ثورات عالمية انتصرت بعد مخاضات وهزائم.. الثورة الإنكليزية (1)

ثورات عالمية انتصرت بعد مخاضات وهزائم.. الثورة الإنكليزية (1)
بعد حراك مدني تحدّى نظام الأسد الدموي، وتشكيل كتائب الجيش الحرّ التي انتزعت من يده مدناً وبلدات تبلغ مساحتها ثلاثة أرباع سوريا، وهدّدته في عقر العاصمة ومناطق إمداده البشري واللوجستي في الساحل، استطاع النظام قلب المعادلة رأساً على عقب.

استردّ النظام داريا بالحصار والقصف والتهجير، وسقطت المناطق في يده واحدة تلو الأخرى، فاسترد أحياء حلب المحررة والغوطة الشرقية ودرعا وعشرات المدن والبلدات حتى لم يتبقّ من المناطق المحررة سوى ريف حماة الشمالي ومحافظة إدلب، وترافق ذلك مع انهيار مؤسسات الثورة المدنية، وتشرذم الفصائل التي راحت تتناحر في حروب مناطقية وعقائدية ضيقة، وغدت صور الشهداء ببراميل النظام مشاهد يومية، وأخبار الشهداء في معتقلاته أخباراً اعتيادية.

وأما الباصات الخضر التي تنتظر سكان المناطق المحاصرة لنقلهم إلى الشمال فهي التكثيف الأكثر للقهر في زمن الأسد، لقد غدت الحقيقة الخالصة والمتبقية من كل ما جرى هي الفاتورة الإنسانية المهوولة ومشاهد الدم والدموع والموت والجوع والتشرّد والتغييب والاختطاف والتهجير، والكثير من الخيانات والتشرذم والعقائد والإيديولوجيات المتناحرة والمصالح، أما ظلها الكامن وراء كل هذا المشهد المهيب الدامي فهو صرخة السوريين نحو الكرامة وحقهم في استرداد ذواتهم المسلوبة.

ثمانية أعوام.. رأى السوريون خلالها قعر الحضيض بأمّ أعينهم وتلمّسوا عمق ذواتهم في آن واحد.. إنها سوريا، عقدة الدم والتاريخ والحرية الموعودة.

هل أغلقتْ حكاية الثورة التي وقفتْ في وجه واحدة من أعتى دكتاتوريات التاريخ الحديث؟

يقال إنّ للتاريخ مكْره، حيث يعمل على تخْليق تناقضات جديدة تحفّز حراكات مباغتة، فتقلب معادلات الأمر الواقع وتعيّن واقعاً جديداً. ترى، ما التحوّل القادم في سوريا وما شكله؟ في هذه الوقفات السريعة سنتوقف في سبع مقاربات عند أهم ثورات العالم الحديث وحروبه الأهلية، لنستشرف ملامح التحوّل الثاني في سوريا.

إنكلترا..1642

كانت إنكلترا تغلي بالعديد من التناقضات الاجتماعية، حيث كانت لندن قد بدأت نقلتها باتجاه مجتمع أكثر انفتاحاً مع بدايات الثورة الصناعية، فالمدينة غدت أكثر اكتظاظاً بالسكان، ومصادر الإنتاج باتت متعدّدة، بعدما كان الإنتاج مرتبطاً بالزراعة وحدها، فتبدلت العلاقات الاجتماعية مع نشأة الحياة المدنية، التي باتت المشاركة في صنع القرار واحداً من حاجاتها، بينما كان نظام الحكم ملكياً يقيم بناه الإدارية والسياسية على العلاقات الإقطاعية المترهّلة وتسلسل الطبقات الهرمية من نبلاء وكنيسة وحاشية الملك وعامة الشعب.

الحاجات الجديدة للمجتمع لم تكنْ بعيدةً عن الدور الذي لعبتْه التناقضات الدينية، فإنكلترا بأغلبيتها بروتستانت، بينما كان ملوكها بأغلبهم من الكاثوليك، ولم يكن الأمر يروق لهؤلاء الملوك الذين استشعروا فيه تهديداً لاستمرار سلالاتهم في الحكم، وأغلبهم لم يكنْ يعيّن بالمناصب العليا إلا الكاثوليك، مما أغضب الشعب ودفعه للتمرّد مرات عديدة، حتى وصل الأمر بالملوك أن يستعينوا بفرق عسكرية خارجية من الكاثوليك لتدعمهم وهو الأمر الذي أثار الشعب بصورة أكبر.

الحرب الأهلية

ضمن هذا المناخ العام نشأت الحرب الأهلية الإنكليزية عام 1642 بين أنصار الملك شارل الأول من جهة وأنصار البرلمانيين من جهة أخرى، وشهدت ثلاث مراحل أساسية: أولها انتهت بعد أربع سنوات بهزيمة الملك وأنصاره، وتسليمه للبرلمانيين، وثانيها اندلعت عام 1648 إثر فرار الملك وانتهت بإلقاء القبض عليه وإعدامه عام 1649 في وايت هيل بالقرب من وستمنستر من قبل لجنة من البرلمانيين المتعصبين للثورة حيث قام البرلماني أوليفر كرومويل بتشكيلها، ونفْي ولده شارل الثاني، وثالثها اندلعت عام 1649 بين أنصار الملك شارل الثاني وأنصار البرلمان الثائرين، وانتهت عام 1651 بهزيمة أنصار الملك على يد الثوار بقيادة أوليفر كرومويل في معركة ووريستر.

ثلاث مراحل

حربٌ أهليةٌ على ثلاث مراحل.. دون أيّ تسمية أخرى.. امتدتْ على تسع سنوات، لكنّها حققت العديد من المكاسب "الثورية" للشعب الإنكليزي.. كان أهمها تحويل إنكلترا إلى جمهورية بعد أنْ كان الحكم فيها ملكياً، وتأسيس كومنويلث إنجلترا الحر برئاسة كرومويل نفسه، وهو عبارةٌ عن رابطة للشعوب البريطانية الحرة وضمت آنذاك اسكتلندا وإيرلندا إلى جانب إنكلترا، وكسب تعاطف الاسكتلنديين مما دعم البرلمانيين، لكنّ كلّ تلك الروح النبيلة لأهداف ومسببات الحرب لم ينف عنها سبغتها الأهلية، بل كانا متوازيين معاً: عمق الهدف والنزعة التغييرية النابعين من تحول اجتماعي مضْمر مع نزعة ضدّيّة تجاوزيّة، فكرمويل الذي حكم انكلترا حتى وفاته كان شخصيةً عسكريةً إضافةً لكونه سياسياً، وكان يوصف بالديكتاتور الدموي من قبل خصومه، وفي نفس الوقت، لم تعط تلك الروح ولا عمق النزعة التغييرية المكاسب التي حصّلها الإنكليز أيّ حصانة، فالجمهورية عادت ملكيةً ببساطة إثر وفاة كرومويل عام ألف وستمئة وثمانية وخمسين، حيث خلفه ابنه ولم يتمكنْ من مجاراة وجود شارل الثاني، لذلك استقال وأخلى الساحة له دون أيّ صدامات تذكر، ليتوج ملكاً عام 1661.

وهكذا غرقت الإنجازات وحجبت لـسبعة وعشرين عاماً دون أسباب ملموسة، سوى استسهال الشارع أو نكوصه للماضي الآمن، إلى أن توفي شارل الثاني عام 1685، فورث العرش منه أخوه جيمس الثاني، الذي حاول الانتقام لأبيه ممن أعدموه وأن يضْعف البرلمان ويعيد الأمور إلى ما كانت عليه، لكنّ إنكلترا كانت صابرةً آنذاك ومنتظرةً على هدف مضمر، وهو أنْ يؤول العرش من بعده إلى ابنته ماري وزوجها وليم البروتستانتيّين، لكنّ مفارقةً واحدةً وبسيطةً أخرجت إنكلترا عن صمتها، فالملك جيمس الثاني رزق بولد.. ما يعني أنْ يحكمها ملكٌ كاثوليكي جديد، فكانت بداية الثورة المجيدة عام ألف وستمئة وثمانية وثمانين.

الإطاحة بالديكتاتور

تحالف الشعب مع وليم الثالث، حيث تمكّنتْ قواته من الإطاحة بالملك الذي هرب إلى فرنسا وقضى بقية حياته منفياً فيها، لتغلق صفحة الملكية المطلقة إلى الأبد في إنكلترا، ويكون في مقدمة إنجازات الثورة وثيقة إعلان الحقوق التي نقلت الحكم من مرحلة الملك الذي يحكم بالحق الإلهي إلى مرحلة الملك مقيّد السلطات الذي يملك ولا يحكم، ومنعت الملك من انتقاص حقوق الشعب، وربطت السماح له بإصدار قوانين جديدة أو إلغائها بالعودة للبرلمان، وأكدتْ على أنّ حرية الرأي والتعبير في البرلمان مصانةٌ، وهكذا انطلقت الآليات الديمقراطية بصورة فعلية عبر نظام برلماني يشتمل انتخابات وتمثيل نيابي، وغدا البرلمان أعلى سلطة في البلاد، ونشأ مجلسان هما العموم الذي أصبح ممثلاً فعلياً للشعب، واللوردات، وانطلق أيضاً العمل الحزبي عبر ظهور تكتّلين برلمانيين الأول مؤيدٌ للبرلمانية، والآخر مؤيدٌ للملكية.

وهكذا حقّق الإنكليز أحلامهم، بعد ثلاثين عاماً من تجليّاتها الأولى، وبعد أنْ غرقتْ لسنوات وعقود تحت سطح الواقع السياسي، وأبعدت في بعض اللحظات إلى أكثر الزوايا القصيّة ظلمةً من الوجدان العام، فكان يلزمها حرباً أهليةً بثلاث مراحل تمتد على تسع سنوات، وعودةً لحقبة ملكيّة مطلقة تمتد على سبعة وعشرين عاماً، ثمّ ثورةٌ شعبية، حتى تغْلق بفضلها صفحة الحكم بالحقّ الإلهي، الثورة الشعبية التي ما كان لها أنْ تتمّ بعد كلّ هذه الأعوام من الإذعان للملكية المطلقة لولا حدثٌ صغيرٌ ومستجدّ، وهو إنجاب الملك لولد، ذلك الحدث حفّز التاريخ بتعزيز تناقضاته من جديد فنهض الشعب مجّدداً، وأشعل ثورته وأكمل طريقه الذي بدأه منذ عقود، ليفتح الباب أمام الحياة الديمقراطية العريضة، والسياسية الحزبية، وتكون منجزاته تلك مصدر وحي لأوروبا بأكملها التي كانت ماتزال تعيش على إيقاعات القرون الوسطى.

وفي سوريا اليوم، ومهما اختلفت السياقات وتناقضت، أو ابتعدت عن أهدافها الأولى، تومئ تجارب الشعوب بتناقضات جديدة تطفي أهداف الثورة على السطح وتفتح مسارات جديدة، إنه مكر التاريخ الذي يلوّح بالتحول الثاني

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات