مسلسل (دقيقة صمت) وبازار النهايات الوطنية الصالحة!

مسلسل (دقيقة صمت) وبازار النهايات الوطنية الصالحة!

الفرق بين الفن العظيم وبين الفن التنفيسي نهاية تصالحية مُلّفقة!

شكى لي الكاتب الكبير محمد الماغوط ذات مرة، من أن عبث دريد لحام في نصوصه المسرحية التي كان يكبتها كان يستهدف دائما النهايات. كان دريد يصر على وضع نهايات تصالحية لنصوص الماغوط المسرحية السوداء المليئة بالقسوة التهكمية في تشريح واقع كان يراه الماغوط غير قابل للإصلاح ويسير من سيء إلى أسوأ، لأن شرط الإصلاح الوحيد برأيه شيء واحد هو: الحرية.

في (ضيعة تشرين) انتهت المسرحية التي شرحت الديكتاتورية والتسلط التي قادت نحو الهزيمة، وتهكمت على حقبة البعث التي كان ضباطها منذ نجاح انقلابهم العسكري عام 1963 يصبّحون الشعب السوري ويمسونه في وسائل إعلامهم المضجرة بالحديث عن اكتشاف المؤامرات.. حتى قال نايف لأبي نارة: "بكل العالم بيكتشفوا دهب.. ألماس.. بترول.. إلا عنا ما بيكتشفوا إلا مؤمرات"، انتهت هذه المسرحية بتحرير الكرم (حرب تشرين التي محت آثار النكسة) واستشهاد غوار وأغنية حماسية تصدح: "لولولو... لو..لالي... الله محيي شوارعكي يا بلادنا المنصورة". بتلك النهاية لم يبق شيء من الحديث عن آلام التعذيب في السجون التي تفوق آلام ما كان يفعله المحتل الفرنسي لأن من يعذبك هو ابن بلدك.. ولم يبق شيئا من منع السلطة للتهريب ثم تورط أعلى قمة السلطة بها، رغم صفته الترميزية (المختار) وبقيت في الذاكرة بضع إيفيهات جميلة من اللي تحفظ على سبيل النكتة.

الأمر نفسه حدث في مسرحية (غربة) التي حولها دريد لحام عبر العبث بنهايتها فقط، من هجاء نقدي عنيف للتجربة الاشتراكية وفساد ثورة البعث وانتهازية رموزها (دون أن يسمها طبعا.. ولم يكن مطلوبا تسميتها بالضرورة) ومن السخرية من التحديث الذي أدى إلى التصحر وهجرة العقول والأيدي العاملة، إلى نهضة الإصلاح الزراعي والبكاء عند قبر الحجة التي ماتت راضية عما وصلت اليه الضيعة بعد بناء السد. في (كاسك يا وطن) كان اختراع النهايات التصالحية صعبا جدا بسبب جو المسرحية السوداوي الذي يصل إلى حد بيع المواطن العربي لأبنائه على الطريق.. كان الحل أقل ضررا وموفقا إلى حد ما... عندما ختم غوار أكاذيبه عن أبيه الشهيد في اتصاله الهاتفي المتخيّل معه بقوله: "مو ناقصنا يا أبي إلا شوية كرامة" ثم غنى دريد: بدي اكتب اسم بلادي عالشمس اللي ما بتغيب.. لا مالي ولا ولادي عن حبك ما في حبيب!.

كانت حجة دريد دائما.. أن هذه الأعمال لا يمكن أن تمر من غير هذه النهايات التصالحية التي لا تشبه سياق النص وطروحاته، وتبدو أشبه برأس لجسد آخر ليس له. وكان الماغوط يقبل هذه النهايات تحت ضغط سيف الرقابة والتلويح بمنع العمل، وطبعا الحاجة للمردود المادي ككاتب كان يعيش من قلمه أيضا ويحاول أن يقدم شيئا نظيفا وذي قيمة... حتى بلغ السيل الزبى في مسرحية (شقائق النعمان) عام 1987 حين اعتبر أنه حول "مثريته لزوجته سنية صالح وجمال خيربك لمجموعة اسكتشات راقصة" وهو أمر كان مقصودا من دريد لحام لأنه كان يخشى قتامة العمل وسوداويته الصادمة جماهيريا ورقابياً، فقرر الماغوط  أن يعلن تبرؤه من هذا العبث، وحدوث القطيعة مع دريد لحام.

 

خيط رفيع وحد فاصل!

أسوق هذا التقديم مع أن هذا المقال ليس مخصصا للحديث عن مسرح الماغوط ولا تجربته مع دريد لحام، لأقول إن نهاية أي عمل درامي هي آخر تنازل يقدمه الكاتب من أجل أن يحفظ شرف نصه أو يفرط به.. وهي الخيط الرفيع الذي يفصل بين الفن العظيم والفن التنفيسي الممالئ، الذي يعتذر للمشاهدين في النهاية عما قاله، ويقول للمشاهدين: لا تقلقوا كل شيء على ما يرام. العدالة صاحية والتجاوزات والأخطاء فردية مهما تعمقت في بينة النظام، ومهما كبرت شبكاتها وكبرت رتب المتورطين فيها.. ولا يصح إلا الصحيح. فالمهم أن النظام القائم باق.. وهو صمام الأمان لكم وللبلد ولكل الشرفاء والمخلصين!.

ثمة الكثير من الأعمال السينمائية السورية التي كانت نهاياتها أمينة جدا لروحها الانتقادية العميقة والصادقة في تشريح بنية النظام، لعل أولها فيلم (السيد التقدمي) للمخرج نبيل المالح الذي منع من العرض عام 1976 لأنه شرح كيفية صعود طبقة محدثي اليسار ومنتفعي الثورات التقدمية الزائفية ليحلوا محل من وصفوهم بالرجعية وكانوا يشتمونهم ليلا نهارا بينما هم أكثر سوءا منهم.. ولا ننسى كذلك أفلام نبيل المالح الأخرى وآخرها (كومبارس) ولا أفلام العظيم عمر اميرلاي وفيلم أسامة محمد (نجوم النهار) ففي كل هذه الأعمال ليس هناك خط رجعة، ولا تستفيق الدولة في النهاية لتضع رؤوس الفساد في السجون.. وتنظف البلد من جرائمهم وشرورهم.. بينما نرى مثلا أن نهاية فيلم جود سعيد الأول (مرة أخرى) الذي عرض عام 2010 هي نهاية تصالحية تتجاهل كل جرائم النظام في لبنان، وتريد أن تؤسس لعلاقة جديدة محورها الحب بلا أي اعتراف بأي سلوك جرمي أو مطالبة بمحاسبة. وهو أمر كان يشي بطبيعة الحال بمسار جود سعيد التشبيحي بعد اندلاع الثورة عبر فيلمه الدعائي والافترائي (مطر حمص)!.

 

سنة من سنن العمل التفزيوني!

وإذا كانت في السينما تبدو مرتبطة بمدى أصالة مخرجيها ووجود مشروع فكري حقيقي لديهم، فإن هذه النهايات التصالحية التي يقفل بها العمل الفني أحداثه ويوصل رسائله، هي سنة أساسية من سنن العمل التلفزيوني ومن آليات تسخيفه، ولا أتحدث عن هذه الإشكالية الآن في زمن الثورة وتحرري من الخوف والرقيب الصحفي والأمني، فقد سبق لي حين كتب فؤاد حميرة مسلسله (غزلان في غابة الذئاب) عام 2006 أن كتبت مقالاً عنه في صحيفة (القدس العربي)، أعدتُ نشره في كتابي (سورية ما قبل الثورة) قلت فيه:

"من المعروف أنه حين كان يتم تنفيذ (غزلان في غابة الذئاب) كان يسوق في الأوساط الفنية على أنه المسلسل الذي يصور فساد مفلح الزعبي، ابن رئيس الوزراء المنتحر محمود الزعبي... وقد نفهم هنا أن العمل أراد أن يعري ظاهرة تلصق بشخص تخلت عنه الدولة منذ زمن وأعلنت فساده بقرار رسمي... ناهيك عن أن العمل قد يمس بطريقة غير مباشرة أولاد النائب السابق عبد الحليم خدام، الذين كانت لهم الكثير من المشاريع التجارية، وهؤلاء صاروا من المغضوب عليهم أيضا... فما المانع أن يتم اختزال ظاهرة فساد أولاد المسؤولين في نموذجين، صار مسموحا حتى لرجل الشارع العادي البسيط أن يشتمهم ويحملهم كل المصائب...".

لم يشذ (غزلان في غابة الذئاب) وقتها عن بازار النهايات الوطنية الصالحة، التي تصحو فيها الدولة لتحارب الفساد وتقبض على المفسدين وتلقنهم دروس الوطنية.. وكذا عمل سامر رضوان (الولادة من الخاصرة). العمل التلفزيوني السوري الوحيد الذي نجا من  مثل هذه النهايات هو مسلسل (أيام الولدنة) للكاتب حكم البابا والمخرج مأمون البني، الذي يروي قصة ... مليونير بنى ثروته من العمل والدأب والتقتير على نفسه والخوف على الثروة... يكتشف أنه مصاب بالسرطان وأيامه في الحياة معدودة... فيقرر أن يهرب من المشفى بصحبة ابنه المتشرد الذي كان قد طرده من بيته، ليعيش ما تبقى له من أيام في هذه الحياة، ويحقق كل أمنياته ورغباته القديمة التي منعه الخوف من أن يحققها في حينه... لكن في تلك الرحلة، يكشف لنا الصورة الحقيقية للوضع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي القائم، نرى صورة سوريا الأسد كما هندسها مهندس الفساد والإفساد الأكبر حافظ الأسد بكل تفاصليها، وينتهي العمل باتهام هذا المليونير وابنه والمرأة التي أحبها بالإرهاب وبث صورهم بالتلفزيون مطالبة السادة المواطنين بالإدلاء بمعلومات تقود للقبض عليهم، وحين يسمع أحد المواطنين هذا الإعلان بوجود الشخصيات المطلوبة أمامه يقول لبطل العمل: "أنا إذا بدي رد عليهم كنت كمشت نص البلد" وفي النهاية لا يتم إصلاح شيء ولا تصحو أجهزة الدولة الغافلة، ولا تأخذ العدالة مجراها، بل يهرب أبطال العمل خارج البلد لأنهم اكتشفوا طعم الحرية في رحلة هذا المليونير لوداع الحياة ولم يعد يستطيع أن يعيش في هذا السجن الكبير!.

بقي مسلسل (أيام الولدنة) الذي أنتج عام 2007 ممنوعا من العرض في سورية، ولم يحصل على موافقة تصدير إلا بصعوبة بالغة وعرض في محطات هامشية، قبل أن يأخذ حقه من المشاهدة على اليوتيوب في زمن وسائل التواصل الاجتماعي... وفي موسم رمضان التلفزيوني الحالي، عادت مشكلة هذه النهايات التصالحية الملفقة مع مسلسل (دقيقة صمت) للكاتب سامر رضوان والمخرج شوقي الماجري. فصحت هذه الدولة الأمنية مجددا، التي ينص دستورها على مادة تقول أنه يمنع ملاحقة مرتكبي جرائم التعذيب من ضباط الأمن أمام المحاكم إلا بموافقة إدارة المخابرات نفسها.. أي أننا أمام نظام يجعل من جرائم التعذيب حالة قانونية مباحة ولا تخضع لأي مساءلة... هذه الدولة صحت على اكتشاف شبكة الفساد، والقبض على الرؤوس الكبيرة، وأحد كبار المتورطين فيها، قرر أن يقدم نوعا من الانتحار الاسياسي حين أقدم على تسجيل اعترافات تلفزيونية باسمه ستثب بعد انتهاء القبض على باقي أفراد الشبكة من المسؤولين وضباط الأمن!.

لماذا هي شهادة زور؟!

