لماذا نجح سمير قصير ورفاقه.. وأخفق مثقفو ربيع دمشق؟!

لماذا نجح سمير قصير ورفاقه.. وأخفق مثقفو ربيع دمشق؟!
العلاقة بين النظم الدكتاتورية والمثقف علاقة عكسية، يضعف هذا فيشتد عليه ذاك، وحين يرى النظام الدكتاتوري أن المجتمع خانع يجدد ضغطه على النخب المثقفة، عبر استخدام قوة التهميش والإرهاب في محاولة لكسر أصواتها لسنوات قادمة. هذا لا يعني أنه لا يتابعها ويضيق عليها طوال الوقت؛ وبنفس الطريقة ترد النخب المثقفة، عادة تنتظر إشارات ضعف النظام وتحاول أن تَغيرَ عليه باستخدام ورقة تجييش المجتمع المحلي والمنظمات الديمقراطية والحقوقية الدولية، وحتى تجييش حكومات دول العالم الديمقراطية أيضا، لدعم مطالبها التي غالبا ما تكون مطالب الحرية وإنهاء النظام الدكتاتوري، بعضها تقزم مطالبها إلى مطالب إصلاحات معيشية، وتخفيف القبضة الأمنية، بعض المعارضات تنجح وأخرى تفشل لظروف متعددة.

إشارات الخوف والضعف! 

ظهرت إشارات تدل على ضعف النظام السوري في مراحل متعددة من حكمه للبلاد، وسقط قناع القوة الذي يخفي تحته خوفه الشديد من المجتمع الذي يحكمه، أو من انقلاب ظرف دولي عليه، ظهرت هذه الإشارات في عدة أحايين: حين توقفت الهبات الخليجية التي زيفت واقع الاقتصاد السوري الحقيقي المشلول 1976، وكذلك في صراعه مع الإخوان المسلمين 1979، وأيضا حين خرج النظام من الصف العربي مع حرب العراق وإيران، وكذلك حين مات حافظ الأسد عام 2000، وبدأت عملية انتقال السلطة بالتوريث للأسد الولد، وأيضا عند الاحتلال الأمريكي للعراق 2003، وكذلك في اليوم الذي انهار فيه نظام بن علي، ذلك اليوم الذي أعطى إشارة انطلاق الربيع العربي.. لدرجة ان النظام لم يجرؤ أن ينشر خبر هروب بن علي في وسائل إعلامه.. ولدرجة أنه أوقف الضغوطات التي استمر في ممارستها على أورينت في الداخل والخارج.. والتي توقفت بعد سقوط بن علي!  

سمير القصير ورفاقه التقطوا إشارات الخوف والضعف التي بدت على نظام الاحتلال الأسدي للبنان بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، وطالبوا بإنهاء وصاية النظام السوري! حرية كاملة غير مجزوءة وغير مهادنة ولا تحتمل أي تأويل ينقص من زخمها، قوة عزيمتهم فرضت على المجتمع الدولي أن يقف إلى جانبهم قسرا، وحصل لبنان على حريته بأقل ما يمكن من دماء؛ وإن دفع سمير القصير وبعض رفاقه دمهم ثمنا لحرية قدموها لشعبهم ولم يرَوها!!

ربيع بسقف منخفض!

أعتقد أن المثقفين السوريين كان حدسهم ضعيفا في التقاط إشارات ضعف النظام، المرة الوحيدة التي يمكن القول إنهم التقطوا إحدى إشارات الخوف والضعف واشتغلوا عليها كانت أثناء نقل السلطة وتوريث الأسد الولد، حينها تعالت أصواتهم عبر بيان الـ99 عام 2001، ولجان إحياء المجتمع المدني في حراك سمي بربيع دمشق، لكن للأسف لم تتجاوز مطالبهم مطلب تحسين الأوضاع المعيشية(!؟) مع أن هذا الموقف دفع بعضهم ثمنا له عدة سنوات سجن، كان من الممكن لو رفعوا سقف مطالبهم السياسية أكثر أن يجدوا دعما شعبيا ودوليا، لكن بعضهم كانت أذنه لا تزال بيد سفارات بعض الدول العظمى، فلم يستطيعوا الاختلاف مع مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية التي باركت تعيين بشار الأسد حين وصلت دمشق للعزاء بحافظ الأسد، كما أكد بعض المراقبين السياسيين!

مسلك سمير القصير وزملائه كان مختلفا بقوة عن مسلك المثقفين السوريين، فقد التقطوا إشارة ضعف النظام السوري نتيجة خوفه من الجوار الأمريكي الجديد على حدوده الشرقية في العراق وغلطته الكبرى باغتيال الحريري، وجعلوا مطلب الحرية والتحرر الكامل من سيطرة نظام أسد مطلبا ثابتا، بإنهاء عهد الوصاية على لبنان، وجمعوا على مطلبهم صفا واسعا من اللبنانيين، وجيّشوا المغتربين اللبنانيين في الخارج كما جيّشوا الأروقة السياسية في دول أوروبا الفاعلة وفي أمريكا ودول الخليج ضد الوجود السوري في لبنان، فاستطاعوا تحويل موقف هذه الدول من إجماع  كامل على الوجود السوري في لبنان إلى إجماع كامل على اخراج الجيش السوري من لبنان ولو باستخدام القوة العسكرية الدولية، وتحقق لهم ما أرادوه في أسابيع!!

عين على لبنان وأخرى على سوريا!

 سمير القصير الذي وضع نصب عينيه أيضا مسألة المساهمة في تخليص السوريين من نظام الأسد كتب أجمل المقالات وأقواها ضد النظام السوري، والتي قال في إحداها: "لبنان لا يمكن أن يتحرر إن لم يكن هناك ديمقراطية في سوريا".   يقال إن هذه المقولة كانت سبب اغتياله.

سمير القصير الذي فتح صفحات صحيفة (النهار) للمثقفين السوريين ليشرحوا المسلك الدكتاتوري وفساد النظام السوري، أثناء ربيع دمشق، لم يهزم بهزيمة ربيع دمشق، بل بقي مصرا على موقفه بانتظار لحظة تاريخية كالتي حدثت بعد اغتيال الحريري، البعض قال عنه إنه كان "غير مقدر لعواقب معارضته للنظام السوري"! لكن برأيي إن ذلك غير صحيح، فلا النظام السوري أخفى توحشه وهو المسؤول عن 20 عملية اغتيال لمثقفين وناشطين وسياسيين ورجال مجتمع لبنانيين قبل اغتيال القصير. لكن لا يمكن لسمير أن يفكر في الانسحاب من دوره كمثقف، وإلا ما المثقف بلا مسؤولية تجاه قضايا شعبه؟!! كما أن استمرار زملائه بعد اغتياله دليل آخر على وعي حسّ مسؤولية للمثقف، كجبران تويني ومي شدياق وغيرهم!

المطالبات المنفخضة مستمرة! 

انتهت موجة المعارضة الضعيفة فيما سمي ربيع دمشق خلال بضعة أشهر؛ كما أسلفنا وصمت المثقفون نحو 10 سنوات بعده، قبل أن يلتقطوا إشارات ضعف النظام ليس بعد سقوط نظام بن علي بل بعد انطلاق الثورة الليبية عقب المصرية، لكن مرة أخرى لم تعلُ مطالباتهم حدّ تحسين شروط المعيشة، وتخفيف القبضة الأمنية وكبح جماح الفساد الذي امتلك الدولة، وكذلك مطالبات ظرفية كمعاقبة رئيس فرع الأمن السياسي في درعا، أو دعم ما عرف ببيان الحليب/ مطلبه إيصال حليب لأطفال درعا المحاصرة، في ظل مجازر يومية!؟

علما أن تلفزيون أورينت الواسع الانتشار بين الشعب السوري كان قد بدأ حملته التحريضية المركزة ضد نظام أسد بعد أيام من سقوط بن علي، و بعد شهور سبقت من شرح فساد حكمه وتوحشه، مركزا على بنية النظام الطائفية الفاسدة والتسلطية يوميا وعلى مدار الساعة تقريبا داعيا المجتمع السوري  للتظاهر والثورة، قبل شهور من انطلاق الثورة! وخلق حوارا جديدا في الشارع السوري لم يعهده منذ نحو 50 عاما، وفتح للمثقفين والمعارضين على السواء من كافة المشارب شاشته، وكانوا قبله غير معروفين إلا فيما بينهم، منعزلين تماما عن مجتمعهم، ربما هذا أهم سبب لنهاية ربيع دمشق سريعا، وبدأ الشارع يتعرف إلى مثقفيه، الذين لا يزالون يراوغون بين توصيفات النظام بالبطش والمطالب المعيشية، لا بل كثير من المظاهرات سبقت المثقفين في إعلان طلاق تلك الشوارع عن النظام.

جدل أورينت يتفجر! 

 جدير بالذكر أن أروقة تلفزيون أورينت شهدت تماما ماشهدته ملتقيات المثقفين السوريين، إذ إن كثيرا من الإعلاميين في التلفزيون رفضوا المشاركة في سياسة تلفزيون أورينت بتحريض الشارع السوري على الثورة على النظام وتصدير ثورة الربيع العربي اليه، وذلك إما بسبب خلفيات طائفية أقلوية لبعضهم، أو نتيجة للخوف الدفين من بطش النظام للبعض الآخر، وبعضهم كان براغماتيا وجد أن الوقت لا يزال مبكرا لحسم موقفه! ما اضطرني شخصيا لترك أعمالي التجارية والتفرغ بضعة أسابيع في إدارة دفة التحرير في التلفزيون وإعادة ترتيب أوراقه آنذاك!

رغم هذه المواقف الهزيلة للمثقف السوري من النظام، الذي صُنف من أسوء النظم الحاكمة في العالم، فإن كثيرا من المثقفين السوريين رفعوا صوتهم عاليا أثناء الثورة وملؤوا دنيا الإعلام والنشر ضجيجا، مئات الكتب التي روت ولا تزال القصص والحكايا عن ربيع دمشق 2001، وآلاف اليوتيوبيات والمقابلات الإعلامية الصحفية والتلفزيونية والإذاعية، مترافقة مع التذكير الدائم في كل اجتماع للمعارضة السورية يكون فيه أحد من الفاعلين في هذا "الربيع"، وكأنهم قدموا للسوريين الثورة الفرنسية، صدقا بعضهم اعتبر ربيع دمشق مفجرا للثورة السورية!؟ 

معظمهم طالبوا الثورة بدفع ثمن ربيعهم هذا، مناصب في هيئات ومجالس المعارضة، أكثر من 100 مثقف تصارعوا وصارعوا على مناصب في تجمعات المعارضة وما أكثرها وحصدوا ما طالبوا به، بعضهم استلم لا أقل من 10 مناصب في 10 تجمعات معارضة، تحت لعلعة كنا في ربيع دمشق!

الصراع بين المثقف والسياسي!

تحضرني هنا جدلية قادها المثقف السوري مع بدء حكم آل الأسد وهي الصراع بين المثقف والسياسي، ما حدا بأحد السياسيين أن يقول: وهل نحن نخلوا من الثقافة؟! لا بل مع انطلاق الثورة انتقل عدد من المثقفين إلى جدلية أخرى، وهي المثقف ونفي الثقافة والمعرفة عن بقية شرائح المجتمع، كالقاضي والمحامي والاقتصادي ورجل الأعمال والمهندس والطبيب، في عملية هدفها الاستئثار بمناصب هيئات وتجمعات الثورة العليا!؟

اليوم من يتابع كتابة كثير منهم، رغم فشلهم فشلا ذريعا في المعارضة وكانوا أحد أسباب انشقاقاتها؛ ميشيل كيلو مثلا لوحده ساهم في التكوين وانشق عن لا أقل من 5 تجمعات معارضة! كتاباتهم أشبه بكتابة لناخب وهمي ولصندوق اقتراع غير موجود إلا في مخيلتهم، فتراها كأنها برامج انتخابية طويلة لا تريد أن تنتهي، تفتقر إلى قوة المعرفة والفلسفة وجدلية صراعات المجتمع مع إرثه ومع الحضارة والعولمة وصراع الجغرافية، ولا تقدم للقارئ رؤية تنقله إلى ضفاف المجتمع الموحد الآمن الحضاري، كتاباتهم أشبه بعملية استعراضية تركز على  صراع مع شخصيات أسدية "سوبرمانية"، وكأن كل البلاء من آل أسد، وزوالهم سيوّلد حلا سحريا لكافة أزمات البلاد، لا بل بعضهم إلى اليوم يجامل النظام، أحدهم "معارض" من واشنطن لا يزال يحمّل "الريفيين"، دون تحديد من هم، مسؤولية دعم حكم أسد ويعتبر حكم حافظ وبشار الأسد حكما ريفيا، وكأن هؤلاء الريفيين أتوا من ريف معرة النعمان أو ريف دير الزور، وليس ما يجمعهم أنهم من ريف ذي خلفية طائفية واحدة علوية!؟

كما أن بعض هؤلاء المثقفين تجد أن كتاباتهم مكتوبة لقارئ أشقر بعيون زرق في مركز أبحاث في دول تبعد آلاف الكيلومترات عن سوريا، وليس لشارع سوري تائه جائع دخل في غيبوبة الجهل!

للأسف يبقى أن قوة ووضوح ما كتبه سمير القصير وميشيل سورا وفاندام تحليلا وقوة  قلّما وصلها المثقف السوري، مع احترامنا لبعض الكتّاب السوريين الذين نجوا من هذه الظاهرة!.

التعليقات (1)

    المحامي ادوار حشوة

    ·منذ 3 سنوات 9 أشهر
    من افضل التحليلات وأتوقف عند ( لا يمكن ان يكون لبنان حرا وبجواره سورية دولة غير ديمقراطية ) أزمة الثورة السورية هي انها لحقت النظام في توجهه لتطويفها ابتغاء تكتيل العلوين في الجيش حوله فطوفت المعارضة دينيًا كما أراد النظام تطرفت تسلحت تأقلمت تدولت وطار اي دور للنخب الواعية. تحية اخ غسان افتقدنا صوتك طويلا
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات