وثائقي (حكاية 10 سنوات) يوثق وينتقد ويستعرض الاتهامات بشجاعة!

وثائقي (حكاية 10 سنوات) يوثق وينتقد ويستعرض الاتهامات بشجاعة!
شهر مضى على الاحتفال الذي أقامته قناة "أورينت" السورية بمناسبة مرور 10 سنوات على انطلاقتها في شهر شباط/فبراير من العام 2019، والذي تم خلاله، ومن خلال تقارير يومية مميزة، استعراض أبرز البرامج والانجازات والجهود التي قدمتها المحطة التي حملت الهوية السورية بإخلاص منذ ولادتها الأولى  مرورا  باندلاع الثورة السورية التي كانت اورينت فيها حاملة الصوت الأول، وصولاً للذكرى الثامنة للثورة السورية.

 

فيديو يلخص المسيرة

توجت أورينت احتفاليتها على مدار الشهر، بفيلم وثائقي حمل عنوان: (حكاية 10 سنوات) كتب السيناريو له وأخرجه محمد منصور، الذي سبق أن أنجز عشرات الأفلام الوثائقية للأورينت، وقد جمع في الفيلم العديد من الشخصيات العاملة في المحطة منذ انطلاقتها ومنهم مالكها وممولها ومديرها العام "غسان عبود" إلى جانب إعلاميين وحقوقيين سوريين.

شكلت القناة التي أُطلقت عام 2009 نقلة نوعية على صعيد الإعلام السوري وحتى العربي، حيث كانت المصدر الإعلامي "الخاص" الأول والوحيد الذي يدخل الشارع السوري كـ "بديل" عن إعلام النظام ومحطاته التقليدية "التي أكل عليها الزمان وشرب"، بسبب تشابه المواد المعروضة التي يطرحها وكمية الطمس والتلفيق التي يضفيها على أي حقيقة يريد نقلها عبر محطاته.

"هنا سوريا" البرنامج الأول الذي عرضته أورينت أو (قناة المشرق) كما كان اسمها حينها بعد انطلاقتها عام 2009 على شكل "نشرة أخبار" والذي ما يزال مستمراً حتى اللحظة بنفس الاسم وذات المضمون، حيث شكل البرنامج نافذة أولى على مناقشة قضايا الشارع السوري المسكوت عنها والمغيبة في الإعلام الرسمي، ليصبح بدوره نواة ونقلة إعلامية كبيرة بالنسبة للسوريين الذين كانوا يطمحون لبرامج تناقش الواقع بمهنية وتنقل صورة واضحة لما يحدث في الواقع دون أي تعتيم وبعيداً عن (الإعلام الحكومي) الذي كان بطبيعته مأجوراً لسلطة الفساد آنذاك.

 

هكذا بدأنا..

يقول المخرج السوري "عبدو مدخنة"، إن "القناة خلقت صورة تعد غير مألوفة وغير اعتيادية بالنسبة للشارع السوري والمشاهد السوري وقدمت الحية في سوريا وخلقت أمراً غير متوقع بالنسبة للمشاهد السوري وعلى شاشة سورية ببرامج صناعها سوريون، أذكر كان هناك نوعاً من الدهشة بالنسبة للمشاهدين والعاملين على البرامج على حد سواء، أتذكر كمّ الدهشة عند استعراض اللقاءات والبرامج وغيرها على الضيوف الخارجيين، كان كل هذا غير مألوف بالنسبة للمشاهد السوري".

أما الكاتب ومنتج البرامج السوري "فارس الذهبي" فقد روى معلومات حول المرحلة التي سبقت مرحلة انطلاق القناة والتي كانت بمثابة مرحلة تحضير عام 2008، حيث تحدث "الذهبي" عن حالة الدهشة والاستغراب التي أصابت المشاهد السوري لا سيما وأن نمط العرض والقائمين عليه كان مختلفاً عما عهده السوريون خلال عقود مضت قائلاً: "مجموعة من المذيعين الشبان والشابات يطرحون أسئلة معاصرة وغير تقليدية وجريئة بعيداً عن الحالة (الخشبية الآلية) التي كان يعتادها الإعلام الرسمي السوري طوال 50 عاماً عبر (مذيع كهل في الخمسين من العمر ببدلة رسمية يسأل أسئلة باللغة الفصحى المقهرة)"، مشيراً إلى أن ما جرى حول تحويل وخلخلة لمفهوم الإعلام التقليدي في سوريا.

 

غسان عبود: أعداء المحطة وُلدوا معها

ربما كان أكثر ما يلخص هذا الفيلم ومسار أورينت من خلاله ما قاله مالكها رجل الأعمال السوري غسان عبود: إن "الأورينت ولدت ولديها أعداؤها" وهكذا سار هذا الفيلم الوثائقي المشوق والمشغول بحرفية عالية، ليروي قصة العداوات دون أن يلتفت كثيرا للصداقات وللمدائح.. لكن هذا الخيار استطاع أن يحول أورينت من محطة تلفزيونية خاصة تُروى قصة العقد الأول من عمرها في فيلم من إنتاجها، إلى قضية رأي عام تحمل هم التغيير في الواقع السوري. 

ولم يكن كلام غسان عبود أن "الأورينت هي مشروع تجاري" سوى محاولة لتبسيط الهدف الذي ولدت من أجله القناة، محاولة للتبسيط الذي يخفي وراءه أهدافا أكبر. فإذا كانت أورينت مشروعا تجارياً واستطاعت أن تثير كل هذا الصخب والسجال وجدل التغيير وتكسير الصورة النمطية في كل شيء في سورية.. فكيف ستكون لو كانت مشروعا تنويرياً وانقلابياً.

ربما أفصحت برامجها الأولى عن حقيقتها.. وهذا ما دعى النظام لمحاولة الاستيلاء عليها وتهديد مالكها الذي ينطلق في حديثه العذب خلال الفيلم ليقول بلغة المصارحة والمكاشفة التي اعتادها الجمهور السوري منه:  " والله يا صديقي.. ما طلعت الأورينت بعد أربعين يوم إلا أجانا تليفون: استسلم ارفاع ايديك بدنا ناخدها منك.. ".

KFhKN-MY2nw

وشرح المحامي فادي جبور نائب المدير العام السابق لأورينت خلال سنوات عديدة منذ انطلاقتها، شكل التنازلات التي كانت مطلوبة من أورينت ومالكها كي يسمح لها الاستمرار في سورية، وتحدث في نهاية حديثه عن تفاصيل شروط الشراكة مع رامي مخلوف، التي كان أغرب ما فيها وجود محكّم يتمتع بصلاحيات واسعة (تم ترشيح محكمان أحدهما شقيق رامي مخلوف والآخر ابن عمه) ويستطيع هذا المحكم أن يفرض على أي من الطرفين ما يشاء ويقول الأستاذ جبور:

"هذا على ما اعتقد أنه كان احد البنود اللي كان مخطط بموجبه أن يستهدفوا غسان واورينت وياخدوا بالنهاية منه التليفزيون وياريت كانت بتوقف عند التلفزيون كان ممكن قرارات المحكم يطال غسان بتعويضات هائلة قد تؤدي لا سمح الله إلى تدميره من الناحية المالية".

 

ضغوطات واتهامات بالخيانة

استطاع غسان عبود بصلابته وعصاميته أيضا، أن ينجو من هذا الفخ الذي كلفه إغلاق مكاتب اورينت في سورية ومنعها من العمل.. لكن تلك لم تكن سوى بدايات أولى لمشوار محاولات الاغتيال التي تعرضت لها المحطة.  ,بعد اندلاع الربيع العربي وقيام الثورات في كل من تونس ومصر وليبيا ومن خلال سلسلة تقارير وضحت موقف المحطة الداعم لتلك الثورات وتغطيتها لدعوات "يوم الغضب السوري" الذي كان بتاريخ 4 و5 شباط/فبراير 2011 ومن ثم تغطيتها لأول مظاهرة مطالبة للحرية والتي انطلقت في سوق الحميدية والحريقة بالعاصمة دمشق في 15 آذار/مارس من العام نفسه جعلها عرضة للاستهداف المباشر من النظام السوري سواء كان ذلك عن طريق التشهير أو التهديد حيث بدأت الاتصالات الهاتفية تنهال تباعاً على القناة وموظفيها والتي كان أغلبها من ضباط في أمن أسد وميليشياته مطالبة موظفي القناة بالاستقالة وتحريضهم عليها بوصفها "خائنة" إضافة لإمهالهم مدة ثلاثة أيام من أجل الاستقالة أو سيتم استهداف أهاليهم واعتبارهم "خونة وعملاء لإسرائيل".

يقول المدير التنفيذي لمجموعة أورينت "مهند السيد علي" إن القسم الاقتصادي للمحطة آنذاك عمل على تغطيات خاصة التي قامت بها للأوضاع المعيشية والاقتصادية في البلاد وتأثير القوانين القسرية المفروضة على الحياة المدنية وعلى رأسها "قانون الطوارئ" ووضع مقارنة بسيطة للحياة بين قانون الطوارئ وبين الوضع العادي للبلاد.

واشار إلى أنه ومع أول مظاهرة بدأ أسلوب جديد من العمل يعتمد على عرض الفيديو أكثر من مرة وفي زاويته كتب مباشر ثم فتح الهواء أمام عشرات الاتصالات للحديث عن الظاهرة الجديدة التي لم يعهدها الشعب السوري منذ عقود وقد كان الحدث مهم جداً ويدفع أي مؤسسة تعمل بالشأن الصحفي بمهنية لقطع بثها وتغطية الحدث بشكل مباشر لا سيما إن كانت سورية وموجهة للشعب السوري بالدرجة الأولى"، مشيراً إلى أن: "هذه التغطية هي ما أشعلت الوضع ضد القناة وأن التهديد المستمر لموظفيها دفع مجموعة من العاملين فيها كتبوا عريضة وضعوا أسماءهم عليها ووقعوا بجانبها مطالبين إدارة القناة بالاعتذار للشعب السوري أو أنهم مضطرون للمغادرة".

 

فيما كان "التخوين" منصباً على شخصية مالك القناة "غسان عبود" بالدرجة الأولى، والذي اتهمته مصادر إعلام سورية حكومية وأخرى عربية بالتحضير لتفجير الوضع في سوريا وعقد لقاء في العاصمة البريطانية لندن مع سفراء دولتين خليجيتين وشخصيات أخرى من المعارضة، وقد أكد "غسان عبود" الذي رد على هذه الاتهامات آنذاك عبر صحيفة القدس العربي وصحف عربية أخرى خلال الشريط، أن " هذه الاتهامات كان من الممكن رفع دعاوى بموجبها ولكن للأسف لا يوجد بلد يحكمه القضاء كي يتمكن الشخص من رفع هكذا دعاوى كي ينال حقه"، داعياً السوريين للنظر إلى كلام هؤلاء وأدلتهم التي يدعون صحتها.

 

اتهامات مثيرة للجدل

بعد ذلك يمضي الفيلم الوثائقي مارا عبر مسار الثورة السورية الذي عاصرته أورينت منذ الصيحة الأولى.. دون أن يتجنب الاتهامات التي أثيرت حول أداء اورينت خلال الثورة، والتي استطاع مالكها أن يقدم وجهة نظر، سواء اتفقنا معها أو اختلفنا، إلا أنها تكشف أن أورينت كانت تنطلق في تغطيتها من رؤية خاصة بها، ولم يكن الأمر مجرد متابعة وتسجيل للأحداث فقط من أجل ملء وقت البث.

كانت رؤية أورينت في تغطية أحداث الثورة وتحولاتها، اعلاميا حينا، لكنها سياسية وطنية ايضا. حتى حين كانت تنقل ما يجري بواقعية كانت تخفي موقفا سياسيا لا يمكن للمرء إلا أن يتوقف عند تحليله موافقا أو معترضا. اتهمت اورينت بالطائفية لأنها حددت الهويات الصغرى للمتقاتلين وللمعتدين على بيوت جيرانهم، كانت تصر أنه يجب أن يفهم المشاهد السوري وغير السوري ما هي دوافع الصراع. أحيانا كانت صادمة، وأحيانا كانت مباشرة، لكنها في كل الأحيان كان لديها ما تقوله، وكان ما تقوله ينقل إحساس الناس الذين دمرت بيوتهم وقتل اولادهم وشردوا.في هذا كانت أورينت سورية، أو بعبارة أصح لم تستطع ان تتخلى عن سوريتها وعن ألمها السوري الذي انعكس في نشرات أخبارها ونقاشات برامجها التي يسأل فؤاد حميرة في أحد برامجها: "كيف أسقط السوريون عشرات الرؤساء؟ ليش صاير علينا صعب إسقاط رئيس علوي؟"

وبالعودة لمالك القناة "غسان عبود" فقد أكد أن إطلاق المسميات على الجماعات في سوريا جاء للضرورة الملحة في نقل الخبر، فعلى سبيل المثال عندما ارتكبت ميليشيات "علوية وشيعية" مذبحة الحولة كان من المستحيل عدم نسب الصفة الطائفية لهؤلاء لأن ارتكاب المجزرة جاء على أساس طائفي.

وعن موضوع الترويج للفصائل التي اتهمت القناة به فقد ذكر "عبود" ان الموضوع ليس كما ادعى البعض إطلاقاً، وإنما كل ما هنالك هو نقل الخبر بحيادية كما هو فمثلاً عندما تهاجم النصرة موقعاً للنظام يجب أن نقول أن النصرة فعلت كذا وهذا ينطبق على باقي الفصائل التي تقاتل على الأرض.

 

ضيوف تم انتقاؤهم بعناية

إلى جانب العاملين في أورينت وبعض من عاصروا فترة تأسيسها، اختار الفيلم ضيوفه بعناية، فحضر فنان الكاريكاتير البارز علي فرزات، ليقدم شهادات رائعة، قرأت مشروع أورينت باعتباره مشروع تغيير، قارن بينه وبين جريدته الساخرة (الدومري) بلا شخصنة، قدم مثالا من خلال هذين المنبرين عن محاولات السوريين الشجاعة للتعبير عن حلم التغيير الذي قاومه النظام بشراسة. أما الحقوقي والمحامي الأستاذ أنور البني فقد تحدث بعمق عن مسار اورينت، التي مكنت السوريين لأول مرة أن يسمعوا صوتهعم على التلفزيون بلا اقتطاعات كما قال، وعندما أثار الفيلم افتقار أورينت لأصدقاء حتى في أوساط المعارضة، أوضح البني:

"وقت يكون الإنسان مستقل غالباً ما بيكسب صداقة، حدا لأنو الصداقة إلها ثمن، وهو التغطية على الأخطاء أو السكوت عن بعض القضايا، وبالتالي مانها معيبة أنو الشخص ما يكسب صداقة جهة سياسية وخاصة أنو المعارضة جهة سياسية مثلها مثل النظام مثل الآخرين، وبالتالي عدم كسب صداقة غير عدم كسب ثقة.. الثقة مسألة مختلفة عن الصداقة.. ممكن تكون عدوك لكن انت تثق بكلامه لأنه معروف أنه صادق بكلامه وبالتالي ما بالضروري أي وسيلة إعلامية إذا كانت مستقلة تبحث عن صداقات "

أما الإعلامية هند بوظو فقد تحدثت عن أورينت من زاوية التقائها مع المزاج السوري العام الذي يحلم بالتغيير وبحق المعرفة.. معرفة ما يجري على أرض الواقع. حولت اورينت إلى شريط من الذكريات الحلوة والمرة: "الأورينت ما تركت ولا تفصيل من تفصيلات هي الثورة، عبر هي السنوات الطويلة كلياتها، إلا دخلت وكانت موجودة ورقم صعب بالأحداث السورية , كانت موجودة على الأرض مع المسلحين , مع الفصائل , مع الجيش الحر , كانت موجودة بالنكبات اللي كانت تحصل للسوريين أثناء المظاهرات كانت موجودة بالمؤتمرات السياسية , كان في تغطية تقريباً شبه شاملة الحقيقة وإلا ما كانت لهلأ موجودة بظل منافسة كتير كبيرة من أقنية ضخمة مرصودة إلها ميزانيات كمان ضخمة متل الجزيرة والعربية".

 

وتستمر أورينت

عبر أكثر من (55) دقيقة، استطاع فيلم (حكاية 10 سنوات) أن يوثق ويحلل وينتقد ويستعرض الاتهامات، لم يكن فيلم دعائيا، ولم يكن همه أن يحكي حكاية سعيدة عن قصة نجاح يتغنى بها،  بل كان يتخذ دائما منحى جدليا.. يعرض تجربة إعلامية كانت تتقاذفها الأقدار والاتهامات والتهديدات، لكنها كانت تملك إرادة الاستمرار، وإرادة السعي لإيصال صوت السوريين، وإرادة التمسك بروحها الشابة التي كانت تتجنب أصحاب الخبرات المكتملة، وكانت تصر في أصعب الظروف أن تصنع خبراتها الشابة، وأن تؤمن بتلك الطاقات لأنها كانت تضع عينها على المستقبل.

بإيقاع رشيق منضبط، يهتم بإغناء المحور بكثافة، وصورة متوازنة، تهتم بالاستشهادات الموظفة بدقة لخدمة شهادات الضيوف، وتأكيد مصداقيتها.. وتعليق متميز بأداء المدئع أحمد الريحاوي، حقق هذا الوثائقي الممتع والجذاب الهدف الذي أراد أن يصل إليه: هذه هي اورينت التي تشبه السوريين ولهذا أحبها الكثير من السوريين.. ولهذا واجهها بعضهم بالعداء أيضا.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات