الدوافع الجيوسياسية المحركة للسياسة الخارجية الروسية تجاه سوريا

الدوافع الجيوسياسية المحركة للسياسة الخارجية الروسية تجاه سوريا
يعتقد العديد من المحللين السياسيين وعلى رأسهم العالم الأميركي المشهور" فرانسيس فوكوياما" أنه بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة نشأ نظام عالمي جديد توسعت فيه النيوليبرالية (Neoliberalism) والرأسمالية العالمية. وإن دل هذا على توقف التنافس الإيديولوجي إلا أن التنافس الجيوسياسي لم يتوقف بالضرورة بين روسيا التي ورثت الاتحاد السوفيتي - خاصة من ناحية الترسانة العسكرية- والدول الغربية. وبالتأكيد فإن امتلاك مثل هذه الترسانة الكبيرة، هو عامل مهم في السلوك السياسي الخارجي لروسيا بالإضافة إلى الرؤية الجيوسياسية، وغالباً ما يتفاعل هذان العاملان مع بعضهما البعض لتحديد توجهات موسكو الخارجية للحفاظ على مكانتها الدولية. لذلك يصف البعض السلوك الروسي في العديد من البلدان خاصة تلك التي كانت تشكل جزءاً من الاتحاد السوفيتي بأنه سلوك عدواني واستعماري جديد تحاول من خلاله السيطرة على الأنظمة والحكومات في هذه الدول. 

في هذا السياق، ترى "ماريا أوميليشيفا"، أستاذة العلوم السياسية في جامعة كانساس الأميركية، أن معظم الدراسات حول السياسة الخارجية الروسية يتم تأطيرها في فهم نظري واقعي جديد، وغالباً ما تنظر مثل هذه التحليلات والمناقشات إلى روسيا باعتبارها فاعلاً توسعياً عدوانياً وحتى فاعلاً إمبريالياً جديداً مع القليل من الاهتمام بالقانون الدولي، وكدولة تتبع منطق مدرسة العلاقات الدولية للواقعية الجديدة، حيث القوة العسكرية من بين العوامل الرئيسة في السعي وراء مصالح الفاعل العقلاني القومية، أو حتى الإمبراطورية. لكن روسيا بالمقابل تعتبر نفسها بلداً متضرراً ولها الحق في حماية مجال نفوذها الجيوسياسي ضد المحاولات الغربية التي تعتبرها عدواناً على مصالحها.

وعلى الرغم من أن سوريا ليست من الجمهوريات السوفييتية السابقة، إلا أنها كانت من بين الحلفاء التقليديين الرئيسيين للاتحاد السوفيتي سابقاً - وروسيا لاحقاً- في الشرق الأوسط، وهي حالياً منطقة نزاع رئيسية تتداخل فيها المصالح الروسية التي تتعارض غالباً مع مصالح أمريكا وحلفائها، والصراع هناك هو الحالة الوحيدة للتدخل العسكري الروسي خارج فضاء ما بعد الاتحاد السوفييتي بعد انهياره. ورغم أن هذا التدخل قد لا يخدم المصلحة الأساسية الروسية كفاعل عقلاني في العلاقات الدولية إلا أنه يمكن تفسيره في إطار حماية مصالحها الجيوسياسية، لكن هناك من يفسر السلوك الروسي بأنه ردة فعل مرتبطة بشكل أو بآخر بالسلوك الغربي في مناطق أخرى مثل أوكرانيا وجورجيا. وفي هذا الصدد يقول "باباك رضوانيا" أستاذ الجغرافيا السياسية في جامعة أمستردام إن التدخل الروسي في سوريا ليس بعيداً تماماً عن التجارب الروسية السابقة للتدخل في صراعات دول ما بعد الاتحاد السوفييتي، كالصراع الأوكراني، والنزاعات الأخرى التي تدخلت فيها موسكو في جورجيا والشيشان وطاجيكستان وجنوب قيرغيزستان وناغورنو كاراباخ، وتوجد أوجه تشابه بين التكتيكات والسلوك الروسي في كل هذه النزاعات، وغالباً ما تكون الدوافع وراء التدخلات الروسية تنبع من مصالح أمنية وجيوستراتيجية مكانية متشابهة.

من هذا المنطق الجيوسياسي، تعتبر روسيا سياساتها التدخلية في العديد من الدول بما فيها سوريا ردود فعل مشروعة، وأن الدعم الغربي لتغيير الأنظمة في مجال نفوذها الجيوسياسي بالإضافة إلى توسيع حلف الناتو بمثابة تجاوزات وتهديدات خطيرة على مصالحها. لذلك يرى "جيمس كويل"، الخبير في مركز الجغرافيا السياسية والأمن في دراسات الواقعية (CGSRS) في لندن، أن الاعتراف الروسي باستقلال أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا - بالإضافة إلى دعم الانفصاليين في أوكرانيا - حدث كرد فعل روسي ضد رغبة الناتو في قبول جورجيا وأوكرانيا في حلف شمال الأطلسي. ومع توسع الناتو شرقاً، شعرت روسيا بعدم الأمان في موقعها المهيمن في البحر الأسود، على الرغم من أن الأخير قد لا يكون مهماً جداً من الناحية الجغرافية الاستراتيجية للغرب، إلا أنه يمثل أهمية جيوسياسية لروسيا، حيث يمكنها من خلاله تزويد قاعدتها البحرية في حميميم السورية بالسلاح والمعدات العسكرية. 

وتعتبر قاعدة حميميم القاعدة البحرية الروسية الوحيدة خارج منطقة ما بعد الاتحاد السوفييتي، وتقع وسط مجال نفوذ جيوسياسي يغلب عليه الطابع الأمريكي، لذلك تحظى باهتمام كبير من قبل روسيا حيث توفر لها إمكانية نشر قواتها البرية بسرعة وسهولة في حالة احتياجها للتدخل في الشرق الأوسط، لذلك وقعت روسيا مع النظام السوري في آب/أغسطس 2015 اتفاقاً يمنح الحق للقوات العسكرية الروسية باستخدام هذه القاعدة في كل وقت من دون مقابل ولأجل غير مسمى. 

ويعتقد "رضوانيا" أن التجربة الروسية في طاجيكستان والشيشان، ربما تكون قد وجهت وصاغت الموقف الروسي المتشدد في سوريا، حيث خاضت روسيا حرباً عنيفة انتصرت فيها على المجموعات الإسلامية هناك ومنعت انفصال الشيشان عنها، وأنشأت حكومة محلية موالية لها في طاجيكستان، ومن ثم، قد تعتبر روسيا النصر في سوريا، وحتى إبقاء بشار الأسد في السلطة، أمراً ممكناً للغاية، وهي عازمة على تحقيق نصر جديد آخر، ولكن هذه المرة، خارج منطقة ما بعد الاتحاد السوفييتي.

في الواقع، يشكل التدخل الروسي النشط في سوريا انتهاكاً لسلوكها في فترة ما بعد الاتحاد السوفييتي، حيث يمثل ذلك التدخل الروسي الأول خارج منطقة ما بعد الاتحاد السوفييتي. علاوة على ذلك، كان الهدف الرئيسي للتدخل الروسي هو منع سقوط النظام العميل لها في دمشق، إضافة إلى الرغبة في حماية مصالحها الجيوسياسية، وتطويق أي تهديد يمكن أن تشكله المجموعات الإسلامية ضدها مستفيدة في ذلك من تجربتها في الحرب الأهلية في الشيشان وطاجيكستان. ويضيف على ذلك المؤرخ الروسي المعروف "ألكسي فاسيليف" أن سوريا الآن هي الدولة الوحيدة الحليفة لروسيا ومجال نفوذها الجيوسياسي في العالم العربي، وتقدم لروسيا قاعدتها البحرية الوحيدة في قلب الشرق الأوسط، وسط النفوذ الجيوسياسي الغربي، وبالنسبة لبوتين، الأسد حليف مخلص وعميل جيد، لذا يبدو أن روسيا عازمة على الحفاظ عليه بشكل حازم، حتى بوسائل عدوانية مثل القصف الجوي. 

وفي حين وقفت روسيا جانباً في العراق، وامتنعت عن التدخل في ليبيا، اتخذت موسكو موقفاً أكثر تشدداً في سوريا، في محاولة للارتقاء إلى مستوى تصورها الذاتي كقوة عالمية، ومنع تغيير النظام في دمشق، وصد كل من النفوذ الغربي، وكذلك ما تسميه موسكو بتأثير "الإرهاب" خاصة وأنها تنظر إلى عودة ظهور الإسلام السياسي، لا سيما في نسخته المتشددة على أنها تهديد يجب مواجهته. كل هذه العوامل أسهمت في النهاية في قرار روسيا بالتدخل عسكرياً، مما أدى إلى أكبر تدخل عسكري روسي وأطوله أمداً خارج الاتحاد السوفييتي السابق. ووفقاً لفاسيليف، فإن المصلحة الروسية في سوريا أقل تحفيزاً اقتصادياً وتعزى أساساً إلى موقعها الجغرافي الاستراتيجي على البحر المتوسط والمخاوف حول صعود الإسلاميين المتطرفين في حالة فراغ السلطة بعد سقوط نظام الأسد.

بناء على ما تقدم، يمكن تفسير السياسة الروسية تجاه سوريا من خلال النظر إلى التصورات الجيوسياسية لموسكو وكيف تنظر الأخيرة إلى العالم، ولا سيما خارجها القريب والشرق الأوسط، ومكانتها ودورها أو حتى مهمتها فيه، ويمكن تفسير تدخلها العسكري في سوريا على أساس المخاوف الأمنية وتصورات التهديد لموقعها إلى جانب بعض المصالح الشخصية لبوتين والمقربين منه. لذلك دافعت بحزم عن نظامها العميل في دمشق لأنها متشككة في كل تغيير للنظام ولديها قلق من تصاعد الإسلام السياسي وانتشار بعض المجموعات الإسلامية المتشددة التي انخرط فيها مقاتلون متشددون من دول شمال القوقاز.

الحرب في سوريا مكلفة جداً لروسيا من حيث المال والسمعة، وأضرت بشعبيتها في أوساط العرب السنة كونها دعمت نظاماً برئاسة شخص علوي، وصرحت أكثر من مرة على لسان مسؤوليها أنها لن تقبل باستلام السنة للسلطة في سوريا، ومع ذلك، يبدو أنها عازمة على الحفاظ على نظام عميل لها ومستعدة لدفع هذا الثمن من أجل أمنها والموقع الجغرافي الاستراتيجي الذي توفره سوريا لها في الشرق الأوسط، وبالتالي ستعتبر تغيير النظام في سوريا ضرراً لموقعها ونفوذها الجيوسياسي.

التعليقات (1)

    احمد الاحمد

    ·منذ 3 سنوات 4 أشهر
    كأنك ما اتطرقت لذكر دور تركيا لا في سوريه ولا بالنسبة لر سيا
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات