(ساعدونا على التخلص من الشعراء) لمصطفى تاج الدين: الاغتراب النفسي للسوريين على مسرح الحرب والجنون

(ساعدونا على التخلص من الشعراء)  لمصطفى تاج الدين: الاغتراب النفسي للسوريين على مسرح الحرب والجنون
ربما كانت مجموعة (ساعدونا على التخلص من الشعراء) للقاص السوري الشاب مصطفى تاج الدين الموسى، الصادرة حديثا عن دار نون في طبعة أولى 2019، هي أطول مجموعة قصصية في تاريخ الأدب السوري المعاصر على ما أعلم، ليس بسبب عدد صفحاتها الذي يزيد على الأربعمئة وثلاثين صفحة وحسب، بل بعدد قصصها الذي يبلغ (74) قصة قصيرة.. تبدو وكأنها الخطاب الأخير  لكاتبها، الذي لا يلبث أن يفاجئ القارئ في ملاحظته التي تسبق الفهرس بالقول: 

"يعلن الكاتب توقفه عن كتابة القصص نهائيا وإلى الأبد، في إسطنبول، في أواخر شهر تشرين الثاني من عام " 2019 "، لأسباب خاصة به. وبهذه المجموعة تنتهي مغامرته القصصية المتواضعة، بعد ست مجموعات قصصية، و " 311 " قصة قصيرة، وقصة قصيرة جدا بحسب فهارس المجموعات القصصية  والتي بدأها في كتابة قصته الأولى "الاكتشاف" في عام " 1998"،وهي القصة الحائزة على جائزة الرواد على مستوى سوريا  عام 1999". 

القصة السيكولوجية وعوالم اللاوعي

 

يكتب مصطفى تاج الدين الموسى القصة القصيرة ذات البعد النفسي، أو "القصة السيكولوجية"  وهي القصة التي ولدت في  أواخر القرن التاسع عشر، متأثرة بالنظريات الحديثة في علم النفس وباحثة عن  بعد جديد للأدب في تفسير السلوك الإنساني وصراعاته، واختبار تأثير القلق وفاعلية التوتر في الأحلام، والأطر النفسية للصدمات وعمليات القمع وتحقيق الآمال والرغبات، ومحاورة الموت واستشراف معانيه في سياق الحديث عن مفهوم الخلاص أو الهزيمة التي تمنح المرء شرفا أكثر من الانتصار.

ومن هنا يمكن أن نفهم جيدا لماذا يغيب الحوار وهو أداة أساسية من أدوات القصة القصيرة إلى جانب السرد، عن معظم قصص هذه المجموعة أو يكاد يتلاشى مقابل الاهتمام بالسلوك والمشاعر والتخيلات وجنون وعقلانية الأشخاص وبكل ما يتعلق بالتوترات النفسية للشخصيات ومواقفهم من الحياة، وما يواجهونه إزاءها. 

لكن ينبغي الانتباه إلى أن مصطفى تاج الدين لا يكتب القصة السيكولوجية في صيغتها الكلاسيكية التي تستهدف تحليل عوالم شخصياتها المأزومة في إطارها الواقعي أو صراعاتها الواعية، وإنما يرتقي بها إلى عوالم اللاوعي، والغرائبية التي يمتزج فيها الواقعي بالمتخيل والمعقول باللامعقول، فتتداخل الأزمنة والأمكنة والرؤى لتنتج نسيجا سحرياً، مسكونا بالدهشة والرعشة، والانغماس العميق في عالم متعدد الرؤى والمستويات، يخرق مألوفية الحدث، ويتمرد على خراب العالم، ليصنع من هذا الخراب عالماً قصصيا كل غرائبيته وواقعيته قائمة على محاولة اختراق اللاوعي، ومحاكاة نوازعه المكبوتة التي تكشف جوهر الشخصية والعالم من حولها.  

الحرب بطل هذه القصص!

 

ليس من المفترض بالنسبة لمجموعة قصصية بهذا الحجم أن تتمحور حول موضوع محدد، فطبيعة المجموعات القصصية غالبا ما تفترض تنوع الموضوعات والأغراض... لكن مجموعة (ساعدونا على التخلص من الشعراء) تتمحور في مجملها حول موضوع (الحرب) فهي بطل قصص هذه المجموعة، بمقدار ما هي خلفية الحدث والبيئة التي تصنع جنون الشخصيات وتشردها، سواء تعلق الأمر  بالحدث المحوري في القصة كما في  (أشياء لا تستطيع السماء أن تحكيها للبشر)، أو بدا سببا لاستحضار شخصيات غائبة لن تعود كما في (الأرملة وثياب الحب)، أو حضر كتفصيل عابر في سياق حديث الشخصيات عن ماضيها كما في (بقايا غرباء على ضفة البوفسور) أو  كانت زمنا يصنع نهايات الشخصيات ويحوّل مصائرها كما في قصة (لعبة الولد الوحيد) و(موت حديقة) و(صديق الأبجدية السرية). التي يقول بطلها: "جاءتِ الحرب وهربتُ من البلاد، لكن الحرب لم تهرب مني".

على أن قصة (أشياء لا تستطيع السماء أن تحكيها للبشر) تبدو القصة الأبرز التي تختزل وحشية الحرب وجنونها... وهي تحكي عن حرب بين الأحياء الشمالية والجنوبية تبادلت فيها التهجير الطائفي، ثم انحصرت المعارك الدامية بمنطقة السوق، وسط المدينة. وفي هذه المدينة يقرر الطبيبان اللذان يشرفان على تبادل الجثث، وهما أبناء دفعة واحدة من الجامعة ولكن من طائفتين مختلفتين.. استخدام الجثث لتهريب بعض الأشياء الثمينة والمجوهرات والعملات وإيصال هذه الأمانات لأصحابها في الطرف الآخر مقابل أجر معين.. لكن القصة لا تنتهي عند هذه اللقطة الدرامية المشحونة بتراجيديا استثنائية، فالعائلات التي انقسمت طائفيا بسبب الحرب في المدينة، تقرر تبادل رسائل الشوق عبر الجثث.. وسرعان ما تدب الحياة في الجثث التي تحمل الرسائل فتدفن وتضيع داخلها. يقول الكاتب في نهاية القصة:  "أُيقن أن هذه الحرب مجنونة، لكنه لم يتخيل أبدا أن جنون الحرب سوف يجعل من الجثث سعاة بريد، لنقل الرسائل بين حارات الحرب في هذه المدينة المنكوبة، حتى الخيال يعجز عن اختراع مثل هذا الجنون، الجثة الآن هي ساعي بريد، والرسالة داخلها! كأنَّ للخيال حدودا في الغرابة، أما في الحرب فلا حدود للغرابة. استطاع أن ينقذ الصبية لكنه لم يستطع إنقاذ الرسالة. لن يصدقوا كلامي إن أخبرتهم سر الرسائل المدفونة في الجثث، وأن الجثث التي بها رسائل عادت إلى الحياة فقط من بين كل القتلى، إن الأشياء التي لا تستطيع السماء أن تحكيها للبشر، لن أستطيع أن أحكيها لها". 

إن الأثر الأكبر  والأقسى الذي تتركه الحرب في هذه المجموعة، لا يكمن في طبيعة الحدث الذي تتمحور حوله هذه القصة أو تلك بالضرورة، بل فيما تتركه على الشخصيات وعلاقتها بذكرياتها وماضيها وطفولتها وبنيتها النفسية.. ولهذا تبدو شخصيات الكثير من هذه القصص ذات نزعة رومانسية مَرَضية، تحاول أن تستعيد زمانا ومكانا مستحيلاً، وأن تتشبث باللحظة الهاربة وسط دمار الحرب والتهجير.. إنها شخصيات مقتلعة اقتلاعاً من بيئتها، تعاني ندوبا غائرة بسبب هذا الشعور بالاقتلاع، مثلما تعاني عجزا هائلا عن تأقلم لا تبذل أي جهد أو محاولة للوصول إليه.. ولعل أعظم القصص في هذا السياق هي قصة (من طردني من صوري القديمة؟) حيث يحمل بطل القصة الذي هجر مدينته خوفا من الحرب، ألبوم صور العائلة كي يتسلح بها في مواجهة أي أزمة ذكريات... وحين يستعيدها في لحظة حنين يكتشف أن صوره قد اختفت منها، فيهرع إلى الشارع ليسأل أحد المارة، إن كان يرى فتى على الغصن أو على كتفي هذا الرجل في هذه الصورة أو تلك.. وعندما يجيب بالنفي  يقول وهو على وشك البكاء وقد شعر بأنه ضاع تاريخي الشخصي كله: "أحدهم طردني من كلّ صوري القديمة...."  وعندما يقول له الرجل: "أنا من طردك من كل صورك" يستل سكينا من جيبه ويقوم بقتله.. لنكتشف أنه قد طعن نفسه وأخرج من صدره كل الشخصيات التي تشبهه.  

هكذا يبني مصطفى تاج الدين الموسى، شخصياته المأزومة التي تنتحر على مذبح الذكريات.. كي يقول لنا: إن الذكريات المقتلعة اقتلاعا من بيئتها وطمأنينتها لا يمكن أن تُسكّن أوجاعنا.. بل ستغدو قنبلة موقوتة ستنفجر في وجوهنا، وتمحو ملامحنا.. ولن يكون بمقدورنا أن نشاركها أي شخص لم يتشارك معنا في صنعها وعيشها، حتى لو كان هذا الشخص هو نحن الذي لم نعد نحن في غربتنا القسرية هذه! 

صراع الحضور والغياب! 

إن الصراع الأساسي الذي يرسم البنية الذهنية والنفسية المضطربة لشخصيات مصطفى تاج الدين الموسى، هو صراع الحضور والغياب..  وهو ليس صراعا مادياً بمقدار ما هو صراع نفسي ينطوي على دمار هائل، غالبا ما ينتهي بالموت أو بالانكسار والتشظي. 

فهذه الشخصيات المهشّمة كبقايا بللور مكسور، تقول لنا إن المكان الذي اقتلعنا منه، والزمن الذي سرق من أعمارنا، والتشرد الذي فرض علينا لا يمكن أن يلملم حطامنا.. وأننا سنظل حتى الموت، ضحايا تراجيديين وصلوا إلى نقطة اللاعودة في صراعهم مع الآلهة، كما في تراجيديات المسرح الأغريقي.

إن صراع الحضور والغياب لا يحكم مصائر من تشرد هربا من الحرب فقط، بل من بقي أيضا حين غاب من كان يصنع معنى جديدا لحياته.. هكذا يُقلّب مصطفى تاج الدين تراجيديا الغياب على وجوهها المختلفة ليصنع فضاء دراميا طاغياً ينتهي إلى الموت أيضا. في قصة  (الأرملة وثياب الحب) التي تحكي عن سيدة أرملة لم تنجب، أجّرت إحدى غرف بيتها لأربعة من الطلاب الجامعيين، فعوضوها إحساس الأمومة الذي حرمت منه قبل أن تغيبهم الحرب.. يصف الكاتب لحظة الإحساس الأولى بغيابهم عنها قائلا: 

"رجع الطلاب إلى مدنهم وقراهم البعيدة مطلع الصيف الماضي، مع بداية العطلة الجامعية، لكن، انتهت أشهر الصيف ولم يرجع أحد منهم، وانتصف الشتاء، وانتهى الفصل الدراسي  الأول وبدأ الثاني، ولم يطرق بابها أحدهم، اختفوا ولم يرجعوا، مع توسع رقعة الحرب خلال الأشهر الأخيرة لتشمل البلاد كلها".

وتستعيد الأرملة لحظات البهجة العاطفية، وقصة (ثياب الحب) التي جمعوها من أجمل ما لدى كل منهم من ثياب.. وكان يتناوبون ارتداءها كلما وقع أحدهم في حب فتاة وكان لديه موعد غرامي. تموت الأرملة العجوز وهي تحتضن هذه الثياب بعد أن تسقط من الطابق العلوي في غمرة استغراقها في أوهام وتخيلات عودتهم. 

الطفولة بوصفها دفاعا عن الذات!

 

في  فضاء الحضور والغياب، يبدو الحنين إلى الطفولة جزءا من تراجيديا شخصيات هذه المجموعة ومن نزوعها الرومانسي العنيد.. فلطالما كان الحنين إلى الطفولة مرتكزا أساسيا من المرتكزات التي صاغت المدرسة الرومانسية في الأدب والفن.. لأنها أبلغ تكثيف عن محاولة استعادة ما لا يُستعاد. 

في (ساعدونا على التخلص من الشعراء) لا شيء يواجه دمار الحرب، ويتحدى خراب العالم، سوى هذه الطفولة المتمردة التي لا تريد أن تكبر، ولا تريد أن تفرط بعبثها ولهوها، وهي تصوغ عالمها وترسم وجوه الأصدقاء الخياليين، غير عابئة بكل من وما حولها.

لكن البنية الرومانسية لاستحضار الطفولة والتشبث بها، لا تبدو بنية مُهادنة.. فقد سلّحتها الحرب بالشراسة الكافية كي تتبدل وتنضج، وكي تصبح عدوانية إذا لزم الأمر، شغبها لم يعد بريئاً، وبنيتها النفسية صارت اختزالا لكل حالة الدفاع عن الذات الطفولية التي لا تريد أن تكبر، في وجه عالم يريد أن يغيرها ويبتلعها. في قصة (لعبة الولد الوحيد) يصف الكاتب شخصية الطفل الذي أراد أن يرعب البنات من حوله فابتلع صرصارا.. يصفها بالقول: 

"الولد الذي ابتلع الصرصار" هذه العبارة سوف تحتل مكان اسمي بالنسبة لجاراتنا في الحارة، عندما يتحدثن عني، ولكن الأهم هو أنه لن تقترب مني أي طفلة من طفلاتهن حتى بعد مرور سنوات، أما الصرصار الذي ابتلعته، للأسف.. سوف يعيش داخلي، وسوف يمتد عمره في أعماقي، إلى أضعاف أعمار الصراصير طويلا التي تعيش في الطبيعة، خارج جسدي.. وكأن الحياة داخل جسدي منحته فرصة للخلود، لم تحظَ بها صراصير الحدائق".

ثم يختم مسار الطفل الذي كبر ودخل الجامعة ثم هجرته الحرب وزار المخيم، يختتمها في نهاية القصة بالقول: 

"الآن، وبعد ابتلاعٍ استمر لسنوات طويلة، تمدد الصرصار مختنقا في عتمة قلبي، جثة هامدة".

أما قصة (هجرة الأيتام) فلا تقل عدوانية عما نراه في قصة (لعبة الطفل الوحيد) فالأطفال الأيتام الذين دمرت الحرب حياتهم، يتحولون إلى قنابل موقوتة تهدد أمن البلاد التي خاضت الحرب ضدهم وقتلت آباءهم... وهاهنا يجنح خيال الكاتب إلى استخدام لعبة المركبة التي تعود بالزمن إلى الوراء، كي يوظف الزمن في الفضاء الدرامي للقصة، وليؤكد أنه لا بد من تسديد فاتورة الماضي، حين يتصل الأمر بتدمير طفولة جيل بأكمله. يقول:

"المجرمون من أعمار متقاربة، تتبعنا حياتهم لنكتشف رابطا بينهم، كلهم كانوا نزلاء دارٍ للأيتام في عاصمة بلادهم، في أثناء احتلالنا لها منذ عقدين، وبعد أن تركنا بلادهم تغرق في الحرب وانسحبنا، هاجر بشرٌ كثر من تلك البلاد إلى بلادنا، أغلب الأطفال والمراهقين الذين كانوا آنذاك في دار الأيتام، هاجروا إلى هنا في أوقات مختلفة. تلك الدار، هي الآن مدمرة ومهجورة (....) هذا يعني افتراضيا أننا الآن أمام مئات المجرمين ومئات العمليات الإرهابية المحتملة؟".

إن أفضل اختزال لحالة الطفولة التي يقاربها الكاتب في العديد من قصص هذه المجموعة، هي حالة القنفذ الذي يواجه أخطار العالم بتحوله إلى كرة من الأشواك الواخزة.. وبهذا المعنى فإذا فقدت الطفولة براءتها الرومانسية فإنها لا تفقد إصرارها وعنادها على التشبث بعالمها أيا كان الثمن الذي يتوجب على الآخرين دفعه وهم يحاولون اختراق هذا العالم أو تشويهه.. ولهذا تزدهر في فضاء هذا العالم القنفذي قيم الصداقة التي يتمرد فيها الأطفال المختلفون عن باقي القطيع، كما نرى في صداقة بطل قصة (لعبة العالم الوحيد) مع الطفل المنغولي، وعلاقة الصداقة التي تربط بين بطلي قصة (صديق الأبجدية السرية)  أو في شكل الصداقة الشبحية في قصة (حكاية إنسان غير حقيقي). التي تبدو عمليا رثاء لإنسان لا يدرك الآخرون صورته إلا في مجلس عزاء الطفل الذي كانه. 

خيال بلا حدود!

  

  من رحم هذا التشبث العميق بالطفولة وعالمها يولد الخيال القصصي الذي يفتح آفاق قصص مصطفى تاج الدين على سماوات جديدة ورحبة.. ومن اللعب الطفولي الذي ينتج حالات من اللهو العابث، يعلو منطاد الخيال الملون المندفع عالياً ليطل على عالم جديد برؤى جديدة. فهذا الخيال الخصب المولع بمخاطبة العقل والحس والعاطفة، يتحول إلى معادل فني خلاق لكثير من الأفكار والرسائل التي يريد أن يقولها الكاتب في هذه المجموعة، سواء كانت الفكرة حالة افتراضية غير قابلة للتحقق، أو كانت ذات مفردات واقعية يسهم الخيال في إعادة صياغة علاقتها.  في قصة (التعاسة في وادي البالونات) يضجر الرجال من  نكد واستغلال النساء ويقررون الرحيل إلى كوكب آخر... لكن بعد عام واحد من هجرتهم يبدو المشهد كالتالي:

"انقضتْ سنة تقريبا عندها انتبهتُ لهم بشكلٍ جيد، وكأنهم قد هرموا... الرجال كلهم كانوا متعبين. ثمّة كآبة واضحة على وجوههم، حاولتُ إقناعهم بضرورة السفر عبر هذا الكوكب للاستجمام، رفضوا فكرتي بملل وضجر، بدا لي أن حاسة السفر داخلهم قد انطفأتْ ،وكأن حاسة السفر عند الرجال لها علاقة ما بالنساء أيضا. صاروا ينامون طوال النهار، وفي الليل يغنون بشجن جميل أغنيات غامضة غير مفهومة، وبين الأغنية والأخرى كنتُ ألمحُ بالونات تصعد من أمكنة قريبة إلى الأعلى. في ذلك النهار مشيتُ لساعات، وصلتُ إلى وادٍ قريب، استغربتُ.. كانت على الأرض آلاف البالونات التي انفجرتْ في أوقات مختلفة وسقطت هنا، اقتربتُ منها... تفاجأتُ، مع كلّ بالون كان هنالك رسالة مربوطة فيه، ثمّة خونة بيننا كانوا يكتبون الرسائل إلى النساء على كوكب الأرض، لكن هذه البالونات الملونة فشلت بنقل رسائلهم إلى نساء الأرض. رجعتُ إليهم غاضبا ، عندما وصلتُ كانوا قد صعدوا كلهم المركبات الفضائية، أحدهم همس لي بخجل: لقد اشتقنا للنساء... ".

أما القصة التي تحمل المجموعة اسمها (ساعدونا على التخلص من الشعراء) فتبدو تجسيدا لمفهوم اللعب الطفولي الذي يطلق الخيال.. حين يقرر أربعة من الشبان المخمورين تشجيع الناس على ثقافة شرب الخمر أملا أن يساعدهم ذلك في التخلص من الشعراء الذين يتكاثرون بشكل غريب من "ذوي القبعات الغريبة، أولئك الذين لا تتجاوز ثقافة معدتهم السخيفة " ويشكلون من أجل توزيع زجاجات الخمر على أبواب البيوت عصابة باسم (الفرسان الخمسة) وهي تسمية يصر عليها أحدهم على اعتبار أن السكير لا يجب أن يتقيد بالعدد والمعدود.. لكن هذه اللعبة تتحول إلى تهمة سياسية لدى أجهزة الأمن التي تقبض على الشبان الأربعة، وتكون المشكلة الأكبر التي يتعرضون بسببها لأقسى أنواع التعذيب الوحشي هي الاعتراف على اسم العنصر الخامس! 

هواجس ورؤى ذاتية!

 

لا تتوقف سخرية مصطفى تاج الدين الموسى من الشعراء على القصة التي حملت المجموعة عنوانها، لكنه يعود للسخرية منهم بشكل أشد في قصته (بقايا غرباء على ضفة البوسفور) ويبدأ الحوار  بين بطل القصة وغريب آخر على ضفة البوسفور  على النحو التالي: 

" هل أنت شاعر؟

التفتُ إليه وأجبتُه غاضبا: أعوذ بالله.. بشرفك، هل شكلي شكل شعراء؟ أعوذ بالله، أنا من عائلة محترمة، كان من الممكن أن أكون مهندسا معماريا لكنَّ الحرب عندما جاءت منذ تسع سنوات أجبرتني على الهرب إلى هنا" 

ثم ينتهي عندما يتكرر السؤال في سياق القصة:

هل أنت شاعر؟

وضع سبابته بشكل عمودي على شفتيه مشيرا لي اصمتْ، تلفَّتَ حوله ليتأكد أنَّ أحدا لم يسمع اتهامي له بأنه شاعر خوفا على سمعته، وخوفا من تراجع مبيعات سمكه، قال لي بثقة: أعوذ بالله، أنا من عائلة محترمة، وصاحبُ أفضل عربة لبيع السمك المشوي على ضفة البوسفور".

إن الكثير من الهواجس والرؤى الذاتية تتكرر على مدار هذه المجموعة لتكشف العالم الداخلي لكاتبها، العالم المعلق بالأم في الغياب والحضور، العالم الذي لا يحضر فيه الأب إلا لماما، ومرتبطا بالموت.. بخلاف الأم التي تختزل الحياة، كما نرى في قصته ذات العنوان الصادم "كارثة الأب"  وهذا ما يفسر فنيا وربما موضوعيا اختباء الكاتب داخل شخصياته في الكثير من قصص المجموعة، وتلاشي الحد الفاصل بين السرد الموضوع والذاتي واختلاطهما وتمازجهما.

هل هو الطريق إلى الرواية؟!

 

يكتب مصطفى تاج الدين الموسى، قصته بأسلوب سلس ومتماسك، ويبدو مسيطرا على مسارات السرد القصصي، مشغولا ببلورة شخصياته وإبراز عوالمها النفسية التي دمرتها الحرب، بلغة بسيطة مشحونة بالأفكار العميقة والمرهفة والخيال المجنح بأجنحة الطيور الجوارح، اللغة في قصصه ليست هدفا ولا غرضا جمالياً، إنها وسيلة لتفعيل ديناميكية السرد القصصي من جهة، ورصد أدق خلجات شخصياته من جهة أخرى.. وتبقى موهبة مصطفى تاج الدين الموسى في هذه القدرة الخلاقة على خلق اللقطة المدهشة، وصياغة الرؤية الملهمة التي تترك مذاقا ورائحة، وإشاعة جو اللعب الطفولي في مواجهة خراب العالم، ودمار الحرب، وعبثية القيم التي تنهار بسبب تراجيديا الاقتلاع القسري والاغتراب النفسي التي تطال كل السوريين.  

 أخيراً: تشير بيبلوغرافيا السيرة الذاتية للمؤلف في آخر صفحات المجموعة، بأن لديه رواية تحت الطبع.. مما يوحي بأن الكاتب هجر فن القصة القصيرة من أجل أن يلحق بركب الرواية التي أصبحت الجنس الأدبي الأكثر انتشارا وقراءة واهتماما في ظل تراجع القصة القصيرة والشعر والمسرحية.. وهذا الخيار يبدو مفهوماً، فلو أن مصطفى يكتب هذه القصص قبل نصف قرن لكان له شأن أدبي آخر، ولكانت نماذج من قصصه تدرس في المناهج الدراسية؛ ولكن في ظل تراجع كل الفنون وسيطرة الرواية وأدب المذكرات على المشهد، ننتظر أن يقتحم مصطفى بأدواته وخياله ورؤاه فن الرواية، فكثيرون من الروائيين بدوؤا بكتابة القصة القصيرة ومنهم من كانت القصة طريقه الأول نحو الرواية، لكن هذا الطريق لا يبدو مفروشا بالورود بالتأكيد، وإن كانت هذه الموهبة اليانعة القطاف تشيع الكثير من الفضول والاطمئنان في مقدرتها على مقاربة فن آخر، كما تستحق أن تجد مكانا أفضل تحت الأضواء.. أو ما تبقى من الأضواء في عالم لا يحتاج لا لشعراء ولا لقصاصيين ولا روائيين.. بل نجوم تفاهة وسوشال ميديا!   

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات