بين أن ينتحر أو يغني ويبهر

بين أن ينتحر أو يغني ويبهر
نادراً ما تودي تكاليف الحياة بالإنسان إلى حافة جرف هاوٍ يفكر معه بلا جدوى الوجود فيها، نادراً ما يصل البشر إلى يأس خالص، لأنهم بالطبيعة مقاومون للظروف فضلا عن الإيمان لدى أغلب البشر بأن ثمة خلاص قد يأتي في أي وقت دون مواعيد، أو أن له موعداً بعد الموت، لكن في الصورة النهائية تبقى الحياة، وإن قست، مقدسة لدى أغلب البشر، وإن كان زهير بن أبي سلمى قال يوماً: "سَئِمتُ تَكاليفَ الحَياةِ وَمَن يَعِش... ثَمانينَ حَولاً لا أَبا لَكَ يَسأَمِ" فالرجل بلغ من العمر عتياً وأخذ نصيبه من الحياة حتى ملها وسئم، لكن أن يصل لهذه الحال طفل بالعاشرة أو ما يزيد قليلا في القرن الحادي والعشرين!

نعم بلغ الأمر في أطفال سوريا ممن لم تسعفه الظروف بالهرب، وممن حكم عليه قدره وقدر أهله الثائرين المحاصرين في المناطق التي اجتمع بشار الأسد ومع حزب الله وخلفهما إيران على قصفها وحصارها لسنوات كبر فيها الأطفال وشاب فيها الولدان، هم بذواتهم لم يختاروا الثورة ولم يختاروا الأسد، كانوا صغاراً على أي ردة فعل لكنهم قصفوا وحوصروا وجوعوا وقُتل أهلهم وأحبتهم، وأسوق هنا ما قالته منظمة "أنقذوا الأطفال" قبل أيام بأن ثلاثة ملايين طفل يعيشون وسط القذائف وأصوات الرصاص المستمر منذ سنوات، وأن ثلثي هؤلاء خسروا أحد أحبتهم أو تعرض منزلهم للقصف أو التدمير، الأقسى أن المنظمة أشارت إلى أن العديد من الأطفال حاولوا الانتحار، كما أن العديد منهم يؤذون أنفسهم، الأطفال حاولوا الانتحار وتعريف الطفل لدى المنظمات هو من لم يصل سن البلوغ بعد، أي أن في سوريا أطفالا دون الرابعة عشرة حاولوا إنهاء حياتهم بالموت طوعا "الانتحار"، نظرا لما يعانونه من شظف العيش وفقدان الأمل بالمطلق، حتى نقلت إحدى المعلمات الباقيات في بلدة مضايا عن بعض أطفال البلدة "أنهم يتمنون الموت طمعاً بالجنة لأنها ستكون دافئة ويمكنهم تناول الطعام هناك واللعب".

هؤلاء مضافون إلى عبد الباسط الذي سحقت براميل الأسد ساقيه وحرمته من أمه وأخته وعُرف بصرخته لأبيه يطلب نجدته وهو العاجز فقال "بابا شيلني"، وهذا مضاف لأطفال لم يقتلهم الأسد بالبراميل أو بالصواريخ ولم تبتلعهم البحار مهاجرين مع ذويهم ولم يلجؤوا لبقايا خيمة في عراء دول الجوار، هؤلاء أطفال سوريا الذين رفض أهلهم العيش تحت حكم الأسد أو لم يرفضوا لكن نصيبهم شاء أن يكونوا في مناطق رفضته، ولسوريا أطفال أسعفتهم الأقدار بأن ينفذوا من حدود الدول ويصلوا براً آخر كان أكثر أمناً ودفئاً وفيه طعام يشبه الجنة الحلم لأطفال مضايا هؤلاء ليسوا ضمن الـ"84 في المئة من الأطفال الذين يعانون من الضغط العصبي يومياً جراء القصف بالقنابل والصواريخ بحسب منظمة "أنقذوا الأطفال"، من هؤلاء من ذاع سيطه لأنه ببساطته وفطرته أعاد حقيبة نسيتها سيدة في المترو بإحدى دول أوروبا، ومنهم من غنى وأبهر "جان" ثلاثة عشر عاماً لاجئ مع والديه في هولندا غنى بالإنكليزية في برنامج "ذا فويس" وقال للجنة التي أعجبت بأدائه إنه لا يتقن الهولندية ليحدثهم عن وضعه لكنه يتمنى أن يبدأ حياة جديدة في هولندا.

لقد نجا "جان" وترك في سوريا ملايين من أقرانه ممن لا هَم لهم سوى أن لا يموتوا وأن يحصلوا على ما يسد الرمق وإلا فسيبحثون عنه في الجنة الموعودة، لو لم يصل جان إلى هولندا لكان مرشحا لأن يكون أحد هؤلاء فاليوم أصبح أغلب الأطفال في سوريا أو ما تبقى منهم عرضة للموت أو العطب الجسدي والنفسي وهل هذه الحال لا تنطبق على من فر؟..تنطبق لكن بشكل أخف في شقها النفسي لأطفال يضيعون الهوية ويعيشون بين أحزان أهاليهم وحسراتهم وبناء حياة جديدة بعيدة عن البيت والحي والرفقة وكل تفاصيل الذاكرة التي ستشكل من جديد في مكان آخر غير الذي ولدت فيه، أريد أن أنا أغبط جان وغيره من الأطفال المتفوقين في دول اللجوء وسأسميها هنا دول الخلاص من الأسد وأهنئهم على تفوقهم في أي مجال هؤلاء مخزوننا للحضارة وعدتنا للبناء لكن العالم الرذيل عليه أيضا أن يرى غير المتفوقين في بلاد اللجوء، على العالم أن يرى من لم تتح لهم فرصة الهرب من حرب الأسد على سوريا.

هذه الحال بلا أدنى شك مسؤول عنها العالم بأسره فضلا عن المسؤولية المباشرة لنظام الأسد، مسؤولون جميعا عن أجيال من أطفال معذبين وضائعين منهم المشرد ومنهم الجائع ومنهم الهائم على وجهه بحثا عن ملاذ فضلا عن نوعية الحياة التي يعيشها الأطفال المحاصرون مع أهاليهم، هؤلاء أغلبهم بلا تعليم ولا صحة فهل سيقضون عمرهم في محدودية الخيارات بين من يفكر بالانتحار ومن يهرب عبر البحار حياة تُختصر بين حالين، حال طفل هرب وآخر لم يهرب، طفل وصل وآخر لم يصل طفل قتل وآخر يغني طفل يحاول الانتحار وآخر ينتظر الطعام ويتمناه وإن كلفه ذلك الوصول إلى في الجنة..

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات