من الطبيعي إذاً أن يشير بعض المحللين الإعلاميين والسياسيين إلى استغرابهم من انطلاق الثورة من مدينة درعا بالذات... حتى تحول الأمر لديهم إلى أحجية... فكيف تكون درعا مهد الثورة... وهي آخر منطقة يمكن حتى للنظام أن يتوقع منها الثورة عليه؟!
والحق أننا لا نخفي أن هذه المحافظة لعبت على الدوام دوراً ما في تثبيت الوضع القائم في سورية من خلال تواجد شخصيات عديدة في مراكز سياسية عليا، ومن خلال أهمية درعا الاقتصادية للحكومة السورية فهي سلة غذاء لا مجال لتجاوزها أو إهمالها، إذ تغطي بعض قرى درعا وحدها حاجة سورية، بل وبعض الدول العربية من الحبوب والخضروات والثروة الحيوانية.. كما أن المحافظة تتمتع بقوة اقتصادية فائقة لم تنجم عن ممارسة أهلها للزراعة فحسب، ولكن أيضاً بسبب ما يمده أبناؤها من عملة صعبة قادمة من مهاجرهم وخاصة الخليج العربي.
المتفحص لفترة حكم الأسد الأب يلاحظ على الفور، أن درعا، وفي الوقت الذي قدمت فيه عشرات الشهداء، ومئات المساجين السياسيين من الإخوان المسلمين والمتعاطفين معهم، لم تتعرض لهجوم شامل وعمليات أمنية واسعة النطاق كما حدث في حماة وإدلب وريفها وحتى بعض أحياء اللاذقية وحلب في ثمانينات القرن العشرين مثلا... وتمتعت المحافظة بنسبة من الهدوء في تلك الفترة المضطربة المشوبة بالخوف والمجازر. وقد يكون هذا أحد أهم الأسباب التي جعلت حافظ الأسد يطمع في دعم تلك المحافظة من خلال استرضاء أهلها، وخاصة أنها مدينة سنية في غالبها.. ذات ميول بعثية تقليدية بسبب اجتذاب البعث لشرائح واسعة في ريفها.. فسعى لإشراك فلاحيها وعمالها في النشاطات السياسية والحزبية، واختار عدداً من رجالاتها ليشركهم " ولو شكلاً " في الحكم.. ولهذا اعتقد بشار الأسد أنه استطاع أن يشتري الحوارنة ويضعهم " في جيبه"، وبالتالي فلا خوف منهم.. فلماذا كانت درعا مهد الثورة إذن؟ لا يخفى على أحد أن لكل تصرف فردي أو جماعي أسباباً مباشرة وأخرى غير مباشرة، وعليه فلم تنطلق الثورة السورية من درعا من فراغ، ونحاول فيما يلي التعرض لهذه الأسباب بشقيها معرجين بالطبع على إرهاصات هذه الثورة وأسبابها العميقة..
الأسباب غير المباشرة: استهانة خفية بالحوارنة!
إن أي تصور يرى بأن درعا كانت فوق قمع النظام وخارج أذى أجهزته الأمنية، لهو تصور ساذج لايعرف واقع الحال، فنظام الأسد قائم في جوهر تكوينه على الطائفية الاستبدادية، واستبداد الطائفة / الأقلية، هو أخطر أنواع الاستبداد وأشرسها... فهو يرى في الطوائف الأخرى خاصة السُّنة عدواً لدوداً. وإن إشارتنا في هذا المقام إلى وجود شخصيات حورانية في السلطة لا يعني أبداً أن أهل درعا أصبحوا قادة الحكم في البلاد، فعلينا أن نعلم أن ضم عدد من رجال درعا إلى الحكومة السورية ما هو إلا تغطية حمقاء على الوجه الطائفي للأسد الأب والابن، إذ كان يُرد على متهمي النظام بالطائفية بالإشارة إلى فيصل المقداد أو فاروق الشرع أوغيرهم. ولا شك أن مثل هؤلاء قد خدعوا الشعب السوري وساهموا في التغطية على طائفية النظام المقيتة.
إذن، لا تختلف درعا عن المحافظات الأخرى، فلا بد أن ترقبها عين المخابرات، وتضيق على أهلها حياتهم ومعيشتهم وتقيد حريتهم. ولا أرى فرقاً بين الاحتقان الذي كان يعتصر قلوب الحوارنة، وذلك الذي يملأ النفوس في دمشق أو حمص أو غيرها. فالبلاد مستباحة لعصابة مارقة تستخدم أشكال العنف والجريمة كافة للحصول على ما تريد. أضف إلى ذلك أنها عصابة طائفية تحتقر غيرها وتقلل من شأنه حتى وهي الأقل شأنا وحضارة. ويبدو لي أن كره أهل درعا والسوريين عموماً لعائلة الأسد، بدأ مع تولي حافظ السلطة بانقلاب غير شرعي، ليس فقط على القيادة السابقة، بل على أصحابه ممن ساعدوه في ذلك الانقلاب ومنهم ضباط حوارنة معروفون، زج بهم في السجن بعد نجاح انقلابه على الفور، بينما نفى بعضهم لاحقاً.
وإن كان معظم السوريين متفقون على تغول حافظ الأسد وإجرامه، إلا أنني أريد أن أشير إلى إرهاصات وأحداث خاصة بدرعا، منها اغتيال محمود الزعبي بثلاث رصاصات في الرأس، وقد سبب ذلك ما يشبه الصحوة لدي كثير من الناس في المحافظة، وقد أخبرني شهود عيان، أن مشيعي الزعبي هتفوا "لا إله إلا الله والشهيد حبيب الله". كما علمنا أن قوات الأمن ملأت قرية خربة غزالة، واقتحمت بعض بيوت المشيعين وساءلتهم وزجت ببعضهم في أقبية السجون.
يجب ألا ننسى أن اغتيال رئيس الوزراء الأسبق تم في شهر آذار عام 2000 أي قبل أن يرث بشار الأسد سلطة أبيه بأربعة أشهر فقط، وهكذا جاء بشار إلى كرسي الحكم وهو يحمل دم محمود الزعبي، خاصة إذا انتبهنا أن معظم الناس في درعا يعتقدون أن الزعبي ما كان ليقتل لولا اعتراضه على طائفية النظام ومحاولة الأسد توريث ولده بشار من خلال رفع درجاته في السلم العسكري والسياسي. وبدل أن يكافأ الرجل على خدمته لحكومة الأسد عشرات السنين، كوفئ بإطلاق النار عليه، بل واتهامه بالفساد.
وصل بشار الأسد إلى السلطة، وبدأ حكمه بخدعة الشفافية ومحاربة الفساد، وإطلاق بعض السجناء السياسيين، وفتح فرجة صغيرة في باب القبضة الأمنية فسمح بتشكيل الأحزاب، وبعقد الندوات السياسية، فيما يعرف بربيع دمشق. وكالسوريين كلهم استبشر أهل درعا خيراً بهذا، لكن بشاراً ما لبث أن أظهر وجهه القبيح، فسجن من أطلق، ولاحق النشطاء السياسيين ووصل الأمر إلى حد ملاحقة المعلمين وخطباء المساجد. وعاد الفساد بأشد مما كان عليه، وأطلق يد طائفته في البلاد يتحكمون وينهبون.
حملات التشييع والاعتداء على النسيج السكاني!
لم يختلف الأسد الابن عن أبيه في استبعاد أولي الكفاءة واستبدالهم بأقاربه وحاشيته، وكان من أشد أخطائه أنه أرسل إلى درعا رجلين مرفوضين شعبياً هما فيصل كلثوم وعاطف نجيب. أما الأول فهو المحافظ، وهو رجل متعطش للقتل بطبيعته ولا أبالغ، فقد حصل على وسام " مسدس البعث" الذي تمنحه الحكومة الطائفية في سورية لمن يقتل أكثر من أعدائها، وقد حصل عليه تكريماً لدوره في قتل عشرات الآلاف في مدينة حماة مطلع الثمانينيات. ويكفي أن تلحظ اسم الوسام حتى تفهم طبيعة هذا الرجل الذي جيء به إلى درعا. أما الثاني فهو عاطف نجيب رئيس الأمن السياسي في المحافظة ونسيب بشار وابن خالته. وله اليد الطولى أن يفعل ما يشاء فيقرب هذا ويبعد ذلك، بل ويسجن من يشاء ويقتل إن طاب له القتل.
بوصول الرجلين انتشرت مظاهر شديدة الطائفية في مدنية يغلب عليها الطابع السني، ولأول مرة ترى في درعا علانية، سيارات كتب عليها "يا حبيبي يا حسين" و "لا سيف إلا ذو الفقار". و شعارات تتحدث عن "المستضعفين في الأرض الذين سيصبحون أئمة". وزاد الطين بلة، أننا كنا نتفاجئ بأشخاص يأتون من إيران أو من بعض القرى العلوية بهدف "تبصير الناس بدينهم الحق"، أي محاولة تشييع السنة من خلال الإغراء بالمال والحظوة، وأراد هؤلاء أن يبنوا حوزات شيعية في المدينة السنية التي لا تعرف هذا ولم تسمع عنه. وكل هذا يتم على مرأى ومسمع من عاطف نجيب وفيصل كلثوم، فهذه رغبات عليا عرفنا فيما بعد أن منفذها ومهندسها هو هشام بختيار بأوامر مباشرة من الأسد.
لم يكتف الأسد الصغير بهذا، بل بدأ الضغط على خطباء المساجد، للحديث فيما يريده النظام، وقد استدعى عاطف نجيب ذات مرة إماماً من مدينة درعا ليحذره من العودة إلى القول إن الحجاب من فرائض الإسلام. وقد حدثنا الرجل كيف أن عاطف قال له إنه لا يوجد حديث أو آية في كتاب الله تشير إلى فرضية الحجاب، ثم عرج على علمانية الدولة، ثم ختم بتهديد الشيخ إن عاد لمثل ذلك. وقد لاحظ أهل درعا جميعهم أن عاطف نجيب كان يضغط بكل قوة على مدراء المدارس أيضاً للنيل من قيمة الحجاب، وكيف أن فتيات كثر عدن إليه في نوع من التحدي. وانتهى الأمر بمنع المنقبات من دخول الحرم الجامعي أو المدارس وكل ذلك باسم العلمانية، التي كان محورها محاربة عقائد السنة فقط، وفتح الباب لكل الطوائف لممارسة ما تحلو لها من شعائر!
ممارسات استفزازية طائفية!
مع إنشاء جامعة درعا في العام 2008، زادت حدة الطائفية في المدينة وزادت مظاهر الهجوم على عادات الناس وتقاليدهم ودينهم أيضاً. وانتشرت ظاهرة مضايقة الفتيات بطريقة عنيفة وفجة، فقد كان شبيحة نجيب يقفون على أبواب المدارس الثانوية وعلى أبواب الجامعة ليقدحوا الفتيات بأقذر الكلمات وأحطها منزلة، ولم تحصل أي فتاة على مبتغاها من شكوى تقدمت بها، فهي تقدم شكواها ضد "الطائفة الكريمة". شتم الذات الإلهية أصبح معتاداً في وسائل النقل، وإن حَوقل أحد الراكبين فقد يسب بدوره ويشتم، وينتهي كل هذا بعبارة فاشتك علينا إن شئت.
هل يستطيع القارئ أن يتحمل مثل هذه الجملة" ما في مطر؟ ما في مشكلة، يشربون من أبوالهم" تعليق الطائفيين على خروج أهل درعا من أجل صلاة الاستسقاء.
في مطعم وسط درعا، دخل عاطف نجيب وأمر المدير بإخراج الناس كلهم فهو لا يطيق أن يأكل معه أحد إلا رجاله. ومن نافل القول أنه لا يطيق إلا أن يأكل مجّاناً وبالقوة أيضاً. خرج الزبائن مرغمين وفي قلبهم غصة مما حدث، وتمتموا بآرائهم، وسبوا الرجل ورئيسه، وهددوا وتوعدوا وكانوا صادقين. في مكان آخر، اعتدى رجل علوي على آخر سنيّ يعمل في مكتب خطوط جوية، وأرد أن ينهب من محله خمسة آلاف ليرة بادعاء كاذب. ذهب صاحب المحل إلى مركز الشرطة ليشتكي فتم تحويله إلى مركز المخابرات الجوية وهناك أفهم عنوة أن عليه أن يدفع المال بالفعل للسارق وأن يصمت حفاظاً على لسانه، ولم يستح الضابط من القول صراحة أن الآخر علوي فهو أعلى شأنا وأرفع منزلة. ليس فحسب بل كانت قوات الأمن تصمت على تسليح بعض العلويين في قرى درعا ومدنها (بصرى مثالاً) بينما تطارد من عنده بندقية صيد في المحافظة. ولا يزال لدينا عشرات الأمثلة على مثل هذه التصرفات الشائنة.
فساد المحافظ ورشاوى الأمن!
على عكس ما توقعه الناس في البداية استشرى الفساد في درعا بشكل خطير بعد تولي بشار الأسد للسلطة، فقد زادت الرشوة حدة ولم تعد تستطيع الحصول على أي مستند حكومي إلا بالرشوة. ورفع المحافظ ضريبة حفر بئر الماء إلى أكثر من مليون ليرة سورية مستغلاً حاجة المزارعين للمياه. أضف إلى ذلك فقد قام الرجل بالإعلان عن القيام بمشروع الصرف الصحي في القرى الشرقية، حيث رُصدت أموال طائلة لهذا المشروع، ثم ما لبث أن توقف الأمر كله وذهبت الأموال مقاسمة بين المحافظ وبين رؤساء البلديات، حيث أصبح بعضهم مليونيراً في عدة أشهر. وقد أثار الموضوع ضجة كبيرة بين أبناء المحافظة وسبب كثيراً من الكراهية للنظام. وأوجد غصة كبيرة في نفوس الناس. وكان أشد ما في الموضوع قسوة أن يشعر الأهالي بالمهانة فهم في القرن الحادي والعشرين ولا يوجد صرف صحي لعشرات القرى في المحافظة. مع ما يعنيه ذلك من إفساد الأراضي الزراعية وتلويث البيئة بطريقة خطيرة. والشعور بالتخلف والدونية.
بلغ إهمال مدنية درعا حدّاً أنها كانت " تغرق في شبر ماء" ونطلق هذه الجملة على الحالة المزرية للمدينة وقت المطر، إذ يتجمع الماء في الشوارع والطرقات كأنك في فيضان من الأوحال والطين. وذهبت شركة الخضار والفواكه إلى بيع ما يجب أن يرمى من منتوجها على أنه درجة أولى، بينما كان يقوم شبيحة عاطف نجيب بشراء الخبز من مخابز درعا ثم بيعه بسعر زائد عند نفاده من السوق. وإذا اشتكيت أو اعترضت فأنت المخطئ على الدوام. بدأ المال يتجمع في يد فئة محدودة من الناس، ولا تستطيع أن تفتح مشروعاً ولو صغيراً دون أن يشاركك فيه عاطف نجيب أو المحافظ أو البعثيون الذين أطلقت أيديهم الطويلة ونفوسهم المريضة في أقوات الناس وأرزاقهم. ولعل هذا ما يفسر تصرف الثوار في درعا يوم 20/3/2011 عندما هاجموا ممتلكات رامي مخلوف فحطموها دون المساس بغيرها.
أسباب مباشرة: قصص النار في الهشيم!
الأسباب غير المباشرة التي سقتها ما كانت إلا لتتحول شيئا فشيئاً إلى نواة ثورة. بدأ الناس في مدنية درعا يتكلمون في مجالسهم عن كرههم للنظام وعن استبداد عاطف نجيب وفيصل كلثوم واستباحتهم لحقوق الناس، وتطور الأمر في فترة الثورات العربية إلى الحديث مباشرة عن الأسد وانتقاد سياسته. وفي كل مرة كان عاطف يعتقل ويعذب كل من تكلم. وازدادت حدة التحدي بين الطرفين، حين قام بعض سائقي الشاحنات في المدنية بالاعتراض على رفع الضريبة على سياراتهم وحمولتها، فقد وجدوا، وهذا صحيح، أن المحافظة تجحف بحق من ينقل الغذاء إلى سورية كلها، فتعرقل عملهم وترهقهم بدفع الرشى والضرائب الوهمية. وقد تجرأ سائقوا الشاحنات على تهديد المحافظ بالإضراب، فثارت ثائرته وانتقم منهم بالسجن والتضييق. كانت أخبار هذه القصة وعشرات الأمثلة الأخرى التي لا يتسع لها المقام، تسير بين الناس كالنار في الهشيم، وبدأ الحوارنة يتذمرون بصوت أعلى من ذي قبل، بصوت أشبه بأصوات الثوار في دول الربيع العربي.
سقط حسني مبارك، وابتهج السوريون بالخبر، لم تتمالك الطبيبة عائشة المسالمة، نفسها من المسارعة إلى الاتصال بصديقة لها من قرية خربة غزالة، وبشرتها بسقوط الطاغية.تبادلتا التهاني، وقالت الطبيبة الحرة" عقبال عنّا". طار عاطف نجيب بشبيحته، وهو الذي يتجسس على هواتف درعا كلها، وقبض على السيدة المذكورة وأودعها السجن حيث تعرضت لأشد الإهانات.
في يوم 17/2/2011 يخرج طلاب مدرسة الأربعين إلى الباحة، ويكتبون على جدار مدرستهم في مدينة درعا البلد "جاك الدور يا دكتور" وكتبوا أيضاً: الشعب يريد إسقاط النظام. و "يسقط بشار الأسد". انتقل الخبر إلى الحاقد نجيب فبعث شبيحة أحضرت أولئك الأطفال وأصحابهم. كانوا تسعة عشر طفلاً أكبرهم لم يتجاوز الخامسة عشرة. سجن بعضهم عنده ورحّل بعضهم إلى مركز المخابرات الجوية في دمشق وأذاقهم ألوان العذاب.
تأكد لأهل درعا يقيناً أن لا اعتبار لهم عند النظام، ولا اعتبار لممثليهم في السلطة وأن أحداً لن يشفع لهم ولأولادهم. وبدت الصورة واضحة بأبشع تجلياتها عندما تعرض الأطفال للتعذيب الشديد. صبر الآباء على غياب أولادهم بعض الوقت، وفي وسط آذار شكل وجهاء درعا وفداً لمقابلة المحافظ وصبيه نجيب وكان على رأسهم محمد عبد العزيز أبازيد، وطلب منهما الإفراج عن الأولاد فلم يجد عندهم إلا الصدود. ليس فحسب، فقد قال عاطف نجيب كما نقل لنا: "انسوا أمر أولادكم، واذهبوا إلى نسائكم فحبّلوهنّ وأتوا بأولاد جدد. وإن لم تستطيعوا أو ليس عندكم الرجولة الكافية، فنحن لدينا رجال وهم يتكفلون بتحبيلهن".
لم يصبر وجهاء درعا حتى يصلوا بيوتهم، بل من لحظة سماع ما سمعوا، صاحوا الموت ولا المذلة، المأخوذ معنىً من قول هانئ بن مسعود الشيباني المنية ولا الدنية. لعل نجيب لم يفهم ما قاله الوجهاء فهو لا يعرف معنى للكرامة ولم يتعلم من رئيسه إلا الدنية، الدنية التي جعلت طائرات العدو تحوم فوق قصره الرئاسي فيحتفظ بحق الرد. لا أريد أن أعيد القصة تفصيلاً للقارئ الكريم، ولكنني أكتفي بالقول إن عاطف نجيب برده هذا أظهر جهله وجهل قيادته بأهل درعا وماذا تعني الكرامة لهم.
إذن كان ذلك الرد الأرعن السبب المباشر في انطلاق شرارة الثورة من درعا. وبالطبع لم يكن سبباً معزولاً كما أشرت في أكثر من موضع، فقد حاول الأسد سلب الناس كرامتهم وحقوقهم وكان الاحتقان يملأ أفئدتهم، لم يعد ينفع الكبت أو الصمت، لقد رأى أهل درعا في ذلك فرصة عظيمة لينقضوا على النظام الفاسد، ولم يكونوا ليترددوا وقد ثار العرب جميعهم. ولعل من نافل القول أن ثورات الربيع العربي تركت أثراً هاماً ورئيساً في إلهام السوريين. ومن خلال متابعة الأسباب التي أدت إلى تلك الثورات، رأى السوريون عموماً أن مصر كانت أكثر حرية وانفتاحاً من سورية ومع ذلك ثار المصريون ضد مبارك. وكانت تونس أكثر نهضة وثار أهلها أيضاً، وكانت ليبيا أغنى من سورية. ولهذا تساءل السوريون أتقوم الثورة في تلك البلدان وحالهم خير من حالنا بينما نحن لا نتحرك؟ وقد لاحظت شخصيا عند زيارتي لدرعا في تلك الآونة أن الناس مستاءون من إهمال الأسد لهم، وكانوا يرددون: هل لا يخاف الأسد منّا، ولا يحسب حسابنا؟ هل نحن جبناء إلى الحد الذي جعل الأسد وبعد كل هذه الثوارت، لا ينظر إلينا ولا يحسن أحوالنا. ولا يرفع الظلم عنّا؟ بسبب ضعف خبرته السياسية، رد الأسد على الثوارت العربية بأن خفض للسوريين مدة الخدمة العسكرية ثلاثة أشهر، بينما كان الناس يتوقون إلى الحرية ويتطلعون إلى الكرامة والتخلص من الاستبداد. باختصار يعرف السوريون أنفسهم ويعلمون أن أهل مصر واليمن وتونس وليبيا ليسوا أشجع منهم ولا أشد، وكان لا بد أن يحدث في سورية ما حدث هناك.
انطلقت الشرارة... لماذا لم تخمد؟!
تلك كانت أسباب انطلاق الثورة السورية من درعا، ولا بد لي أخيراً أن أذكر سريعاً، أسباب استمرارها وعدم تراجعها. فإصرار عاطف نجيب على الاستمرار في اعتقال الأطفال، أدى إلى إصرار أهل درعا على القضاء عليه وعلى المنظومة الأمنية، ولا أنسى أبد الدهر شعار" يا عاطف يا نجيب بدنا نسيك الحليب". أيضا فإن معالجة الأسد الحمقاء للأزمة ساهمت في استمرار توقد شعلة الثورة، إذ أرسل الأسد طائراته وشبيحته لقصف المسجد العمري، في الوقت الذي كان إعلامه يصف سلميي درعا بأنهم إرهابيون وقتلة ومدعومون من الخارج، فما كان للناس هناك أن يقبلوا بذلك وهم يرون حقيقة ما يحدث. ولن ينسى السوريون أن دم حسام عياش ومحمود الجوابرة اللذين ارتقيا في جمعة الكرامة قد سقى بذرة الثورة فجعلها ثمرة. بعد ذلك نادى الحوارنة "الفزعة" ففزعت سورية كلها تلبية للنداء. ولا تزال الفزعة تتلو أختها حتى يسقط الأسد وإنه لقريب.
التعليقات (46)