مجزرة خان شيخون والعدالة الدولية العمياء

مجزرة خان شيخون والعدالة الدولية العمياء

أضاف النظام السوري إلى سجله الحافل باستخدام الأسلحة الكيماوية، مجزرة وحشية جديدة فاقت الوصف، حين استهدف صبيحة الرابع من نيسان الجاري مدينة خان شيخون في ريف إدلب الجنوبي، بكميات كبيرة من غاز السارين المحرم دولياً، والذي يطلق عليه ( VX ) أسفر عنها وقوع (76 ) ضحية غالبيتهم من الأطفال والنساء وكبار السن، عدا عن قرابة (400) مصاب لازال بعضهم في دائرة الخطر. 

على الفور عاد الحديث على وقع هذه المجزرة إلى ما شهدته الغوطة في /21 آب 2013/، حين أودى استخدام النظام  ذات السلاح القاتل وقتذاك، إلى سقوط (1450)  ضحية من المدنيين في مناطق الغوطة ومعضمية الشام. لكن مسلسل هذا النوع من الجرائم كان قد بدأ قبل مجزرة الغوطة،  ففي الفترة الممتدة من 23 كانون الأول/ ديسمبر 2012 إلى 27 أيلول/ سبتمبر 2013، تم استخدام النظام لغاز الكلور المحرم كذلك في اتفاقية حظر الأسلحة الكيماوية، في ثلاثين هجوماً على مناطق سورية متفرقة ( العتيبة، عين ترما، داريا، بلدة الطيبة، مخيم اليرموك، الشيخ مقصود، سراقب، جوبر) وذلك وفق تقارير موثقة للشبكة السورية لحقوق الإنسان. 

لم يردع القرار الدولي الصادر عن مجلس الأمن (2118 ) الذي أعقب مجزرة الغوطة، من تمادي النظام في استخدام الغازات السامة، رغم أن /  الفقرة 13 من القرار المشار اليه / نصت على : " استعداد مجلس الأمن مجدداً النظر في أي تقارير صادرة عن منظمة حظر الأسلحة الكيماوية، وفق المادة الثامنة من اتفاقية حظر الأسلحة، في حال عدم الامتثال وتكرار ارتكاب مثل تلك الجرائم ". 

مع ذلك واصل النظام انتهاك / الفقرة 4 من القرار عينه /  والمتعلقة " بمنع الجمهورية العربية السورية، من استخدام أسلحة كيميائية، أو استحداثها، أو إنتاجها، أو حيازتها بأي طريقة أخرى، أو تخزينها، أو الاحتفاظ بها". الملفت حد الصدمة هو في استمرار تجاهل مجلس الأمن لأكثر من 180 هجوم  كيماوي، شنته قوات النظام البرية والجوية، وآخرها مجزرة خان شيخون هذا العام. ما يضع على المنظمة الدولية مسؤولية قانونية وأخلاقية كبيرة لا يمكن التغاضي عنها، بسبب  التقصير والمماطلة بفرض آليات الردع والمحاسبة، على مسؤولي النظام الآمرين والتنفيذيين، من المتورطين بارتكاب تلك الجرائم، وفق ما يوجبه نظام المسؤولية الجنائية الفردية في القانون الدولي، لاسيما أن هذا النوع من الجرائم يصنف وفق المواد ( 6- 7- 8 ) من القانون الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، كجرائم دولية خطيرة، تندرج في نطاق الجرائم ضد الإنسانية، طالما أنها "ارتكبت في إطار هجوم واسع النطاق، أو منهجي موجه ضد أي مجموعة من السكان المدنيين، وعن علم بالهجوم".

 كما أنها تدخل أيضاً في عداد جرائم الحرب، إذا تم ارتكابها في إطار خطة أو سياسة عامة، أو في إطار عملية ارتكاب واسعة النطاق، بحيث تشكل انتهاكاً  جسيماً لاتفاقيات جنيف المؤرخة في 12 آب / 1949. بيدَ أن كل تلك الأسانيد القانونية المُدعمة بتقارير دولية موثقة، عن المسؤولية الجنائية لمسؤولي النظام في اقتراف كل تلك الجرائم، لم تكن كافية لتطبيق مستحقات العدالة الدولية، ووضع حد لإفلات النظام من سياسة الإفلات من العقاب، بقدر ما كشفت صور الترويع والقتل الجماعي، التي واجهها السوريون على يد هذا النظام، خلال ست سنوات حافلة بالمآسي والمعاناة، عن مأزق حاد يواجه نظام العدالة الدولية برمته.

 ليس فقط بسبب الدور السياسي للفيتو الروسي في مجلس الأمن، وعرقلته لأي قرار يدين جرائم النظام، وفي مقدمتها جرائمه الكيماوية. إذ اتضح جلياً في الحالة السورية المأساوية، أننا إزاء نظام دولي يقوم بحد ذاته على معايير استنسابية، تضع في يد القوى النافذة المهيمنة على  مؤسساته السياسية والقضائية،  حق تعطيل القوانين الدولية حتى لو أسهم ذلك في تهديد السلم والأمن الدوليين، لاسيما في التعامل مع قضايا الشعوب المُستضعفة. 

لا تفسير أو تبرير لأي ضحية سورية سقطت في مجزرة خان شيخون، وغيرها في مئات المجازر، عن استمرار نظام الأسد في ضرب القوانين الدولية عرض الحائط، وفي هذا الخلط الرهيب بين حق الشعب السوري في العدالة والانصاف، والصمت عن معاناته بسبب توظيف ( الإرهاب ) في حسابات سياسية مكشوفة. المثير للمفارقة حقاً، أن يستيقظ المجتمع الدولي فجأةً على الانفاس المكتومة لضحايا خان شيخون، وهو الذي شجع بصمته المفرط  تمادي النظام، في استخدام كل اسلحة التدمير والموت ضد شعبه. 

لا يبدو أن هذه المعضلة لأخلاقية بامتياز، هي ما يحرك اليوم النقاشات المحتدمة في مجلس الأمن، بخصوص قرار يرقى إلى حجم المجزرة التي شهدتها خان شيخون. فلا يزال الموقف الروسي الداعم للنظام مشغولاً في كيفية الدفاع عن الجلاد، وتجنيبه أي إدانة وإجراء تقيّدان يداه الطليقة في تحويل حياة الشعب السوري إلى جحيم لا يطاق. 

مثل هذه المقاربة التي تتقوى بمنطق القوة والابتزاز، هيّ ما يجب مواجهته اليوم من كافة الحريصين في العالم، على احترام حقوق الإنسان فعلاً لا قولاً، ليس فقط من أجل الدفاع عن مظلومية الشعب السوري، وإنما لحماية منطق العدالة والقانون من سياسات التعدي واستباحة حقوق المخاطبين بها. بأي حال لا يجوز التوقف عند إخفاق مجلس الأمن في إصدار وتطبيق القرارات الدولية، كيما لا يتحول الركون إلى هذا المشهد المشين بحق الإنسانية جمعاء، مبرراً  للانكفاء والتخلي عن الشعب السوري المنكوب. 

ثمة جهود سياسية وقانونية لابد منها لتغيير ذاك المشهد، من خلال تنظيم وتصعيد التحركات في مختلف أوساط الرأي العام الدولي، وكسر الصمت العالمي حيال جرائم نظام الكيماوي، وتجاوز العقبة الكأداء في مجلس الأمن، أمام إحالة ملف جرائم النظام إلى محكمة الجنايات الدولية، من خلال اللجوء الى الدول التي تطبق مبدأ الاختصاص القضائي العالمي، لتفعيل ذلك المبدأ تجاه المتورطين من قيادات وعناصر النظام وحلفائه، في مختلف الجرائم التي ارتكبوها، والبحث في امكانية اللجوء إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، بموجب قرار الاتحاد من أجل السلام ( 377 )، لإصدار قرار أممي بتشكيل محكمة دولية خاصة بمحاكمة بشار الأسد ورموز نظامه المجرم. طالما أن ذلك القرار يخوّل الجمعية العامة في حال إخفاق مجلس الأمن بمهامه في حفظ السلم والأمن الدوليين، باتخاذ ما يلزم من قرارات وتوصيات لتحقيق تلك الغاية. المطلوب بكل جديّة التحرك على كافة المسارات المتاحة، كي تجد عدالة الشعب السوري طريقها إلى النور بعد كل هذا البحور من الدماء والدموع، وبعد كل هذا الخذلان المقيت.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات