قرار الانسحاب الأميركي من سوريا يخلط الأوراق

قرار الانسحاب الأميركي من سوريا يخلط الأوراق
نسفَ ترامب استراتيجية البقاء في سوريا بقرار الانسحاب المفاجئ. لا جديد دفعه إلى ذلك سوى نية تركيا شنّ هجوم عسكري على وحدات الحماية الكردية، وإجبارها على الخروج من منبج ومن الشريط الحدودي شرقي نهر الفرات.

لم تتمكن الولايات المتحدة من تحقيق تقدم كبير في استراتيجيتها ثلاثية الأهداف في سوريا. فحسب تقرير للبنتاغون يوجد ما لا يقل عن 14500 عنصر من تنظيم داعش، رغم انحسار سيطرته في جيوب صغيرة. كما أن واشنطن عجزت عن فرض شروطها على موسكو في ما يتعلق بالتواجد الإيراني والحل السياسي، خاصة مع تجدّد الخلاف مع روسيا حول الأزمة الأوكرانية، ومع كشف تحقيقات المحقق روبرت مولر عن تورّط روسيا في التدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية.

بعد فشل جورج بوش الابن في تحقيق استقرار في العراق، يخدم الولايات المتحدة، بعد احتلالها، مقابل الكلفة الاقتصادية والبشرية لهذا التدخل، اعتمدت الإدارة الأميركية، خلال عهد باراك أوباما، استراتيجية قائمة على خفض اهتمام الدولة العميقة بالشرق الأوسط، والتركيز على تواجد عسكري أكبر في شرق آسيا، وإعطاء أولوية للحرب التجارية التي تخوضها مع الصين، استباقا لصعود سياستها خارجيا.

تراجع الدور الأميركي في الشرق الأوسط سمح للكثير من القوى الإقليمية بملء الفراغ الذي ستتركه أميركا، كإيران وتركيا وروسيا.

اتفاق جنيف1 بين موسكو وواشنطن بخصوص سوريا في 2012، أعطى موافقة أميركية لروسيا بالنفوذ في سوريا. تدخلت روسيا عسكريا في سوريا في خريف العام 2015، وانحرفت سياستها للحل عن مسار جنيف إلى مسار سوتشي، ولجنة دستورية تبقي على النظام، واستعادت السيطرة على مساحات واسعة عبر اتفاقات خفض التصعيد للدول الضامنة في أستانة، بالتبادل مع الحليف التركي، وبالتشارك مع الحليف الإيراني.

هذه السياسات الروسية تمّت بموافقة واشنطن، التي تخلّت عن فصائل الجنوب التي كانت تدعمها. هذا يعني استمرار الولايات المتحدة بالاعتراف بأحقية النفوذ الروسي والتركي في سوريا، ولا خطوات جدية للحد من النفوذ الإيراني؛ وذلك بالرغم من أنّها تملك أوراقا لفرض دور كبير لها في سوريا، تتعلق بتواجدها العسكري على الثلث الأغنى اقتصاديا، والذي يضم 90 بالمئة من النفط ونصف الغاز السوري، وأنها تملك ملفات تدين رئيس النظام السوري، بجرائم حرب.

البقاء طويلا في سوريا ليس ضمن الاستراتيجية الأميركية، ولكنه حاصل؛ روسيا تريد السيطرة على كامل الأراضي السورية، وتتطلع إلى شرقي الفرات، وتركيا متضايقة من الخطر الكردي بسبب الدعم الأميركي للوحدات الكردية، وهي بصدد تنفيذ عملية عسكرية ضدها في منبج وتل أبيض ورأس العين.

التدخل العسكري الأميركي في سوريا لا يكلّف الولايات المتحدة كثيرا، لأنه جاء ضمن تحالف ضمّ 79 دولة لمحاربة تنظيم داعش في سوريا والعراق، ولا يكلفها بشريا، إذ اعتمدت على قوات محلية مضمونة الولاء من الوحدات الكردية وما يساندها ضمن قوات سوريا الديمقراطية.

واشنطن غير مهتمّة بالثروات السورية؛ وبالتالي التواجد العسكري الأميركي شرق سوريا يشكل ورقة مساومة مع كل من تركيا وروسيا، وورقة ضغط على إيران. في حين أن قرار الانسحاب بدوره يشكل ورقة ضغط على دول عربية متضايقة من التمدد الإيراني في سوريا ولبنان واليمن، لحثها على دفع تكاليف هذا التواجد، وضغطا على إسرائيل أيضا.

حمل ترامب ضمن حملته الرئاسية وعودا بتقليص حجم التواجد العسكري الأميركي في الشرق الأوسط. أعلن في مارس الماضي نيته الانسحاب من سوريا، لكن إدارته أقنَعتْه بالتأجيل، في حين أن جيمس جيفري المبعوث الأميركي الجديد إلى سوريا كان يعمل، بعكس ترامب، على عودة للدور الأميركي في الشرق الأوسط؛ إذ تبلورت مؤخرا في الولايات المتحدة استراتيجية جديدة في سوريا، قائمة على البقاء حتى تحقيق ثلاثة أهداف هي هزيمة داعش وضمان عدم عودته، واحتواء إيران، وتحقيق حل سياسي بموجب القرار 2254.

قامت الولايات المتحدة مؤخرا بإجراءات تدل على تعزيز التواجد العسكري في سوريا، بتدعيم قواعدها العسكرية بالمعدات، وتقديم السلاح الثقيل لحلفائها في قوات سوريا الديمقراطية، وبناء نقاط مراقبة لفصل الوحدات الكردية عن الحدود التركية، والإعلان عن نيّتها تدريب 40 ألف مقاتل محلي، وإقامة منطقة حظر طيران في الشمال السوري.

قرار ترمب لا يخلو من المزاجية ومن عقلية المضاربة وعقد الصفقات؛ فقد أراد تحريك الوضع “الستاتيكي” في سوريا، في خطوة تبدو أشبه بخلط لكلّ أوراق اللعبة السورية، تفتح أمام ترامب بازارات سياسية مع كل من روسيا وتركيا، في ملفات داخل سوريا وخارجها، في سباقٍ لملء الفراغ الذي ستتركه أميركا في شرق سوريا.

يبدو أنّ تركيا على وشك السيطرة على منبج وتل أبيض ورأس العين، مع أنباء عن انسحاب القوّات الأميركية والفرنسية، وكذلك الوحدات الكردية منها. كما أن تركيا تلقّت شحنة بطاريات الباتريوت وصواريخ أف 35 من أميركا، وتعمل الأخيرة على تسليم المعارض التركي عبدالله غولن، وإلغاء العقوبات.

مع تصاعد الخلافات الأميركية – الروسية، والتي وصلت إلى حد إلغاء القمة الثنائية بين بوتين وترامب، على هامش قمة الأرجنتين الاقتصادية مطلع الشهر الجاري، لا يبدو أن التنسيق مع الوحدات الكردية سيفيد موسكو كثيرا، مع وجود فصائل عربية محلية تدعمها أنقرة. أمام روسيا أن تقدّم التنازلات في ملفات خارج سوريا، وأن تعيد قنوات التواصل مع واشنطن للتنسيق حول عبورها الفرات، قبل أن تسبقها إليه أنقرة.

قرار ترامب المفاجئ بالانسحاب خلق توتّرا بين البيت الأبيض وبقية أركان الإدارة الأميركية، تمثّل في استقالة جيمس ماتيس، وزير الدفاع، احتجاجا على آلية اتخاذ القرار، ما ينبئ بتخبّط كبير داخل الإدارة الأميركية، مع تزايد الاستقالات، ومواصلة البورصة هبوطها، وتوقعات بدخول الاقتصاد دورة الركود، واقتراب نتائج التحقيقات الروسية، وتفاقم الخلافات حول السياسات الخارجية، وعزم الرئيس سحب نصف قواته من أفغانستان.

ليس أمام البنتاغون ومؤسسة الاستخبارات سوى إنقاذ الموقف، والقبول المبدئي بقرار ترامب، أي انتظار ما سينتج عنه من صفقات قد تخدم مصالح أميركا، دون السماح له بانسحاب مفاجئ يخلي المكان لعودة تنظيم داعش وتقوية النفوذين الإيراني والروسي؛ وإلا عليهما عرقلة القرار ثانية، وإرجائه إلى أجل غير معلوم.

صحيفة العرب اللندنية

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات