سردية الثورة السورية وصورتنا الأخيرة

سردية الثورة السورية وصورتنا الأخيرة
هل هذه صورتنا الأخيرة بعد ست سنوات من الثورة السورية !؟..  شعوب لم يعد لديها القدرة على بناء أوطان أو انتشالها من الخراب، حتى استحالت أشتاتا بشرية هائمة في دروب البؤس والضياع، هل انتهينا من كتابة فصل خروجنا الأخير إلى العدم !؟.. 

ثمة أفراد، وجماعات من شعوبنا مجازاً، ينكرون التسليم بأننا قاب قوسين أو أدنى من هزيمة لا نهوض بعدها؛ لا زالوا يعبّرون بطرق شتى عن مقاومة هذا الكابوس الواقعي، ولذلك يتشبثون بكل جوارحهم ببقايا ثورات، تكاد أشلاء ضحاياها هي الحقيقة الغالبة عليها. 

يواجه أولئك القابضون على جمر الإنكار الأخلاقي لعالم غير مكترث أخلاقياً، سيلاً من روايات المغلوبين والمقهورين لم تجد قليلاً من إنصاف يخفف من مصائبها الجمة، وقوى لا حدود لسطوة أوهامها وقدرة أعمالها السوداء على إغلاق كل أفقٍ ممكن. والأشد بين هذا وذاك، امتثال أكثرية مجتمعاتنا لتدجين تاريخي مُحكم، ينوس بين صمتها المشين على أنين الضحايا، أو استخدامها المُخزي في مشاريع الثورات المضادة، حتى بات الهروب خلاصاً فردياً له ما يبرره، أمام حصاد الفشل الرهيب في لحظة مواجهة الحقيقة. وإن جاء كل نقدٍ رصين جلداً لذوات فقدت احاسيسها في غمرة أفول الإجابات الواضحة، وتخليع كل البديهيات على مذبح الهويات المبعثرة .

 نادراً ما حفل التاريخ الإنساني بأمثلة تضع الجلاد فوق الحقيقة، حتى لو كتب المؤرخون رواية انتصاره، أما أن يغدو طمس الحقائق الدامية فلسفة "الأمم المتحضرة " لتبرئة ضمائرها، فذاك ما عجزت البربرية في أوج غيّها، من ترسيمه قدراً لا فكاك من قوانينه الجائرة. يحدث هذا في زمننا المنفصل عن إنسانية توارت خلف ركام الضحايا، ولم تَحدْ عن طقوس احتفائها بجائزة نوبل للسلام، كيما تنتقل عدوى حروبنا إلى دورة حيواتهم السعيدة. ست سنوات كانت كفيلة لانكشاف صورتنا في عيون الآخرين، وسقوط الآخرين في امتحان ثورتنا اليتيمة، لكنها لم تكن كافية لقتل كل الخلايا الحية في زمن الموت المباح، رغم أن كل شيء من حولنا يقتل أكبر الأفكار والآمال والمشاريع. دائماً كان هناك متسع من الوقت لهضم الهزائم على أنواعها. انتهى ذاك الزمن، وفرصه الخادعة أمام فظاعة نحر يقيننا الأخير، بأننا بشر ننتمي إلى خليقة لابد أن تغضب يوماً على دمنا المسفوك لكنها لم تفعل. 

كثيرون من بني جلدتنا كانوا سياطاً على سياط كي تضيع معالم القضية، يقفون في طوابير المتاجرة والإفساد المنظم كي يقتاتوا على دماء وعذابات الفقراء، ويقبّلون نعال غزاة الداخل تارةً باسم الدفاع عن الأوطان من المؤامرة، وتارةً يغطون على غزاة الخارج باسم السخرية من عقلية المؤامرة، كيما يغدو الدعس على كل الخطوط الحمراء مناسبةً للحصول على استثمارٍ لا ينضب في كل الاتجاهات. ست سنوات من محاولات الاقناع القسري بأن الثورات لعنة تطارد المؤمنين بها إلى يوم الدين، ومن نجى من الاعتقال أو الموت بقذيفةٍ أو برميل أو رصاصةً غير طائشة، عليه ألا يفكر بأكثر من تأمين كسرة خبزٍ يسد بها الرمق، وفي أحسن الأحوال لفافة تبغٍ ينفث مع دخانها زفرات قهرٍ لا قاع لها. فيما يحتفي "مثقف ثوري" لا يقبل بأقل من هذا التصنيف، بمناسبة توقيع كتابه الجديد (تعلموا فن الثورات) ولا يكف (معارض شرس) من ترداد عبارته الشهيرة عقب كل إطلالة فضائية: لن نتنازل قيد أنملة عن ثوابت ثورتنا العظيمة. ويبقى لـ (الناشط الثوري) متسعاً من الوقت كي يستعيد بطولاته في زمن السلميّة، متناسياً كيف أصبح قطاً سميناً على موائد الإنجيؤز. 

تلكم هيّ حقيقتنا المُرّة التي تفسر لمن لازال حريصاً على جهاد المعرفة، كيف يّحقب الحاضر خيانة تاريخ المدائن المحاصرة، وكيف تغلق السلطة المستبدة كل طريقٍ إلى الحياة، يساعدها الجاهل بانحطاط فكره، والعقل الماكر بشهوة اطماعه، وإن كان الثاني أخطر في تعميم الخذلان بقفازات من حرير. يوماً بكى الشهيد أبو فرات من نصرٍ يقوم على خسارةِ ما ينبغي أن يكون رصيداً وطنياً للجميع، كأنه كان يصرخ قبل فوات الأوان من ضياع الفرصة الأنبل في ثورةٍ من أجل وطن كريم، يتوجب على ابنائه امتلاك الوعي، والأخلاق لتجريد الاستبداد من توظيف الكراهية، والأحقاد بين بعضهم البعض. كان العابثين والطامحين يملؤون الفراغ كلما كانت الثورة بأمس الحاجة لمن ينقّح فكرتها الأصيلة، ويُنقذ أواصر المجتمع السوري من براثن الإيديولوجيا، والتطييف، والتفكك. ست سنوات على هذا النحو من محاولات قتل الثورة مادياً ومعنوياً، تضاعفت خلالها جبهة أعدائها، بينما ضاعت ملامح جبهة أصدقائها، وماكينة القتل والاعتقال والتهجير لم تتوقف يوماً واحد، فقط استمرت مؤتمرات الشجب والاستنكار في المحافل الإقليمية والدولية، قرينةً على غياب أمة الملايين، وقد أيقظت فيها الثورات خوفها التاريخي الرابض من ضريبة نهوض كرامتها الوطنية والإنسانية.

أيُّ معيار أخلاقي، وقومي لدينا اليوم لنعرف معنى رابطة الأخوة والدم، بين الشهيد حسن الحريري الذي ارتقى بعد أن فقد سبعة من أبنائه على يد النظام المجرم، وبين شعوب عربية كاملة لم تعرف قصة هذه الشهيد وعائلته، بل ولا تريد أن تعرف كي لا ترتبك سرديتها عن "الإرهاب " المحبوك في سورية الجريحة. بأي حكم قيمي يمكن لنا اليوم أن نصف من يطالب (إسرائيل) بإطلاق سراح المعتقلين الفلسطينيين من سجونها، هو ذاته من ينكر بصفاقة تصفية الآلاف من السوريين في سجون الطاغية. كم سنحتاج إلى أمثلة صارخة ومؤلمة عن مفارقات زمننا العربي الرديء، كي نقنع طفلاً يغطي الغبار وجهه في مخيم "الركبان"، أنه ينتمي إلى هذه الأقوام التي تسور أحلامه الغضة بأسلاكها الشائكة. ست سنوات والمناضلون الحالمون، والشعراء، والكتّاب الذين كفروا بالعروبة التي تقتل أبناءها، ورحلوا كمداً من بؤس حالها، يستقبلون الثورة السورية في ذكراها السادسة، كأن ارواحهم التي تجول بين الأحياء تقول : إن لم تموتوا بعد كل هذا الموت، فأنتم مشاعل العبور إلى القيامة، ما عادت كل الخيانات والأوجاع والمآسي قادرةً على إطفاء جذوة الحرية، طالما بقي فيكم من يوقدها بروحه..

التعليقات (1)

    احمد عقول

    ·منذ 7 سنوات 3 أسابيع
    من كان الله معه فمن الذي عليه النصر والتمكين قادم لا محال ان انتصار الحق سنة وقانون لا يتبدل بفعل الزمان او بفعل انحطاط الاخلاق وان غدا لناظره قريب فانتظروا ان معكم منتظرين
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات