وصف بوتين بأنه جاسوس من الدرجة الخامسة يترأس عصابة: رحيل ملك روايات الجاسوسية في الأدب الإنكليزي

وصف بوتين بأنه جاسوس من الدرجة الخامسة يترأس عصابة: رحيل ملك روايات الجاسوسية في الأدب الإنكليزي
دعا إلى معاقبة سلمان رشدي حين أساء إلى الرسول الكريم في روايته (آيات شيطانية) أواخر ثمانينات القرن العشرين، واعتبر جورج بوش حين غزا العراق أنه "يقود طغمة فاسدة"، وحقّر بوتين حين وصفه في روايته الأخيرة (عميل يجري في الميدان) أنه كان "جاسوساً من الدرجة الخامسة.. فسّر الحياة كلها من منظور مؤامراتي" وحكم روسيا بـ"عصابة من الستالينيين غير النادمين"، فيما انتقد  سياسة دونالد ترمب الخارجية باعتبارها "تابعة لروسيا" التي تحكمها عصابة! 

إنه الروائي البريطاني البارز (جون لو كاريه) أو ملك روايات الجاسوسية الذي رحل يوم السبت الماضي (12/12) عن 89 عاماً، جراء إصابته بالتهاب رئوي حاد، غير مرتبط بـ «كوفيد- 19»، حسب عائلته التي وصفت رحيله بأنه "بعد معركة قصيرة مع المرض" فيما وصف جون غيلر، رئيس مجموعة «كورتيس براون» البريطانية رحيل جون لو كاريه بالقول: «خسرنا قامة كبيرة في الأدب الإنجليزي»، مشيداً بـ«حسه الفكاهي وذكائه»، حسبما نقلت وكالة الصحافة الفرنسية.

ابن محتال أسطوري! 

ولد ديفيد جون مور كورنويل الشهير بـ (جون لوكاريه) وهو الاسم المستعار الذي كان يوقع به روايته، في 19 تشرين الأول/ أكتوبر/ عام 1932 في منطقة بول بمقاطعة دورسيت. كان والده، الذي يعرف باسم روني، محتالاً محترفاً في مجال التأمين، وقد وصفه أحد كتاب السيرة بأنه "رجل مخادع أسطوري، لم يتلق سوى تعليم بسيط، لكنه يتميز بجاذبية هائلة وخيارات ذوقية هابطة ولا يمتلك قيما اجتماعية". لقد منحت هذه السمات لكورنويل الشاب مدخلا مبكرا إلى فنون الخداع والتعامل المزدوج التي ستشكل لاحقا مادة كتاباته الأثيرة. وقد هجرت والدته العائلة عندما كان بعمر خمس سنوات، لذا اخترع الصبي ديفيد حكاية خيالية عن أن والده كان يعمل في الخدمة السرية ليبرر غيابه المتكرر عن المنزل.

وبعد أن أكمل دراسته في مدرسة شيربورن، انتقل إلى جامعة بيرن لدراسة اللغات الأجنبية. وقضى خدمته العسكرية في سلك الاستخبارات العسكرية، يُدير عملاء ثانويين في الجبهة الشرقية قبل أن ينتقل للدراسة في كلية لينكولن بأكسفورد، حيث حصل منها على درجة البكالوريوس. وبعد أن عمل في التدريس نحو سنتين انتقل للعمل في وزارة الخارجية. وفي البداية أعطي منصب سكرتير ثانٍ في السفارة البريطانية في بون... وهناك، عمل في قسم السجلات الاستخبارية، وبدأ بتدوين أفكار أولية لقصص جاسوسية خلال رحلاته اليومية بين العمل والبيت.

شهرة عالمية بعد ثلاث روايات

نشر  جون لو كاريه روايته الأولى "دعوة للموتى" في عام 1961 عندما كان يعمل في جهاز الاستخبارات البريطانية، لكن شهرته العالمية ترافقت مع صدور روايته الثالثة (الجاسوس المستجير من البرد) أو (الجاسوس الآتي من الصقيع) عام 1964 التي كتبها في سن الثلاثين، وبيعت منها أكثر من 20 مليون نسخة.. وهذه الرواية  التي كتبها كاريه حين كان «الملل ينهشه» جراء نشاطاته كدبلوماسي في السفارة البريطانية في بون بألمانيا الشرقية، روى فيها  قصة عميل بريطاني مزدوج انتقل إلى ألمانيا الشرقية. وقد حُوِّلت إلى فيلم سينمائي من بطولة ريتشارد بورتن، وشكلت بداية تعاون طويل بين الكاتب والأوساط السينمائية والتلفزيونية.

بدأ منذ مطلع ستينيات القرن العشرين، في استخدام اسم جون لوكاريه، كاسم فني يوقع به كتاباته الأدبية، لتجنب الحظر الذي تفرضه وزارة الخارجية على نشر العاملين فيها كتباً بأسمائهم الصريحة. وقدمت روايته الأولى، شخصيات ستعاود الظهور في رواياته اللاحقة وبضمنها شخصية جورج سمايلي الشهيرة، التي يقول كاريه عنها:  "في اللحظة التي توصلت فيها لشخصية سمايلي؛ بذلك الماضي وتلك الذاكرة التي تميزها وتلك الحياة الشخصية القلقة وذلك التفوق في مهنته، عرفت أنني امتلكت شيئا سأعيش وأعمل معه".

وكانت مسيرة جون لو كاريه كعميل سري قد انتهت، بعدما وشى به العميل البريطاني المزدوج (كيم فيلبي) إلى جهاز الاستخبارات السوفييتي ما اضطر جون لو كاريه يومها إلى الاستقالة من جهاز «إم آي 6».. لكنه لم يستقل من عالم الجاسوسية ككاتب وروائي تربع على عرش هذا اللون الأدبي المثير، ولهذا فقد أوحت شخصية  خصمه (كيم فيلبي) الذي فر إلى موسكو لاحقا  بشخصية "جيرالد" في روايته "حداد، خياط، جندي، جاسوس"، (العنوان مأخوذ من ترنيمة يرددها الأطفال في إحدى ألعابهم).

جواسيس محبطون وأساليب قذرة! 

على النقيض من الأجواء الرومانسية والغرائبية التي تتسم بها روايات جيمس بوند، صور لو كاريه جواسيسه بوصفهم كائنات بشرية عرضة للأخطاء، فقدم نماذج على إدراك تام لمواطن ضعفهم ونقاط ضعف الأجهزة التي يعملون في خدمتها.. وفي روايته الثالثة (الجاسوس الآتي من الصقيع) التي نشرت في ذروة الحرب الباردة والتي تفرغ بعد نشرها للكتابة الأدبية بعدما حققت له شهرة عالمية، تحدى لو كاريه الصورة التي يحملها العديد من القراء عن الجواسيس الغربيين بوصفهم فوق الحيل والممارسات القذرة التي يمارسها نظراؤهم في المعسكر الاشتراكي.. إذ تطرح أعمال لو كاريه عموماً أسئلة جادة عن المدى التي ستذهب إليه الأنظمة، حتى الديمقراطية منها، في عملية حفظ أسرارها، وقد توجت بجائزة "الخنجر الذهبي لأدب الجريمة" وحُولت إلى فيلم سينمائي شهير، أدى فيه الممثل ريتشارد بيرتون دور الجاسوس (أليك ليماس) الذي يشعر بخيبة أمل وإحباط! 

أما روايته "حرب المرايا" التي نشرت في عام 1965 فيرى النقاد أنها قدمت أفضل وصف واقعي لعالم الاستخبارات الذي عمل فيه، وقد استشهدوا بها بوصفها تكشف الأسباب الحقيقة لعدم نجاحه في هذا العالم.. وروايته اللاحقة "مدينة صغيرة في ألمانيا" تدور أحداثها في بون، حيث عمل لو كاريه، وقد حذرت هذه الرواية من المخاطر التي يمثلها إحياء سياسات اليمين المتطرف في ألمانيا.

سيرة ذاتية.. وسيرة عائلية!

بينما تبدو روايته "عاشق ساذج وعاطفي"، التي نشرها عام 1971 أشبه بسيرة ذاتية روائية له، وقد اعتمدت على أحداث انفصاله عن زوجته الأولى أليسون شارب.. لكن تتمة السيرة الذاتية للعائلة يمكن أن نجدها في الرواية التي أصدرها بعد ذلك بسنوات، حين صب الذكريات التي ظلت تطارده عن حياة والده في رواية (جاسوس مثالي) التي اعتبرها النقاد من أبرع أعماله. فحياة بطلها الجاسوس (ماغنوس بيم) تهيمن عليها ذكريات والده المحتال والمخادع والشقي.. وهي شخصية اعتمد بناؤها كثيرا على شخصية والده روني كورنويل.

ويرى لو كاريه أن رواية الجاسوسية تؤدي وظيفة ديمقراطية ضرورية في عالم تكون فيه سرية الأجهزة الرسمية شمولية. وهي أن تحمل المرآة، مهما كانت الصورة مشوشة، لهذا العالم السري وتظهر الوحش الذي يمكن أن يستحيل إليه. والمفارقة هنا أن لو كاريه كان سعيدا بالحفاظ على سرية حياته الشخصية، وظل يرفض لسنوات عديدة، حتى الإقرار بأنه كان جاسوسا في فترة من حياته.

بعد أن ظلت السلطات السوفياتية تمنع دخوله لسنوات سمح للو كاريه في عام 1987، بالدخول إلى روسيا بصفته كاتباً، حيث حل ضيفا على اتحاد الكتاب السوفييت لمدة أسبوعين  وربما كانت ثمرة هذه الزيارة روايته (البيت الروسي) التي صدرت عام 1989 وأعلنت نهاية حقبة الحرب الباردة. وقد واصل لو كاريه إبداعه الروائي في أدب الجاسوسية حينما نشر عام 1996 روايته (خياط بنما) مستلهما رواية غراهام غرين الشهيرة (رجلنا في هافانا)، كما نشر عام 2000 رواية (البستاني الأزلي) التي حول فيها اهتمامه نحو الفساد إفريقيا... وهو الأمر الذي تابعه في روايته العشرين "أغنية المهمة"، التي صدرت عام 2006 وبحثت العلاقة المعقدة بين قطاع الأعمال والشركات والسياسة في الكونغو.

كاتب لم يمسك لسانه!

قال لو كاريه ذات مرة إن "الكاتب الجيد هو خبير بنفسه وليس بأي شيء آخر... وفي هذا الصدد، عليه، إذا كان حكيما، أن يمسك لسانه". لكن لو كاريه لم يستطع أن يمسك لسانه حين أصدر سلمان رشدي عام 1988 روايته (آيات شيطانية) التي أثارت غضب المسلمين، وكتب يقول بهذا الصدد: "لا أحد لديه حق إلهي لإهانة دين عظيم ونشر هذه الإهانة مع الإفلات من العقاب"، كما لم يصمت إزاء الغزو الأمريكي للعراق ففي عام 2003، انضم لو كاريه إلى مجموعة من الكتاب الذين انتقدوه بشدة، وكتب مقالة تحت عنوان لافت ومثير: "لقد جُنت الولايات المتحدة الأمريكية". قال فيها إن "كيفية نجاح بوش وطغمته في تحويل الغضب الأمريكي ضد بن لادن نحو صدام حسين، تعد واحدة من أكبر حيل الشعوذة في العلاقات العامة في التاريخ" وأضاف أن هذه الحرب: "أبعد من أي شيء كان أسامة بن لادن يأمل به، في أحلامه الشريرة".

كما لم يوفر حكم بوتين الذي سخر من شخصه في روايته الأخيرة "عميل يجري في الميدان" حين وصفه بأنه كان "جاسوسا من الدرجة الخامسة، فسّر الحياة كلها من منظور مؤامراتي، وحكم روسيا بـ"عصابة من الستالينيين غير النادمين" وأن سعيه للحفاظ على بلاده كقوة كبرى كان على حساب كل قيم حقوق الإنسان،  منتقدا في الوقت نفسه سياسة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب الخارجية باعتبارها تابعة لروسيا وأنها كانت تعيق الحكومة البريطانية لمواصلة التعاون مع الولايات المتحدة في ظل رئاسته. 

كان لو كاريه يحرص بشدة على خصوصيته، فيسافر منفردا ومتخفيا عندما يقوم بالبحث عن مادة لروايته. وظل لسنوات يرفض دعوات إجراء مقابلات معه، مشددا على أن ما يكتبه "هو نوع من الأحلام (الخيالية) وليس واقعا"، وأنه، ليس خبيرا في الجاسوسية، كما توحي بذلك الصحافة.. لكن رواياته جسدت حالة فريدة في أدب الجاسوسية.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات