مهرج حلب والسيرك المفتوح..

مهرج حلب والسيرك المفتوح..
ربما لم يفهم أحد ما في الشرق الأوسط ماهية ما يجري في البلاد منذ العام 2011، مثل الفهم الذي عبر عنه أنس الباشا، الشهير بـ ( مهرج حلب ) ، فكم الفوضى و عدم الاتساق و العبثية والمبالغة و الأفعال غير المنطقية التي ترقى لدرجة السوريالية ، لا يمكن توصيفها إلا بسيرك مفتوح يوضع فيه البشر في فوهات المدافع، و يرمي الجنود فيه براميلاً على الناس العزل ،وهم يتضاحكون بفرح دونما أي احساس بالفاجعة التي ستحصل في الأسفل ، ثمة من يفعل بوحشية أفعال السحرة من تقطيع للأجساد و فصل للأجسام ، ولكنها صنعة سيئة لدرجة أنها تبدو حقيقية ،وهنالك من يقفز في دوائر النار ويختفي فيها ، ومن يرشق الأخرين بسكاكين دون أية دقة أو حرفة ،فالقتل  أو الاصابة هنا  أصبح غير ذي اهتمام .

في ذلك السيرك المفتوح والمستمر، أحد ما أدرك أن للمدن نبضاً خاصاً بعيداً عن المباني والمشيدات و ذوات الأضرحة ،ثمة من يدرك أن المدن تنبض بسكانها و بأهلها، فهنالك ظرفاء دمشق و ادلب وحلب ،وعشاق خائبون في حماة و وعشاق المزاح المستمر في حمص و فرسان في الدير.

هنالك رجل أصفر كذلك في حلب لا يرتدي على مدار العام سوى بذلات و أحذية وقمصان صفراء اللون يجول شوارع المدينة، وأخيراً هنالك مهرج حلب الذي آثر أن يبقى يجوب المباني المهدمة ،داخلاً من بيت وخارجاً  إلى احتفال  ،وكل ذلك في سبيل انتزاع ضحكة من الأطفال النحلاء ،الذين ولدوا وكبروا على وقع أصوات القصف المجلجلة تتهادى في ذاكرتهم الصغيرة. 

اختار أنس الباشا ذو الـ 24 عاماً فقط البقاء في مدينته لإسعاد ما تبقى من أطفالها ، اختار البقاء لإنعاش نبض المدينة العريقة التي جفت كل ينابع الحب فيها بفعل القصف غير المسبوق في تاريخ البشرية ، فعمل ينشر الضحكات عبر المزاح و الصراخ و المقالب الطفولية والزحلقة فوق الأسقف المائلة التي كان يسحر بها أطفال الشهباء ، وعبر ألوان وجهه الفاقعة بالأحمر و الأصفر و الأخضر كسر رمادية غبار المدينة  التي أضحى كل ما بها بلون واحد هو لون غبار القصف الرمادي المبيض ، وعبر صدى الضحكات أصبح أنس الباشا ( مهرج حلب ) الذي لا يمكن أن يمر عيد أو عطلة أو احتفال لمن تبقى في حلب دون أن يكون متواجداً فيه ، غدا أنس الباشا مرادفاً تلقائياً للفرح الممزوج بالأسى ، أصبحت صورته برهاناً في ذاكرة الصغار على أنه من الممكن أن تكون الحياة ألطف في يوم ما ،ورويداً رويداً اختفى أنس الباشا و انتشر  مكانه مهرج حلب، يرقص بين المباني المهدمة ، فوق الأسقف التي سويت بالأرض ، يضحك قرب البراميل التي لم تنفجر ، يسخر من اليائسين و المتشائمين ، يضحك و يضحك، و يضحك معه كل أطفال حلب ، حتى هزت أصوات ضحكاته الطائرة التي تبحث عن كل شيئ يتحرك في حلب وكادت تسقطها ،فاستدار الطيار الغاضب عائداً إليه ، مفرغاً جل حمولته على مكان خروج الضحكة ، كانت ألوانه تكشف مكانه في بحر من الرماد ، فإقتنصه الطيار الذي عقد جبينه  غضباً من قهقهته ،وحينما قفل الطيار عائداً الى قاعدته ، ضحك ،دون أن يدري ما هو سبب ضحكته ،ولكنه نجح في قتل مهرج حلب ،فاتحاً الباب مجدداً للسيرك المنصوب فوق المدينة ،سيرك اللامنطق ، سيرك الكراهية ، سيرك الدم.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات