الشرق الأوسط... الإقليم المأزوم هيكلياً

الشرق الأوسط... الإقليم المأزوم هيكلياً
نشرت صحيفة الحياة مقالاً للكاتب محمد فايز فرحات، هذا نصه: 

على رغم القواسم الثقافية والدينية واللغوية والتاريخية المشتركة التي تجمع بين معظم دول ومجتمعات الشرق الأوسط، لكن هذه القواسم لم تكن شرطاً كافياً لبناء أنماط من التفاعلات البينية السلمية المستدامة، ولا لبناء تجربة تكامل ناجحة بين معظم دوله. وفشل الإقليم منذ انتقال دوله إلى مرحلة الاستقلال، أي ما يزيد عن نحو سبعة عقود متتالية، في بناء نظام للأمن الإقليمي أو الجماعي، وحافظ على حالة مستدامة من عدم الاستقرار الهيكلي، على نحو جعل الحديث عن مراحل «الانتقال» أو «التحول» في الإقليم توصيفات غير دقيقة، لا تعكس سماته الهيكلية، وتتجاهل الخبرات التاريخية لأنماط التفاعل بين وحداته، وأنماط تعاملها مع التحديات الموروثة عن مرحلة ما قبل الاستقلال. أضف إلى ذلك الفشل التاريخي لمعظم دول الإقليم في بناء تجاربها الديموقراطية، سواء عبر عمليات التحول السياسي أو التحول الثوري، على نحو جعل الشرق الأوسط إقليماً مثالياً لاختبار مقولات ونظريات التكامل، والأمن الإقليمي، ونظريات التحول الديموقراطي.

عوامل عدة يمكن أن تفسر لنا هذا الفشل التاريخي، لكن تظل القضية المفتاح في هذا الإطار هي فشل دول الإقليم في بناء الدولة الوطنية القادرة على احتواء حالة التنوع العرقي والديني والمذهبي. ولم تكن حالة التعددية تلك لصيقة بظاهرة الدولة في إقليم الشرق الأوسط من دون غيره من الأقاليم، فقد ورثت دول كثيرة الظاهرة ذاتها في أقاليم أخرى، كما هي الحال في أوروبا وفي القارة الآسيوية بأقاليمها المختلفة. كذلك لم يكن نجاح الكثير من الدول في التعامل مع هذه الظاهرة مقصوراً على الدول الأوروبية المتقدمة، فقد نجحت دول آسيوية عدة في بناء نماذجها السياسية وأبنيتها الثقافية والاجتماعية التي أفلحت في استيعاب حالة التعددية تلك. بعض هذه التجارب كانت فيه الفجوة أو «المسافة» الدينية/ الثقافية بين مكوناتها الدينية والقومية أكبر بكثير من مثيلاتها في حالة دول الشرق الأوسط، مثل المسلمين الملايو في مواجهة كل من الصينيين والهنود والبوميبوترا الذين يتوزعون على البوذية والمسيحية والتاوية والكونفوشيوسية في ماليزيا، والمسلمين في مواجهة كل من المسيحيين والهندوس والبوذيين في إندونيسيا، والهندوس والسيخ في مواجهة المسلمين في الهند. «المسافة الدينية/ القومية» بين هذه المكونات أكبر بكثير بالتأكيد من تلك القائمة بين العرب السنة في مواجهة العرب الشيعة في العراق، أو المسلمين العرب في مواجهة المسلمين الأكراد في العراق أيضاً، أو بين العرب السنة في مواجهة العرب الشيعة في اليمن، وعلى رغم ذلك، فقد نجحت دول عدة في جنوب وجنوب شرقي آسيا في بناء نماذجها السياسية وأبنيتها الثقافية والاجتماعية التي ضمنت احتواء حالة التعدد تلك، بينما فشلت معظم دول الشرق الأوسط في هذا الاستحقاق.

وعلى رغم أن الأنظمة السياسية الشرق أوسطية نجحت في تأجيل هذا التحدي طوال العقود السابقة، إلا أن انهيار بعض هذه الأنظمة أدى إلى انفجار أزمة الدولة الوطنية في الإقليم، وبدلاً من أن تصبح ظاهرة «الربيع العربي» مسألة تتعلق بتغيير أنظمة سياسية أضحت مسألة تتعلق بإعادة بناء الدولة في الإقليم أو ما يمكن أن نطلق عليه أزمة التأسيس الثاني للدولة. القضية المفتاح الثانية في تقديري تتعلق بنمط العلاقة بين الفاعلين الإقليميين، وهو نمط دال في عدد كبير من المتغيرات، أهمها نمط توزيع القوة في الإقليم. ومن بين الفرضيات المطروحة هنا أنه كلما اتسم نمط توزيع القوة بالإقليم بالتركز في فاعل إقليمي واحد واتساع فجوة القوة بينه وبين باقي الفاعلين على مستوى الإقليم، زادت فرص الاستقرار الإقليمي. وعلى العكس، كلما اتسم نمط توزيع القوة بين هؤلاء الفاعلين بالتساوي نسبياً، اتسم الأخير بدرجة كبيرة من عدم الاستقرار. وتزداد احتمالات عدم الاستقرار كلما زادت المسافة السياسية والقومية بين هؤلاء الفاعلين، حيث تنتقل العلاقات بين الفاعلين من مجال التنافس السياسي/ الحضاري إلى الصدام والصراع.

وهكذا، عندما اتسم نمط توزيع القوة في إقليم الشرق الأوسط بهيمنة إحدى دوله في مراحل محددة كان ذلك عاملاً مهماً من عوامل استقرار الإقليم، لكن مع انتشار القوة وتوزعها على عدد غير قليل من الفاعلين، من الدولة جنباً إلى جنب مع الفاعلين من دون الدولة، كان ذلك عاملاً مهماً من عوامل دخول الإقليم في حالة من عدم الاستقرار، أخذت شكل الصراع/ الصراعات بين عدد من المشروعات الإقليمية جنباً إلى جنب مع مشروعات الفاعلين من دون الدولة، بخاصة في ظل اتساع المسافة السياسية بين بعض هذه المشروعات، الأمر الذي تراجعت معه فرص التوافق بينها، بخاصة مع التماهي بين بعض المشروعات الإقليمية لبعض دول الإقليم مع مشروعات الفاعلين من دون الدولة وتعمق الروابط الأيديولوجية والتنظيمية في ما بينها. وعمّق من حال انتشار القوة داخل الإقليم دخول متغيرات كثيرة في تحديد قوة الفاعل الإقليمي، بحيث لم تعد القوة الاقتصادية والعسكرية أو السكان والتاريخ هي المصادر الوحيدة في تحديد هذه القوة، فقد أصبح الإعلام، والمال، والعنف مصادر مهمة في هذا الإطار.

الخروج من هذا المأزق لا يعني بالضرورة الرجوع إلى حالة الدولة المهيمنة، فليست هذه الحالة هي الشرط الوحيد لاستقرار الإقليم، لكن سيظل تحقيق هذا الاستقرار رهناً بشرطين أساسيين، أولهما القضاء على المشروعات الموازية للفاعلين من دون الدولة -السياسيين والدينيين - وثانيهما، بناء حالة من التوافق بين المشروعات الأساسية للفاعلين الدولة.

سمة أخرى ميّزت إقليم الشرق الأوسط تاريخياً عن باقي الأقاليم، هي عدم وجود خطوط تمايز واضحة بين الإقليمي والعالمي؛ فعلى العكس مما ساد في أدبيات العلاقات الدولية من التمييز بين الأنظمة الإقليمية والنظام العالمي، استناداً إلى التمييز بين الفاعلين الإقليميين من ناحية، والقوى العظمى من ناحية أخرى، أو بين السياسات الإقليمية والسياسات العالمية من ناحية أخرى، إلا أن هذا التمييز ظل عملية معقدة في حالة إقليم الشرق الأوسط؛ فقد بدت القوى الكبرى جزءاً أصيلاً من الفاعلين الرئيسيين في الإقليم وأكثرهم مسؤولية عن صناعة السياسات الإقليمية. وفي المقابل، لم تستطع القوى الإقليمية وضع خطوط حمراء لحدود تدخل القوى الكبرى في النظام الإقليمي. ولا يمكن تفسير هذا الوضع استناداً إلى غياب نظام للدفاع الجماعي أو الأمن الإقليمي، إذ لا يعد إقليم الشرق الأوسط حالة استثنائية بين الأقاليم العالمية في هذا المجال، فهناك حالات لأقاليم أخرى افتقدت وجود أي من هذه الأنظمة ومع ذلك استطاعت الحفاظ على حدود واضحة بين الإقليم والنظام العالمي، ربما أبرزها إقليم شمال شرقي آسيا، الذي يعاني من تهديد رئيس متمثل في القدرات النووية والصاروخية لكوريا الشمالية، ومع ذلك استطاعت دول الإقليم فرض ضوابط على سلوك القوى الكبرى داخل الإقليم. فإذا كان من اليسير تفسير عدم قدرة الولايات المتحدة على التدخل العسكري في الإقليم ضد كوريا الشمالية في المرحلة الحالية استناداً إلى عوامل عدة، منها الوضع الراهن للقدرات النووية والصاروخية الكورية، فإنه يصعب تفسير عدم التدخل هذا في مراحل سابقة من دون الرجوع إلى موقف القوى الإقليمية من فكرة التدخل العسكري الخارجي بالإقليم، ليس فقط الصين وروسيا، ولكن حلفاء الولايات المتحدة نفسها في الإقليم (كوريا الجنوبية واليابان).

حالة السيولة تلك، وعدم وجود حدود واضحة نسبياً بينه وبين النظام العالمي، أكسبت الشرق الأوسط «وظيفة» أخرى مهمة، وهي تحول الإقليم إلى ساحة لترجمة موازين القوى داخل هيكل النظام العالمي، وساحة أيضاً لتدشين الانتقال من نظام عالمي إلى آخر عبر عدد من الأزمات الإقليمية؛ فكانت أزمة السويس 1956 إعلاناً عن أفول القوى الأوروبية وتطور نظام القطبية الثنائية، وكانت حرب تحرير الكويت 1991 كاشفة عن عمق التغير الذي حدث في هيكل النظام العالمي، ومقررة للتحول من النظام ثنائي القطبية إلى النظام أحادي القطبية، ثم جاءت الأزمة السورية الحالية لتدشن عملية الانتقال الجارية في هيكل النظام العالمي من نظام أحادي القطبية إلى نظام أقرب إلى تعدد الأقطاب.

نجاح إقليم الشرق الأوسط في الخروج من أزماته الهيكلية سيظل رهناً بمواجهة قائمة الإخفاقات التاريخية السابقة.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات