سوريا: المنطقة الآمنة وخيارات تركيا

سوريا: المنطقة الآمنة وخيارات تركيا
على مدار الأسبوع الماضي، أجرى المبعوث الأميركي الخاص لسوريا، جيمس جيفري، محادثات في أنقرة حول تشكيل “منطقة آمنة” على الحدود السورية التركية. يأتي ذلك بعد أشهر من المفاوضات المتقطعة حول نفس الموضوع بين الجانبين التركي- والأميركي وهو ما يشير إلى الصعوبات التي تعتري تنفيذ تلك الفكرة. إذ تحاول الولايات المتحدة التوفيق بين طرفين متضادين بصورة كاملة، الحكومة التركية والقوات الكردية.

لم تفعل المفاوضات الأخيرة سوى أن أكدت على تلك الصعوبات. يبدو ذلك من تصريحات وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو بعد الاجتماع إذ أكد عدم اتفاق الطرفين على التفصيلين الأهم: عمق المنطقة الآمنة، والطرف المسيطر عليها. ففي حين تطالب تركيا بعمق يصل إلى 30 كم، وافق الجانب الأميركي- الكردي على منطقة حدودية بمساحة 5 كم ولا يدخلها الجيش التركي، بل تنتشر فيها قوات محلية يدربها التحالف الدولي. دفع ذلك بوزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو إلى الحديث عن “مماطلة” الطرف الأميركي في المفاوضات وإلى عدم جاهزيته لتقديم تنازلات حقيقية. وحذّر بالمقابل من “نفاد صبر” أنقرة وهو ما سيدفعها إلى تنفيذ عمل عسكري منفرد في المنطقة.

تكمُن صعوبة المفاوضات في أهمية الطرفين، التركي والكردي، بالنسبة للجانب الأميركي. لقد توطد التحالف السياسي- العسكري بين الولايات المتحدة والقوات الكردية خلال العامين الماضيين وبات المصدر الوحيد لتواجد عسكري أميركي طويل الأمد، في المنطقة. وباتت الولايات المتحدة مقتنعة أكثر بأهمية ذلك التواجد من أجل تثبيت هزيمة تنظيم داعش، وللحدّ من النفوذ الإيراني المتنامي، ولتعويض تدهور علاقاتها المستمر مع تركيا. هكذا، فإن المفاوض الأميركي مقيّد بهواجس الحليف الكردي وهو ما يفسّر اجتماع مسؤولين من الجيش الأميركي مع قائد بوحدات الحماية الكردية في اليوم نفسه الذي أجرى فيه جيفري محادثات في وزارة الخارجية التركية.

على الطرف الآخر، تحاول الولايات المتحدة تفهّم الهواجس الأمنية التركية ومعالجتها، وخصوصا أنها لا تزال تصنّف حزب العمال الكردستاني كمنظمة إرهابية. كما أن من مصلحة الولايات المتحدة، في حال حسمت أمر تواجدها في مناطق شمال سوريا، أن تتوصّل لاتفاق سياسي- أمني مع أنقرة باعتباره ضرورة لضمان استقرار تلك المناطق على المدى الطويل.

تكمُن معضلة المفاوضات إذن في ضرورة التوفيق بين طرفين متحاربين منذ عقود ولا يمكن جسر الهوّة بينهما. ذلك أن علاقة تركيا وحزب العمال الكردي هي علاقة صفرية، وغير قابلة للتعايش ضمن حدود اتفاق يمنح الطرف الكردي وجودا سياسيا وعسكريا مستقلا.

لن تقبل تركيا بمنطقة آمنة تقتصر على عمق بضعة كيلومترات ولا يستطيع جيشها دخولها. كما أنها لا تثق بالضمانات الأميركية بعدم تواجد قوات الحماية في تلك المنطقة. هذا أمر محسوم بالنسبة لأنقرة. ما تطالب به أنقرة ليس أقلّ من إنهاء تام للمشروع الكردي- الأميركي وقبولها كطرف محتلّ ومهيمن بصورة تامة على تلك المناطق، وهو أمر يغلق الباب أمام مفاوضات حقيقية بين الجانبين. لا تزال هنالك إمكانية لقبول أنقرة بالمقترح الأميركي- الكردي ولكن القبول سيكون تكتيكيا، أي لانتزاع ما يمكن انتزاعه في هذه المرحلة والعودة لتصعيد المطالب وزيادة التوتر الأمني والعسكري لتحقيق غاياتها.

ومع استمرار تعثر المفاوضات، رفعت تركيا من وتيرة تهديدها بشن عمل عسكري منفرد، وذلك بإرسال تعزيزات عسكرية نحو حدودها مع سوريا. إذ وصلت تعزيزات عسكرية ضمّت دبابات ومدرعات ووحدات من القوات الخاصة، لتتمركز بالقرب من مدينة رأس العين وعلى الطرف التركي المقابل لمدينة تل أبيض السورية. كما تزايدت وتيرة تحليق طائرات الاستطلاع التركية فوق المدينتين. فهل تغامر تركيا وتُقدم على عمل عسكري؟

يعقّد وجود قوات أميركية وأوروبية من حسابات أنقرة ويرفع من التكلفة المرتبطة بتلك العملية العسكرية. نتذكر كيف ردت القوات الأميركية قبل نحو عام على هجوم مباغت على مناطق قوات سوريا الديمقراطية قامت به قوات النظام السوري وقوات مرتزقة تابعة لشركة أمنية روسية، إذ قتلت قوات التحالف الدولي أكثر من مئة من القوة المهاجمة في غضون دقائق. يمكن أن يتكرر الأمر في حال هددت أنقرة سلامة الجنود الأميركان أو تخطّت الحدود المقبولة من قبل واشنطن.

يدفع هذا تركيا لاستخدام سياسة التصعيد التدريجي غير المباشر. على سبيل المثال، بالتزامن مع وصول الحشود التركية الأخيرة على الحدود السورية، سقطت قذيفة هاون من مدينة رأس العين الحدودية على مدينة تركيا، وتسبّبت بإصابات في صفوف المدنيين الأتراك. لا تعرف قوات سوريا الديمقراطية من قام بهذا العمل الذي شكل ذريعة للتصعيد التركي إذ قصفت أنقرة مواقع قوات الحماية في مدينة رأس العين.

 بهذا المعنى، حتى في حال وافقت تركيا على العرض الأميركي، سيكون ذلك من أجل انتزاع ما يمكن في الوقت الحالي ومواصلة العمل على توسيع سيطرتها على تلك المناطق، من خلال افتعال مواجهات وصدامات مع القوات الكردية تمنع استقرار تلك المناطق أمنيّا.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات