ولادة القصيدة الغنائية.. لمحة شاملة عن التراث الغنائي المتنوع في الجزيرة السورية (فيديو)

ولادة القصيدة الغنائية.. لمحة شاملة عن التراث الغنائي المتنوع في الجزيرة السورية (فيديو)
تحدثنا في المادة السابق عن التراث الغنائي في الجزيرة السورية، حيث تناولنا أنواع الأغاني والموسيقى والرقصات الشعبية عند عرب الجزيرة السورية، ونكمل اليوم مع هذا التراث الغنائي لدى الكرد والأشوريين والسريان والشركس والشيشان والأرمن والايزيديين والمردليين، ولكل أجواؤه الغنائية الخاصة.

وإذا كان فلاسفة اليونان عرّفوا الفن أنه محاكاة للواقع، فقد كان الغناء الشعبي في الجزيرة السورية مرآة حقيقية تعكس كل ماعايشته هذه المكونات من حب وحرب وفرح وحزن عبر توثيق هذه الأحداث بملاحم غنائية وتراتيل وأناشيد حملت هوية عبرت عن كل مكون وحياته، كما تأثرت بمحيطها الغني بالتنوع وكذلك أثرت فيه.

نبدأ بالوقوف مع الأغنية الكردية التي كان لها أهمية كبرى في حياة الشعب الكردي، ليس لأنها حاجة للتعبير عن حالة نفسية عاطفية معينة فقط، بل لأنها حفظت لغة وتاريخ وعادات الكرد، في وقت نقل التراث شفهياً ولم يكن التدوين موجوداً، أي أصبحت الأغنية أرشيفا حفظت ثقافة الكرد، فكما يوصف الشعر العربي أنه ديوان العرب، كذلك الأغنية هي ديوان الكرد، وعُدّت مرجعاً يستند عليه علماء اللغة والتاريخ .

تولد القصيدة الغنائية من وحي الحدث الحاصل، وتبنى كلمات الأغاني وفق أنواع مختلفة من الأوزان الشعرية الخفيفة التي تعتمد المقطع الصوتي أساساً وتختلف فيها القوافي أيضاً، والشكل الأكثر رواجاً مقطع مؤلف من أربع أبيات لها قافية واحدة ثم تتغير في المقطع التالي وهكذا، وكما يجب أن يكون هناك انسجام بين المقاطع.

للغناء الكردي عدة أنواع. لكل حالة يمر فيها المجتمع الكردي نوع غنائي معين، في الأفراح والأعراس عادة ما يغنى لون (ديلوك)، هو لون خاص بالدبكات ويختلف نوع الإيقاع فيها بحسب نوع الدبكة وأحياناً يأخذ الفنان الشعبي أي أغنية من التراث ويحولها لأغنية (ديلوك)، وللتعبير عن الحب المتبادل بين شاب وفتاة يغنى لون يدعى (لاوك)، وهو عبارة عن موال حواري بين شاب وفتاة يحبان بعضهما، وإذا كان الحب ممزوجا بنوع من الحزن واللوعة والشوق يسمى في بعض مناطق الكرد (حيرانوك) كما في مناطق (الكوجر)، ومن أشهر ملاحم الحب الغنائية ملحمة درويش عبدي (درويشي عفدي) وهو شاب كردي ايزيدي أحب عدولة بنت تمر باشا الملي (شيخ عشيرة الملان) وكان هناك خلاف بين درويش ووالد عدولة، مما منعه من أن يتزوجها، فاجتهد درويش في إرضاء والد حبيبته وقام بصراعات بطولية خلدت بهذه الملحمة الغنائية.

oxwBlpP1gdM

واخذت أغاني المعارك لوناً خاصاً بها يسمى (شر)، وهي أغاني تبعث الحماسة في نفوس المقاتلين أو تفاخر بين عشيرتين متقاتلين أو شخصين متخاصمين حيث يذكر فيها قصة بطولية لأحد العشيرتين ومدح للنفس وذم للطرف الخصم.

وهناك نوع من الأدعية الدينية تلقى بطريقة غنائية حزينة تدعى (لافج)، تستخدم في الموالد النبوية أو في المناسبات الحزينة، و(بيلوتاه فقان) وهو نشيد جماعي يستخدم في المدارس الدينية الصوفية، ينشد عن طريق مجموعتين من تلاميذ المدرسة، وأغاني (البايزوك) أو الخريفيات تغنيها بعض العشائر الكردية هي نوع من الأغاني الحزينة تغنى عند رحيلهم في فصل الخريف واتجاههم من الجبل إلى السهول لرعي أغنامهم وتركهم أحبابهم وأهلهم خلفهم . 

ويوجد نوع  يغنى ضمن قصة معروفة كأن يكمل بعض أحداث القصة(جيروك) على شكل مقطع غنائي، يكون ذات تأثير بالغ في النفس، كالأغاني المتأثرة بالملحمة الشعرية (ممو زين) التي كتبها الشاعر الكردي أحمد الخاني وهي جمعت بين التصوف الإسلامي والوعي القومي الكردي والرومنسية المأساوية، حيث تمثل هذه الرواية قصة شهيدين سقطا في محراب الحب بعد أن كابدا الآلام أو قصة حب نبتت في الأرض وأينعت في السماء كما يقال.

يتميز التراث الكردي أيضاً بغناه المتنوع من الدبكات والرقصات الكثيرة التي تدبك في الأعياد والأعراس، منها (الشيخاني) التي تدبك بشكل جماعي من خلال هزالايدي المتشابكة بإصبع الخنصر، مع مد القدم اليسرى وارجاعها ثم اليمنى والمشي خطوة بشكل أفقي، والدبكة الكورمانجية أو(دبكة الملاني) هي من أكثر الدبكات شهرة تتميز بصعوبة أدائها وبسرعة إيقاعها وأكثر اعتمادها على حركة الأكتاف، كما يوجد دبكات أخرى عديدة مثل هلايا.

من أشهر الفنانين الذين أسسو للفن الكردي في الجزيرة السورية محمد شيخو وسعيد يوسف، محمود عزيز شاكر، سعيد كاباري  وآرام ديكران هو أرمني الأصل لكنه معروف على أنه فنان كردي، ومن الآلات الموسيقية المستخدمة في الفن الكردي الطنبور الكردي والبزق والناي والكمنجة والطبل والمزمار.

فيما يمتاز الفن الغنائي عند الآشوريين بالقدم التاريخي وتنوعه بألوانه الغنائية والدبكات والرقصات الكثيرة، من أشهر أنواع الغناء الآشوري (الراوي) يغنى في الأعراس والليانه والديواني والحصاد الذي يغنى في مواسم الحصاد مثل أغنية أيها الحصادون :

W8Rxq0OTp9s

ولدى الآشوريين تنوع غني بالدبكات والرقصات ولكل منها لونها الغنائي ومعناها الخاص بها نذكر: دبكة (بيدا) وتعني الحب الوحيد ترمز إلى حب فتاة وحيدة ولا يقبل غيرها، دبكة (حاصادي) وهي خاصة بالحصاد، دبكة (صياده) تمثل رقصة الصيادين وفرحهم بالصيد، دبكة (باغية) وهي تعبر عن فتاة تتدلع إذ إن باغية اسم لفتاة تتكرر في جميع مقاطع الأغنية وتعبر عن جمال تلك الفتاة، رقصة (خكاسيا) وهي رقصة استعراضية تتم بواسطة المبارزة بالسيف والترس، دبكة (باريو) وهي رقصة الراعي ترقص على أنغام مزمار الراعي، دبكة (باسو) دبكة فرح تؤدى في الافراح والمناسبات العامة، دبكة (كوله) رقصة الربيع، يقال أن ثلاث فتيات زفوا في يوم واحد وعند الاحتفال انتقلوا من قرية الى أخرى فمروا بين جبلين، ومن شدة قرع الطبول انهار الثلج على المحتفلين، وماتوا ولم يعثر على جثثهم حتى فصل الربيع، وتؤدى هذه الدبكة احتفالاً بذكرى أولئك، والكثير من الدبكات الأخرى مثل (تولاما، أزين لتاما، شرا...).

أما السريان ابتعدوا عن الغناء والإنشاد خارج الكنائس لأنهم يعتبرون لغتهم دينية ولايجوز الغناء بها بغير الإنشاد الكنسي، ولكن في الستينات قرر مجموعة من الشباب الغناء بالسرياني، فوضعوا شعرا غنائيا سريانيا باللغة الفصحى السريانية، لم ير القبول من العامة لصعوبتها لذلك اتجهوا إلى اللهجة العامية السريانية والتأليف والغناء بها، ومن أشهر الفنانين الآشوريين والسريان جان هومه وجوليانا جندو وليندا جورج وسركون يوخنا  وأشور بث سركيس.

أما الغناء عند المردلية وهم سكان مدينة ماردين وماحولها الذين تنتشر لهجتهم كذلك في مدينة القامشلي السورية والموصل العراقية، فقد امتازت هذه اللهجة بغناها المتنوع فهي إلى جانب أنها لهجة عربية إلا أنها ضمت كثيرا من الكلمات الكردية والسريانية والتركية، ما انعكس ذلك على الغناء واللحن المردلي الذي يتميز بسلاسته وجماله وتنوع ألوانه من الحزين إلى الحب والشوق والفراق ومن أشهر الأغاني المردلية التي انتشرت "جيراني هالله هالله":

وأغنية "يردلي " والكلمة مكونة من مقطعين (يار) تعني الحبيبة باللغة الكردية  و(دلي) يعني القلب أي (حبيبة القلب). ولها قصة معروفة حيث تحكي القصة أن هناك عائلة مسيحية سريانية ميسورة الحال نزحت من ماردين إلى القامشلي، كان يعمل عندهم شاب مسلم وأحب ابنتهم وأحبته، فرفضوا تزويجها له كونه من ديانه وعرق مختلف بالإضافة إلى فقر حاله فكتبت قصتة على شكل أغنية يردلي :

58IJSutW0hI

 ومن أشهر الفنانين المردلية أسعد زكي وعبود فؤاد والفنان جان كارت.

بالإضافة إلى ماذكرنا من تراث غنائي في الجزيرة  للعرب والكرد والأشوريين والسريان والمردلية، فقد أضافت حضارات وثقافات الشعوب الوافدة من أرمن وشيشان وشركس إلى فن وتراث الجزيرة وأكسبتها غنى وتنوعا مميزا لم يسعنا المقال إلى ذكرها.

كان للغناء دور كبير في ترابط وتآلف أهل الجزيرة، فنجد الفنان العربي غنى بالكردي والكردي دبك الدبكات العربية في أفراحه والسرياني غني بالكردي والعربي عندما منعته الكنيسة من الغناء بلغته، وأثّر اللحن الآشوري على الموسيقى الكرية والعربية، ويمكننا القول أن الفن في الجزيرة السورية تمكّن فعلا من جمع ما تحاول السياسة تفريقه.

التعليقات (1)

    راضي الدندوش

    ·منذ 3 سنوات 10 أشهر
    مقاله جميله
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات