الحقيقة البائسة لسوريا "المفيدة"

الحقيقة البائسة لسوريا "المفيدة"
تروّج بعض وسائل الإعلام أنّ التقدّم العسكري الّذي حقّقته الميليشيات الشيعيّة الإيرانيّة مع الدعم العسكري الروسي وبقايا جيش الأسد سيؤدّي للسيطرة على ما أسموه سوريا المفيدة، والتي تضم المدن الرئيسيّة: دمشق وحلب مروراً بحمص وحماه ومنطقة الساحل، يقدّر عدد السكّان في هذه المناطق حاليّا بحدود 13- 15 مليون إنسان، تتم السيطرة على كل هذه المناطق باستثناء جبال العلويّين عبر استخدام الوسائل العسكريّة و الأمنيّة المباشرة على شكل حواجز تقسم شوارع و أحياء تلك المدن و البلدات إلى قطّاعات تتقاسم الإشراف عليها ميليشيات عسكريّة أجنبيّة و محليّة و فروع أمنيّة مختلفة، و يترتب على هذه الإجراءات التي تعد احتلالاً عسكرياً كلفة اقتصاديّة باهظة. 

تصدر تصريحات روسية ولنظام الأسد بأنهم يسيطرون على المدن وقد تَرَكُوا للمعارضة المسلّحة و "الإرهابيين" الهوامش والأرياف والصحارى ليعيشوا فيها، و سنقوم بالتفاوض من موقع قوّة نستطيع من خلاله إملاء الشروط الّتي نريدها، و لكن تصطدم هذه العناوين ذات الطبيعة الإعلاميّة بوقائع و معطيات متناقضة تماما معها، و لعل أهمها، هل هذه سوريا المفيدة حقّاً؟ وما هو مصدر هذه الفائدة؟ بينما الجواب هو، لا، هي ليست "سوريا المفيدة".

حيث لا تملك هذه الدويلة أي أهميّة اقتصاديّة، لا يوجد فيها زراعة , فباستثناء منطقة الساحل ذات المساحة الجغرافيّة الصغيرة، لا يوجد أي منطقة أخرى آمنة يمكن فيها القيام بما تتطلّبه مهنة الزراعة من استقرار و جهد و وقت بين البذار و الحصاد، و فكرة حماية هذه العمليّة عسكريّا تكلّف أكثر من قيمة محصولها، كذلك لا يوجد في سوريا المفيدة ما يمكن اعتباره صناعة فأغلب المعامل قد تدمّرت و حتى قبل الثورة لم يكن لدى سوريّا الأسد ما يمكن اعتباره صناعة، أمّا موضوع السياحة فهو خارج البحث تماما إذ من الصعب تصوّر من يفكّر بالقدوم إلى سوريا بغرض السياحة، رغم التصريحات الكاذبة لوزير السياحة السوري، و حول الثروات المعدنيّة فالجزء الأكبر منها شأنه شأن الزراعة الواسعة يقع في المنطقة الشرقيّة أي ما يسمّى سوريا غير المفيدة !! وقد تشاركت كلّ القوى على تدمير منشآت الغاز والنفط، وإعادة تأهيلها يحتاج إلى الكثير من الوقت والتمويل والسيطرة الأمنيّة الّتي تبدو على المدى المتوسّط بعيدة المنال.

بعد أن استنفذ نظام الأسد ما كان موجوداً في الخزينة العامّة، استدان خلال العامين 2013 و 2014 الكثير من الأموال من روسيا و إيران لتمويل حربه على الشعب السوري, و في العامين 2015 و 2016 أجرت حكومة الأسد عقود بيع و استثمار للإيرانيين و الروس لبعض الأصول و العقارات، و عقدت معهم اتفاقيّات تأجير مثل قاعدتي طرطوس وحميميم للروس، و "المقامات المقدّسة" في الست زينب و الست رقيّة و المزّة و الشام القديمة و غيرها للإيرانيين, و لكن في النهاية لم يعد لدى هذه السلطة ما تقدّمه، و الأوضاع الاقتصاديّة في روسيا و إيران هذه الأيّام لم تعد تسمح لهم بتحمّل المزيد من الأعباء.

على عكس الغزوات و عمليّات الاحتلال عبر التاريخ و الّتي أهم أسبابها عادةً ما تحويه البلدان المستهدفة من ثروات اقتصاديّة لا تعوّض فقط تكاليف العمليّة العسكريّة و إنما تحقّق أرباحاً، نجد في الحالة السوريّة 15 مليون إنسان يعيشون في منطقة تعد مواردها أقل من محدودة بكثير، و هم بحاجة لمن يتكفّل بتأمين احتياجاتهم من الطعام و الخدمات، أي أنّهم باختصار عبء اقتصادي كبير جدًّاً، أدرك الروس هذه الحقيقة مبكّراً، بينما تأخر الإيرانيّون في ذلك خاصّة المتشدّدون من الحرس الثوري . 

نتيجة لذلك كثف الروس نشاطهم الديبلوماسي خلال الأشهر الماضية، بحيث لا يمضي يوم واحد دون زيارة أو محادثات حول سوريا يقوم بها كل المسؤولين الروس بما فيهم بوتين نفسه. و تقوم الخطّة الروسيّة اليوم على استغلال التقدّم العسكري على بعض الجبهات لتسويق ما يمكن اعتباره تسوية، و هدفهم من ذلك هو أن يتحمّل المجتمع الدولي و الدول الإقليميّة الكلفة الاقتصاديّة الهائلة الّتي ترتّبت على تدمير سوريا، و يتأمّلون قدوم هذه الأموال تحت عنوان إعادة الإعمار و تمويل الحاجات الإنسانيّة للشعب السوري، أو حتّى تحت اسم المناطق الآمنة فقد صرّح الروس مؤخّرا على أنّهم يوافقون على إقامة مناطق آمنة في طرطوس و اللاذقيّة !! و من الواضح أنّ الهدف هنا هو مالي فقط لتأمين النقص الشديد و الاحتياجات الهائلة في مناطق سيطرة النظام.

تصطدم المحاولات الروسيّة بعدد من العقبات، أوّلها فشل محاولات تسويق بعض الأشخاص السوريّين كمعارضين أو ممثّلين للثورة حيث الغرض الرئيسي من وجودهم هو أن يتنازلوا عن السبب الوحيد الّذي قامت الثورة من أجله و هو الانتهاء من حكم عائلة الأسد, و لن يستطيع الروس تجاوز هذا الموضوع أبداً, فبمجرّد أن يقبل أي شخص أو جهة سوريّة بتسوية مثل تلك سينتهي دوره و تأثيره شعبيّا مهما كانت مكانته و احترامه قبل ذلك, و من الصعب تمرير أي تسوية دولياً من دون وجود ممثّلين حقيقيّين للثورة السوريّة، و الناحية الأخرى هي الموقف الإقليمي و الدولي فما ارتكبه نظام الأسد من جرائم موثّقة قد أغلق الباب نهائيّا أمام أي فرصة قانونيّة أو إنسانيّة أو أخلاقيّة لبقائه أو إعادة تأهيله , و خلال الشهر الأخير فقط استخدمت روسيا حق النقض ضدّ مشروع القرار أمام مجلس الأمن حول استخدام نظام الأسد الكلور كسلاح كيماوي 2014 و 2015 و الّذي تضمّن اسم بشار و ماهر الأسد شخصيّا، و كذلك تمّ الكشف عن ملف إعدامات سجن صيدنايا الّتي تضمنّت 13 ألف ضحيّة، بالإضافة إلى سلسلة الدعاوي الّتي تمّ رفعها في دول أوروبية، ضد مسؤولي النظام السوري ضمن الحملة العالميّة لفضح نظام الأسد, طبعا لن يغامر أي طرف إقليمي أو دولي بأي مواجهة عسكريّة مع روسيا من أجل سوريا البلد المدمّر المحدود الإمكانيّات، و لكن في نفس الوقت لن تشارك أوروبا أو دول الخليج بتمويل أي مشروع اقتصادي تحت مسمّى إعادة إعمار سوريا إذا لم يكن ضمن تسوية سياسيّة حقيقيّة و مقنعة للقضية السوريّة، و هذه الأطراف تدرك أنّ ذلك لا يمكن تحقيقه مع بقاء الأسد و قد صرّحت موغريني باسم الاتّحاد الأوروبي في 6 آذار 2017 : إعادة الإعمار ممكنة فقط بعد ذهاب الأسد، و سياسة الإدارة الأميركية الحاليّة تقوم على تخفيض الأموال المخصّصة للخارج من المساعدات، إلى ميزانيّة الأحلاف العسكريّة و المنظّمات الدوليّة، من أجل التركيز على الداخل الأميركي و بناء الجيش، و بالتالي فإنّ توقّع مشاركة الولايات المتّحدة اقتصاديّاً في دعم الملف السوري مستبعدة تماماً, أي لن تجد روسيا من يتحمّل المسؤوليّة السوريّة ماليّا و اقتصاديّا من دون التسوية السياسيّة الحقيقيّة.

الفائدة الوحيدة الّتي تراها روسيا من ملايين السوريين الموجودين في سوريا "المفيدة" هي مشاركتهم في ما تدعو إليه من انتخابات تحت إشراف المخابرات الأسديّة تحصل فيها عصابة الأسد و عملاء الروس ضمن المعارضة المزيّفة على السلطة، و الّتي يأملون بتسويقها دوليّا كانتقال سياسي و سلطة شرعيّة جديدة تستطيع طلب المساعدة الدوليّة لإعادة الإعمار، و بالتالي تسديد الديون الروسيّة و الإيرانيّة و إعطاء صفة قانونيّة للامتيازات الّتي أعطتها الدولة الأسديّة للروس و الإيرانيين، هذا الحلم الروسي يبدو بعيدا تماما عن الواقع إن لم يكن مستحيلاً.  

كل التصريحات الناريّة الّتي يدلي بها المسؤولين الروس يوميّا حول ضرورة التسوية السوريّة ومخاوف التقسيم وأنّ الشروط المسبقة مثل رحيل الأسد قد تفشل العمليّة السياسيّة، ليست إلّا ضجيج إعلامي لتحصيل أكثر ما يمكن من تنازلات لا يستطيع أحد تقديمها لهم، ويدرك الروس جيداً أنّ الوقت ليس من مصلحتهم اقتصاديّا و سياسيّا.لذلك يسابقون الزمن فلم يكد ينتهي جنيف 4 حتّى حدّدوا 20 آذار موعدا لجولة جديدة , و لكن في المقابل الشعب السوري لم يعد لديه ما يخسره و قد دفع ثمنا باهظا جدّا لقاء حريّته الّتي يستحقّها و لن يتوقّف قبل الحصول عليها .

التعليقات (1)

    حسن

    ·منذ 7 سنوات أسبوعين
    اتمنى ان يكون ذلك صحيحا وهو يحاكي الطبيعة ايضا..ما يحصل في سورية سابقةتاريخية خطيرة جدا.. وهي ضد نواميس الكون والطبيعة والتاريخ..وان نجح النظام باعادة فرض جماعته العلوية..فذلك معناه نهاية القيم الانسانية
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات