حيثيات الصراع على الدستور السوري

حيثيات الصراع على الدستور السوري
لم يستطع المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا، لدى زيارته مؤخرا إلى دمشق، إقناع النظام السوري بتشكيل اللجنة الدستورية، ولم يستطع تبديد مخاوفه المتعلقة بمضامين الدستور الجديد. هذا الإخفاق سيضاف إلى سلسلة إخفاقاته منذ أن حاول الالتفاف على بيان جنيف1 (2012)، بتجاوز نقطته الأساسية المتعلقة بإقامة سلطة حكم انتقالية ذات صلاحيات تنفيذية كاملة، مرورا بمحاولته تفكيك المسألة السورية، بطرح ما يسمى “السلال الأربع” (الدستور، الانتخابات، الحوكمة، مكافحة الإرهاب)، وصولا إلى تساوقه مع مسار أستانة.

ثمة في هذه المسألة المتعلقة بالدستور، عدة قضايا، منها ما يتعلق بتشكيل اللجنة التي يفترض أن تضم ممثلين عن النظام وعن المعارضة وعن المجتمع المدني، في مثالثة متساوية، وهو الأمر الذي رفضه النظام. ثانياً ثمة ما يتعلق بالتغطية السياسية لهذه اللجنة، وهذا يتطلب حسما أميركيا ورضوخا روسيا، وهما أمران غير واضحين حتى هذه اللحظة. وثالثا ثمة القضايا الأكثر إشكالية في الصراع السياسي السوري، التي تهم استعادة الاستقرار في سوريا وشكل النظام المستقبلي، والتي يفترض أن تشكّل الإجماع الوطني للسوريين وتسهم في صياغة مفهومهم لذواتهم كمواطنين، ولعلاقات المواطنة فيما بينهم كمجتمع، ولشكل علاقتهم بالدولة وشكل الدولة ذاتها.

واضح أن الإدراكات السياسية السورية السائدة، عند النظام كما عند أغلب أطياف المعارضة، ما زالت تفتقد إلى مفهوم المواطنة، أو إلى تحديد المكانة الحقوقية والقانونية للمواطن في الدستور.

ثانيا ما زالت الإدراكات السياسية للنظام الديمقراطي مشوشة عند الطبقة السياسية، إذ أن الحديث عن الديمقراطية وحدها في الدستور لا يكفي؛ إذ يفترض أن يتضمن ذلك ركائز أخرى، وإلا كنا أمام ديمقراطية ناقصة أو ديمقراطية انتخابات، أو ديمقراطية توافقية بين طوائف وجماعات إثنية أو دينية، ما يلغي فكرة المواطنة، ويهمش المواطن ويسلبه حريته واستقلاليته. والقصد أن للديمقراطية شروطها أو مقدماتها؛ وهي أولا دولة مؤسسات وقانون. ثانيا دولة مواطنين أحرار ومتساوين، إذ لا توجد ديمقراطية بدون حرية للمواطنين، وبدون مساواة لهم في الحقوق. ثالثا الفصل بين السلطات الثلاث التشريعية والقضائية والتنفيذية. رابعا القبول بمبدأ التداول السلمي للسلطة.

ثالثاً، ثمة فكرة ظلت محملة بالالتباس وهي المتعلقة بالحديث عن سوريا كدولة لامركزية، على ما درج في بيانات المعارضة السائدة، إذ لا شيء اسمه دولة لامركزية، بل إن اللامركزية تتضمن المركزية أساسا، والقائلون بها يوحون بالخشية على سوريا من التقسيم. وفي الحقيقة فإن ما يمنع التقسيم ليس نصا معينا، سواء كان يتضمن اللامركزية أو المركزية، لأن ثمة دولا كبرى قسّمت من دون أن تكون فيدرالية، وثمة دول ذات نظام فيدرالي هي من أقوى وأغنى دول العالم، من دون أن تخشى شبحَ التقسيم.

على ذلك فإن النظام الفيدرالي ليس هو مصدر التقسيم أو الذي يفتح الأبواب على التقسيم، وإنما نظام الاستبداد واستلاب الحقوق. ثم إن النظام الفيدرالي هو الذي يحولُ دون إعادة إنتاج الاستبداد في حين أن النظام المركزي يسهل ذلك، كما أن النظام الفيدرالي يتيح توزيعا عادلا للموارد، عكس النظام المركزي الذي يجعل العاصمة تستأثر بالموارد. وأخيراً فإن الدولة الفيدرالية لا تتأسس لاعتبارات إثنية أو طائفية وإنما تتأسس وفقا لاعتبارات جغرافية، وهذا ما يفترض التركيز عليه للتخفف من الخشية من فكرة الفيدرالية، ولوضع حد للمداورة عليها بفكرة اللامركزية التي لا تعني شيئا.

رابعا الفكرة الأخيرة التي يجدر طرحها هنا، هي أن الحديث عن المواطنة والنظام الديمقراطي والدولة الفيدرالية يتطلب أيضا الحديث عن نظام سياسي برلماني للقطع مع النظام الرئاسي، الذي قد يعيد إنتاج نظام الاستبداد، وربما يمكن أخذ التجربة الفرنسية هنا حيث ثمة نظام مزدوج رئاسي وبرلماني، مع توزيع الصلاحيات بين الجهتين. لذا من المهم الخروج من دوام الصراع السياسي والتفاوضي على مكانة الرئيس، على نحو ما شهدنا في تجربة المفاوضات، نحو التنصيص في أي دستور جديد على نظام برلماني، أو نظام مزدوج، لتجاوز هذه العقبة نهائياً.

هذه هي القضايا الأكثر حساسية للدستور السوري المقبل، إذ ثمة أهمية كبيرة لتفاهم السوريين حول قضايا بناء الدولة والنظام السياسي وبناء المجتمع في سوريا المستقبل، لأن ذلك هو الذي يضمن التعايش والتعددية وتقبّل الآخر، والاحتكام إلى قيم المواطنة والحرية والمساواة والكرامة والديمقراطية.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات