التوتر التركي الألماني بين الأيديولوجيا والسياسة

التوتر التركي الألماني بين الأيديولوجيا والسياسة
تثير المواقف الألمانية المزعجة أو المعادية لتركيا مواقف استغراب لدى الشعب التركي، فالمستشارة الألمانية كثيرة الزيارة إلى تركيا، وتبدي حرصا كبيراً على التعاون مع الحكومة التركية، ولكن المواقف المتناقضة من داخل ألمانيا تعكس هذه المواقف، فالاعلام الألماني يشن هجوما متواصلا ضد رئيس الجمهورية، وضد الحكومة التركية، وضد البرلمان التركي، وضد الشعب التركي، ولا بد ان وراء ذلك أسباباً يمكن تحليل بعضها، ولكن بعضها الآخر غير قابل للتحليل عندما تعود لأسباب أيديولوجية من المفترض أن تكون الأحزاب الألمانية قد تجاوزتها، حتى لو كانت من أحزاب اليمين المتطرف في ألمانيا، فتركيا لا تبدي مواقف أيديولوجية معادية لألمانيا ولا لغيرها من الدول الغربية والشرقية، ولكنها لا تسمح لأي دولة مهما كانت مكانتها الدولية أن تنظر إليها نظرة استكبار او تعال، فالشعب التركي مثله مثل باقي الشعوب الأوروبية من حقه أن يقرر مصيره، وان ينتخب الحكومة التي يريدها، وان يغير دستوره ونظامه السياسي بإرادته الحرة، وان يضع خططه الاقتصادية في التنمية والطرق والازدهار بكل حرية، حتى لو نظر لها البعض على أنها مشاريع اقتصادية منافسة لهم، فحرية الاقتصاد من أهم أسس الاقتصاد الرأسمالي الليبرالي الحر، وازدواجية النظر للشعوب الأوروبية غير مقبولة في هذا العصر.

قد تكون بعض الأحزاب الألمانية غير راضية عن التعاون الألماني التركي فيما يخص اتفاقية اللاجئين السوريين، الموقعة بين تركيا والاتحاد الأوروبي بتاريخ 18 مارس /آذار 2016، فهذه الاتفاقية ليست خاصة بألمانيا أولاً، وإن كانت المستشارة الألمانية هي أكثر من فاوض عليها، وهي في النهاية اتفاقية لم تلتزم بها دول الاتحاد الاوروبي فيما يخص التزاماتها نحو تركيا، ولم تجعل منها تركيا أزمة سياسية، بل هي تهدد بوقفها ما لم يتم الالتزام بها، لأن تركيا تنظر إلى المصالح المشتركة الكبيرة مع ألمانيا وغيرها كأولوية على غيرها من القضايا الجزئية، ولكن ما أزعج الحكومة التركية كثيرا وعلى كل المستويات السياسية هو قيام إحدى البلديات الألمانية مؤخرا بالغاء فعالية لأبناء الجالية التركية، كان سيحضرها وزير العدل التركي، بكر بوزداغ، ووزير الاقتصاد نهاد زيبكجي، وذلك بفعل التحريض المتصاعد من قبل الإعلام الألماني.

وردود أفعال تركيا تظهر أنها لا ترغب بالسكوت على الحادثة ولا بالتصعيد أيضاً، وقد استنكرت الحادثة على لسان رئيس الجمهورية أردوغان، قائلاً:" يمنعون وزير عدلنا الذي سيذهب لإجراء محادثات رسمية ومخاطبة مواطنينا هناك، يمنعون وزير اقتصادنا من التحدث هناك، كما منعوني من التحدث عبر دائرة تلفزيونية مغلقة في لقاء جماهيري بألمانيا عبر قرار اتخذته المحكمة الدستورية في غضون ساعتين فقط بشكل لم يسبق له مثيل بالعالم"، أي أن أردوغان لا يقرأ الحادثة منفردة، وإنما ينتقد سياسة خاطئة ممنهجة في ألمانيا ضد تركيا، فأردوغان يشير إلى منع السلطات الألمانية، أواخر يوليو/تموز 2016، متظاهرين في مدينة "كولونيا" الألمانية كانوا يجتمعون للتنديد بمحاولة الانقلاب، من إجراء اتصال بواسطة دائرة تلفزيونية مغلقة، مع الرئيس أردوغان، حيث كان من المقرر أن يلقي خلالها كلمة للمتظاهرين، وكان ذلك تصرفا غير لائق أيضاً.

وهنا يشير الرئيس أردوغان إلى أهم أسباب التوتر التركي الألماني وهي التسهيلات التي تقدمها الحكومة الألمانية للتنظيمات الارهابية التي تعادي تركيا ومنها حزب العمال الكردستاني الارهابي فقال أردوغان:" وبعكس ذلك فإن جميل بايك (قيادي في بي كا كا) يجري اتصالاته ويتحدث هناك، فيجب محاكمة أولئك على دعم وإيواء الإرهاب"، فالحكومة الألمانية تسمح لإرهابيي حزب العمال لالكردستاني القيام بنشاطات سياسية، بالرغم من ان الحزب هو حزب إرهابي على القوائم الدولية بما فيها الألمانية، بينما التصريح الذي تم سحبه من قبل بلدية مدينة غاغناو الألمانية كان ترخيصا لـ"اتحاد الديمقراطيين الأتراك الأوروبيين"، الذي كان أخذ تصريحا رسمياً بإقامة هذه الفعالية.

هذا الالغاء أدى لإلغاء زيارة وزيري العدل والاقتصاد ولقائهما مع نظرائهما الألمان، وعلق وزير العدل الركي بوزداغ:" أن قرار إلغاء الفعالية أكبر من أن تتخذه بلدية"، وهذا انتقاد للحكومة الألمانية ولوزير العدل الألماني أيضاً، وقد وصف بوزداغ القرار الألماني بـ"الفضيحة" أولاً، وأنه:" يتنافى مع اللباقة الدبلوماسية"، فليس من اللباقة إلغاء حفل يحضره وزراء بمجرد قرار بلدي وبحجج واهية، مثل قولهم بعدم وجود مرافق في الموقع، ولذلك لم يكتف بوزداغ بانتقاد الموقف الألماني بل كشف خفاياه بقوله:" لا يوجد درس ديمقراطي يمكن أن تتلقاه تركيا من ألمانيا، ونرى أن الأمراض القديمة عادت اليها"، وقال:" إن المسؤولون الألمان الذين يرددون دائماً كلمات الديمقراطية، ودولة القانون، وحقوق الإنسان، وسيادة القانون، ويتهمون كل من سواها بعوق الديمقراطية، وعدم رعاية حقوق الإنسان، انتهكوا ومنعوا حق إلتقاء الأتراك في مبنى بألمانيا، الذي يعد حق أساسي في الوثيقة العالمية لحقوق الإنسان"، متهما بوزداغ السلطات الألمانية بعرقلة حرية التعبير في البلاد، ومتسائلاً:" ألستم ديمقراطيون، وتقدرون دائماً حقوق الإنسان؟"، فكيف يقدمون على انتهاك حقوق الانسان؟ لولا أن القضية متعلقة بالأتراك، وكأنه يحق للألمان انتهاك الديمقراطية وحقوق الانسان إذا كان الأمر متعلقا بالأتراك، وهذا لا يفسر إلا بانه سبب أيديولوجي أعمى، ومخالف للقوانين السياسية والانسانية.

ما يؤكد أن هذا الموقف أيديولوجي ضد سياسات الحكومة التركية فقط، هو ان السلطات الألمانية تغض النظر عن الإرهابيين من حزب العمال الكردستاني، ومن جماعة فتح الله جولن في ألمانيا، بل وتقدم له تسهيلات ومساعدات، حيث تقدم العشرات من الضباط الأتراك الذين كانوا يخدمون في مقرات الناتو في ألمانيا وغيرها، فقبلت منهم تقديم طلبات اللجوء السياسي في ألمانيا، بينما هم متهمون بأعمال إنقلابية في تركيا، بانقلاب 15 تموز الماضي، وتطالب وزارة الدفاع التركية عودتهم إلى تركيا لتقديمهم للقضاء وليس إلى السجن، والمحاكم هي التي تقرر الأبرياء أو المدانين منهم، ومع ذلك لم تقم ألمانيا بإعادتهم لبلادهم، وهذه واحدة من أسباب التوتر التركي الألماني أيضاً، بل أصبحت ألمانيا قبلة كل المتهمين في المحاولة الانقلابية الفاشلة، مما دفع وزير العدل التركي للقول:" كنا نقول إن جدار برلين سقط منذ فترة طويلة، إلا إننا نرى اليوم، ثمة جدران إيديولوجية في عقول البعض بألمانيا، وما تزال تنشأ جدران جديدة أخرى فيها".

وإثر ذلك اتصل وزير الخارجية الألماني غابرييل بنظيره التركي جاويش اغلو ليتم بحث ذلك الخطأ عبر الوسائل الدبلوماسية وليس عبر الوسائل الاعلامية،  وقد أعرب له جاويش أوغلو خلال الاتصال عن انزعاج بلاده من التطورات التي ترتبت على إلغاء الفعالية، واتفاقا على عقد لقاء بينهما في 8 مارس/ آذار الجاري في ألمانيا، وهو ما أكده رئيس الوزراء التركي بن علي يلدرم بمؤتمر صحفي، وذلك مؤشر على ان التوتر الأخير كشف عن غيظ تركي كبير من الانتهاكات الألمانية بحق تركيا، وقد تم التعبير عنه من أعلى المستويات، وهذا ما اضطر الحكومة الألمانية لمتابعة ذلك والسعي لمعالجته.

ولذا فإن جهود المعالجة ينبغي أن تعالج العقلية المريضة لدى بعض الألمان، بغض النظر عن نسبتهم، فلا بد من وضع حد لهذه الانتهاكات التي تنتهك القانون، بما فيها انتهاك وسائل الاعلام الألمانية لحقوق الشعب التركي، فالشعب التركي لا يرضيه انحياز وسائل الاعلام الألمانية لشرذمة من الانقلابيين والمطالبة بحقوقهم، في الوقت الذي يتم فيه تجاهل حقوق المئات من الشهداء والآلاف من الجرحى، لمجرد ان غايتها الاساءة إلى تركيا بتغطية إعلامية كاذبة أو منقوصة أو منحرفة.

وأخيرا فليس من حق التنافس الانتخابي بين الأحزاب الألمانية في الانتخابات الألمانية القادمة أن يجعل من الاساءة إلى تركيا وشعبها وجيشها واقتصادها ومشاريعها التنموية ـ ولأسباب أيديولوجية لدى أحزاب اليمن المتطرف ـ وسيلة لكسب ثقة الناخب الألماني، فالعلاقات الدبلوماسية والدولية هي بين الحكومات وليست بين أحزاب خارج السلطة وحكومات منتخبة في بلادها، فكما لا يجوز لحزب تركي معارض أن يسيء للعلاقات التركية الألمانية، فكذلك لا يجوز لحزب ألماني معارض أن يسيء للحكومة التركية أو شعبها، أو ان يقوم بتقرير سياسة بلاده وهو خارج السلطة نحو دولة اخرى، وهذا ينطبق على وسائل الاعلام أيضاً، فتناول الشخصيات السياسية في الدول الأخرى ليس بلا ضوابط، حتى لو كانت هذه الشخصيات تركية أو من غير الدول الأوروبية، فالاساءات الاعلامية للرئيس التركي أردوغان غير مقبولة، لأنها ليست خاصة به اولاً ، وإنما لما يمثله من رئاسة الجمهورية التركية، فهو رمز هذه الجمهورية، فضلا عن ان الاساءات كانت كاذبة وغير صحيحة، وهذا يتطلب من الحكومة الألمانية وغيرها من الحكومات الأوروبية عدم الأخذ بازدواجية المعايير في التعامل مع المسؤولين الأتراك وغيرهم من المسؤوليين الأوروبيين، فعدم الموافقة على نهج سياسي معين للحكومة التركية لا ينبغي ان يتم عبر الاساءات الشخصية ولا تجاوز القانون، ولا الأخلاق الدبلوماسية. 

التعليقات (1)

    kk

    ·منذ 7 سنوات 3 أسابيع
    محمد زاهد غول.. سياسي و محلل وخبير بارع وماهر وبأقصى درجات الزكاء والحنكة الدبلوماسية وعلى معرفة ودراية تامة و وثيقة بأصول البروتوكول الدولي. و المحبة لوطنه الحبيب علينا وعليه متفوقة في قلبه .. اللهم رد لنا شامنا سوريا ردا جميلا يرضيك ويرضينا إنك على كل شيء قدير.
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات