركا الجنوبية ..ملايين وربما مئات الملايين من الأفراد ممن رفضوا الخضوع لسلطات الدكتاتورية، أو على الأقل رغبوا في التمتع بنعيم الاقتصاد الحر والمجتمعات المنفتحة، حيث أرض الأحلام والفرص التي تنتظر السواعد العطشى للعمل وبأرخص الأسعار، وبأكبر عدد ممكن من الساعات، (طبعا هذا قبل تطبيق شروط العمل التي تحدد ساعات وأجور متساوية للجميع ).

 وعبر هؤلاء أعيد إعمار أوروبا الغربية وتوسعت رقعة الحضارة في كندا وأستراليا، وتحقق نمو اقتصادي مبهر في الولايات المتحدة ،ومع تقدم رونالد ريغان إلى الرئاسة و بزوغ النيوليبرالية في أميركا ، تفاقمت الأزمة المجتمعية في العالم الغربي ،وبدأت الدورة الحضارية المجتمعية  تصل إلى نهايتها ، واقتربت الطبقة الوسطى المحافظة الصامتة التعبة المكونة للنواة الأساسية لتلك المجتمعات من الانفجار بعد عقود من متابعة اهتمام أنظمتها بالأخرين على حد تعبيرهم .

لكن القوانين الصارمة والتربية العظيمة على احترام هذه القوانين والثقافة الديمقراطية  الراسخة في الغرب استطاعت امتصاص النقمة والغضب اليميني وتحويل هذا الغضب من مقاربة للعنف إلى صراع انتخابي ديمقراطي مشروع تحت سلطة الدستور . وحينما يتم إجهاض العنف ،تأتي السخرية والنكتة في الانتقام الذي نفذته تلك الطبقة تجاه النظام السياسي المهترئ ، فجاءت صرخة هؤلاء في استفتاء البريكست وبعدها تم التصويت لترامب كرئيس ل الولايات المتحدة الأميركية ،وهي ليست أول مرة فقد قام سكان كاليفورنيا سابقاً بانتخاب نجم سينما العنف أرنولد شوارزينغر وقبله نجم المصارعة فينتورا في ولاية منيسوتا 

.

إن ذلك الغضب اليميني ،من التأثيرات الاجتماعية لسياسات الليبرالية ،من إقرار حقوق المثليين إلى تشريع الاجهاض إلى تقدم المهاجرين من الملونين في المراكز العليا في تلك الدول وخصوصاً أميركا ،إلى الاهتمام المبالغ فيه بحقوق الحيوان (حسب رأيهم) والأقليات والبيئة و الغلاف الجوي والمجرة ،انفجر حينما بات الاهتمام بالطبقة الوسطى المحافظة يصل إلى مراحل مخيفة من التدني،دون أن تلحظ تلك الأنظمة تفاقم مشكلة البطالة مثلاً أو تنامي الحس القومي والصراع على الهوية المحلية في بحر متلاطم من العولمة والشعور بالغربة في بلدهم نفسها، فالشعور بالمساواة أمر غاية في الأهمية في لب الحضارة البشرية، ولكن شئنا أم أبينا فإن هذا الأمر لا يعجب الكثيرين من المعسكر اليميني ( دون أن ننسى أن 70 % من أميركا من البيض مثلاً) خاصة حينما يركز الإعلام مراراً وتكراراً على فكرة ( ليس كل المسلمين ارهابيين ولكن كل الارهابيين مسلمين) أو حينما يكون عدد المغتصبين والمجرمين في الغرب في الغالب من الأصول الافريقية أو من اللاتينين، طبعا هذا بسبب عدم القدرة الكاملة على ادماجهم بالمجتمعات.

 ولكن رجل الأسرة المتوسطة ذو الكرش الأبيض لا يرغب بأكثر من هذه المعلومات كي يحسم رأيه ،بسرعة و حماس، فلا وقت لديه للجدل وإيجاد المبررات ،فهو قد حسم قراره بأن كل مشاكله تكمن في الآخر ،وبأن عليه أن ينكمش من جديد على ذاته وعلى قوميته أو دينه كي يجد الملاذ من الكارثة التي يعيش فيها ،وهذا لا يعني بأنه سينقلب على الفكر الليبرالي كاملاً أو سينقض على وثيقة حقوق الانسان ،ولكنه على الأقل ،يريد أن يعلن أنه سقم من سبعين عاماً من السياسات الليبرالية ويريد تغيير شروط اللعبة، وما هي إلا سنتين على التدفق العالمي ل اللاجئين من دول الربيع العربي ، حتى فاضت الأصوات اليمينية من أوروبا ، وفكت بريطانيا روابطها مع الحلم الأوروبي بقارة أفضل ،و أعلن (المدفع المنفلت ) حسب تعبير هيلاري كلينتون ،انتصاره في الانتخابات الرئاسية الأميركية.

إنه عالم مجنون، صحيح ، لكن لا جديد في الأمر ، فالدائرة الحضارية للمجتمعات لا تنتظر من أحد أن يوقفها ،واليمين قادم ، في عالم متحرك حيث نحن لسنا سوى متفرجين فيه ،فقد سأم المواطن العادي من الليبرالية والأسواق المنفتحة مجاناً ، وسيولي هذا المواطن أسوأ الشخصيات لو اضطر لينتزع حقه من المؤسسات التي ستحكم أوروبا كاملة مع أميركا ،وسيتصادم اليمين الغربي مع اليمين الشرقي المتطرف الجاهز و المنفلت أيضاً ، في كل من الصين و كوريا وروسيا والعالم الاسلامي ،وستأتي حروب كبرى لتطهر كل ذلك ،ريثما تدور الدائرة الحضارية الاجتماعية مجدداً لتستفيق القيم ما بعد النيوليبرالية من جديد كي تحكم هذا العالم المضطرب .الذي يتقلب ساعة بعد ساعة بينما نحن لا نزال نياماً ،وإن صحونا فذلك كي نتفرج.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات