أول من نادى بالفيدرالية في سوريا صراحةً الأحزاب الانفصالية الكوردية، في ما يسمى كانتون الجزيرة السورية في الحسكة كونها تحوي خليطاً من الأقليات وبسبب الصلاحيات المفتوحة التي منحها الأسد لهذه الميليشيات، وما لبث أن تطور هذا المصطلح إلى وحدات إدارة ذاتية امتدّت إلى كوباني وبرزت في عفرين، ثم استفادت قوات سوريا الديمقراطية – أو ما يعرف اختصارًا باسم قسد – من الدعم الدولي لها في معركة الرقة ليرفعوا اسم روج آفا، وهو ما يعرف بغرب كوردستان، أي المنطقة الشمالية من سوريا.
ليس الأكراد وحدهم من تنادي بعض فئاتهم بالحكم الذاتي، إنّما ظهر هذا النمط من الحكم في السويداء، حيث أصبحت الإدارة الحقيقية لهذه المدينة موكلة لميليشيات درزية، وصارت أغلب القرارات التي يطبّقها نظام الأسد في المحافظات والمدن الخاضعة له لا تلقَ أذنًا صاغية في السويداء، كالتجنيد الإجباري الذي أصبح بالنسبة لهم أمرًا من الماضي، فلا يستطيع النظام سوق شاب درزي إلى خارج السويداء إجبارًا.
واليوم تخطط أمريكا لمثل هذا النوع من الحكم في المنطقة الشرقية، وخاصة الرقة ودير الزور والمناطق التي تغلب عليها العشائرية، وربّما ستفضي اجتماعات ولقاءات وتفاهمات سوتشي إلى تحوّل مناطق المعارضة إلى إدارات ذاتية، وخاصةً إدلب ودرعا، بالإضافة إلى المخطط الأمريكي لتدريب جيش مستقل من الميليشيات التابعة لها ينشط في المناطق التي انتزعتها من داعش بعد التحالف الدولي عليها.
للأمانة فإن المشروع الفيدرالي مشروع ناجح، وقد أثبت نجاحه في كثير من الدول المعاصرة والقديمة، ولكن المعضلة هنا أن تلك النماذج أخذت الشكل الفيدرالي لتوحدها، وليس لتقسيمها، أي أنها كانت ولايات أو دول أو أقاليم أو حكومات أياً تكن مستقلة عن بعضها، ثم فكّرت بالتوحّد مع بقاء خصوصية لكل منطقة، هذا المفهوم للفيدرالية مفهوم مقبول بل ومرحّب به.
ولذلك لا يعتبر صالحاً للتطبيق في سوريا، كون هذا البلد موحّدا سابقا، ولا توجد مناطق غير سورية سيتم إضافتها للجغرافية السورية، إنما هو نفس البلد ويريدون تقسيمه، وليس في سورية ولايات ممزقة تريد أن تتحد، وحتى إن أرادت الدول الكبرى تطبيق هذا الشكل في سوريا، فإنها مضطرة لفصل أجزاء من سوريا عن بعضها عشر سنوات، على الأقل ليخرج جيل يوحّد هذه الأقسام ضمن نظام فيدرالي، جيل ولد وكبر وسورية مقسّمة أما الجيل الذي عاش في سورية الموحدة كقطعة جغرافية واحدة لا يمكن أن يستسيغ التقسيم.
يضاف إلى أسباب استحالة تطبيق الفيدرالية في سوريا عدم ثقة المحافظات السوريّة بالقيادة المركزية التي تحاول دول العالم تثبيتها، وهي قيادة النظام المهترئة أو نسخة معدلّة قليلا عنها، وكذلك فقدان الجيش السوري صفته كجيش جامع لهذه الأرض وموحّدا للدفاع عنها، ولذلك فلا حلّ فيدرالي في سوريا، إنما الحل بإقصاء الطغمة الحاكمة وإعادة صياغة دستور شامل لسوريا بمثابة عقد اجتماعي جديد بين مكونات الشعب السوري، وحلّ الأجهزة الأمنية وبناء دولة مدنية جديدة، وأية صيغة أخرى هي صيغة فاشلة لا تقوم، ولا يمكن إن قامت أن تستمر.
التجربة الكردية للإدارة الذاتية والتي يعوّل عليها المجتمع الدولي لتعميمها في سوريّة أثبتت فشلها، وبعد ست سنوات من الحكم الذاتي تبيّن أنّ مثل هذه الأشكال من الحكم ستنتج أغلبيات مختلفة في كل منطقة، وكانتون الجزيرة الذي عانى فيه العرب من التحييد والإقصاء الذي مارسته أحزاب الانفصال الكردي مثال واضح وقد أثّر على الأكراد في المناطق الأخرى ورأينا بأم العين المعارك التي زُجّت بها القوة الشعبية الكردية منذ عام 2013 وحتى اليوم وما جنته من خراب للعلاقات الاجتماعية العربية الكردية، وكذلك الفتن التي ظهرت بين البدو والدروز في جنوب سوريا يوضّح المستقبل المجهول لأي ولاية فيدرالية متوقعة، والأخطر من ذلك، وأظنّه السبب الرئيس؛ لعدم جدّية الدول في تطبيق هذا الشكل من الحكم هو مستقبل الدولة العلوية أو الجزء العلوي من الدولة الفيدرالية، والتي ستكون معسكرا مفتوحا لاقتتال بين مافيات وعصابات الشبيحة، بعد أن تعود إلى الجبل والساحل وتنشغل ببعضها البعض.
لا مستقبل لحلّ في سوريا إلا حلا موحّدا لكلّ التراب السوري، وهذا ليس شعارا، أو أقوالا وطنية، إنما هو واقعٌ آمنت به كثير من الدول الداعمة لأطراف الصراع في سوريا، وهو ما ستؤمن به روسيا قريبا، وستفرز بناءً عليه حلا حقيقيا يثبت هزيمتها ورضوخها لأرض سوريا العصيّة على التقسيم.
التعليقات (16)