ندرك تماما أنه لا يوجد أي بلد على وجه الأرض ليس فيها فسادا ومفسدين، وهؤلاء ليسوا دائما أفرادا لا يمثلون إلا أنفسهم، كما يقال حين يُراد التقليل من الظاهرة،  بل شبكات قد يكون في عضويتها مسؤولون حكوميون ووزراء ورجال دولة.  والفرق بين الدولة ونظام الاستيلاء على السلطة بالقوة، وبين الدولة والعصابة، أن الدولة لديها رغبة وإرادة حقيقية لمعاقبة المفسدين أما النظام فلا. الدولة قد ينجح المفسدون في استغلال مواردها وسرقتها وخداعها، لكن متى تم كشفهم بأي وسيلة من الوسائل كان من السهل تقديمهم للمحاكمة مع الأدلة والبراهين، وإطلاع الرأي العام على ذلك،  وإصدار الأحكام عليهم بالطرق القانونية.. ولهذا ليست مشكلتنا في سورية أنه يوجد فساد أم لا.. لكن المشكلة أنه منذ انقلاب البعث عام 1963 لم تعد هناك دولة بل نظام حكم انقلابي تجارته الشعارات وقانون بقائه هو القوة العسكرية القاهرة وليس صندوق الاقتراع، ومنذ انقلاب حافظ الأسد عام 1970 انتقلنا من طور النظام القائم بالقوة والذي يحتوي على تيارات وصراعات بين رؤوسه، إلى نظام العصابة الطائفية برأس واحد، بنى سلسلة معقدة من الولاءات التي كان محورها الأول الفساد والإفساد وشراء الذمم، وجعل الحياة صعبة ومُهينة على أي مسؤول شريف أو يحاول أن يظل شريفا.

في تسعينيات القرن العشرين، وكنت شاهدا على هذه القصة، قام السيد عادل اليازجي الذي كان مديرا للقناة الأولى في التلفزيون السوري، بسرقة 2000 دولار أمريكي من مكافأة كل مطرب لبناني شارك في احتفالات استيلاء حافظ الأسد على السلطة، المسماة "أعياد الحركة التصحيحية المباركة" أحد المطربين اللبنانيين المشاركين سأل كم المبلغ الذي أعطي لهم، ثم عد المبلغ الموجود في المظروف، فوجده ناقصا.. سأل زملاءه اكتشف الجميع أنهم مثله، المكافأة ناقصة 2000 دولار. بلغ بذلك مدير مكتب وزير الإعلام. فضحت القصة. صارت سيرة عادل اليازجي على ألسنة حتى مقدمي القهوة والشاي في مبنى التلفزيون. لم يُفصل ولم يًعاقب ولم تُكف يده، ولم يحتج أحد على التجرؤ على تحويل مناسبة لها رمزيتها بالنسبة لرأس النظام إلى فضيحة للسرقة وأمام ضيوف عرب، بل عُيّن عادل اليازجي بعد ذلك مديرا للفضائية السورية عند تأسيسها ثم مديرا عاما لهيئة الإذاعة والتلفزيون.

هذه هي سورية حافظ الأسد. إنها عصابة ليس لديها أي إرادة حقيقية لمحاربة أي فساد، لأنها بنيت على الفساد الممنهج، وكل محاربة للفساد كانت تتم لأهداف سلطوية تتعلق بالولاء والصمت على جرائم حافظ الأسد وطائفتيه فقط، كان مصطفى طلاس رمزا من رموز الفساد، ومع ذلك ورثه حافظ الأسد لابنه بشار كي يتم عملية التوريث.. أما عبد الحليم خدام فلم يتم الحديث عن فساده إلا بعد أن أعلن انشقاقه عن النظام بعد اغتيال الحريري عام 2005.

الخلاصة: كل مسلسل يتحدث عن صحوة الدولة في نهاية المسلسل كي تعاقب المفسدين وتقبض على شبكة الفساد والإجرام التي روعت ونهبت البلد، ويتحول فيه ضباط الأمن المجرمين في الحلقة الأخيرة إلى وطنيين يصحو ضميرهم، او فلاسفة في تشريح قواعد اللعبة والحديث الشاعري عن ورقة الشجر التي ستأخذها الريح، وعن الكذبة التي يجب أن تغيّر أصحابها.. وفي هذا الوقت بالذات بعد ان جرى ما جرى للنظام، هو محض شهادة زور، وهو مسلسل يتبول بمثل هكذا نهايات، على كل مقولاته الجريئة، وهو مسلسل مازال يصر على أن هذا النظام القائم في سوريا – رغم كل جرائمه - هو دولة يمكن إصلاح أجهزتها، وليس عصابة مجرمة دستورها قائم على الإجرام والفساد الأصيل وإرادة الإفساد الأصيلة والمتعمدة أيضا!

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات