رحل متأثرا بكورونا: إلياس الرحباني عصر من الموسيقى والرومانسية التي لم تعد تشبه لبنان

رحل متأثرا بكورونا: إلياس الرحباني عصر من الموسيقى والرومانسية التي لم تعد تشبه لبنان
رحل إلياس الرحباني، اليوم الإثنين (4/1/2021) ليكون القامة اللبنانية الأبرز التي تفتتح سجل الموت بكورونا في مطلع العام الجديد. ونعى رئيس الحكومة المكلف في لبنان سعد الحريري الموسيقار اللبناني الراحل بالقول عبر صفحته الرسمية على "تويتر" إن "إلياس الرحباني غصن آخر من الشجرة الرحبانية يهوي بعد مسيرة حافلة في الإنتاج الموسيقي الراقي".

إلياس بن حنا الرحباني المولود في بلدة (أنطياس) اللبنانية عام 1938 هو ثالث الأشقاء الكبار في المدرسة الرحبانية التي وضع أسسها الأخوان رحباني وتبلورت من خلال حضور السيدة فيروز،  وهو الموسيقي الذي ظلمه انتماؤه للأسرة الرحبانية بمقدار ما ساهم بانتشاره.

تعرّف إلياس على الموسيقى من خلال نشاط الأخوين رحباني، تلقى علومه الموسيقية في البيانو والهارموني والتأليف الموسيقي في الأكاديمية اللبنانية (عامي 1945- 1958)، وفي المعهد الوطني للموسيقى (عامي 1955- 1956)، إضافة إلى تلقيه دروساً خاصة لمدة عشر سنوات، تحت إشراف أستاذين فرنسيين في الموسيقى هما ميشال بورجو (للبيانو) وبرتران روبيار (للهارموني والتأليف)، وقد بدأ بالتعلم على عزف البيانو الذي كان عنصرا أساسيا في اللحن الرحباني، وفي الثامنة عشر من عمره حين كان قد قرر أن يستمر في طريق العزف على البيانو، أصابه حادث في إصبعه أجبره على التوقف عن العزف لفترة، وبعد رحلة يأس اتجه إلى التأليف الموسيقي والتلحين... وسرعان ما حقق خطوات ناجحة في هذا المجال دفعت بشقيقيه لمنحه فرصة المشاركة في تلحين أغنيات في أعمالهما المسرحية كما في (المحطة) و(ميس الريم) و(لولو) 

فقد اعتبر إلياس الرحباني وهو الشقيق الأصغر لعاصي ومنصور، دونهم موهبة وحضوراً... ليس بسبب ضحالة موهبته، بل بسبب أهمية وتفرد ما قدمه إخوته الكبار.. ولهذا بدت المقارنة دائما محاولة لفصل تجربة إلياس عن تجربة "الأخوين" مع التأكيد على الفارق النوعي الذي يميز تلك التجربة.. لكن إلياس الرحباني المتصالح مع نسبه العائلي والفني العريق لم  يكن يجد في مثل هذه المقارنة أي حرج وكان يقول: "طلعت بقوة في الغناء، وكان 20 عاما يغني لـي فيروز ووديع الصافي وصباح، وكنت أشعر أن الفن في جيناتي".

المتصل.. المنفصل!

وفي كلام إلياس الرحباني الكثير من الصحة، فتجربة إلياس لم تكن منفصلة في واقع الأمر عن التجربة الرحبانية الأساسية، المشتركة مناخا واحتضانا عائليا وليس جنيات فقط،  ولهذا شارك إلياس في العديد من الأعمال المسرحية لشقيقيه ملحناً ولعب دورا بارزا في (سهرة حب)، ولحن العديد من الأغنيات الرائعة للسيدة فيروز، والتي كانت في روحها لصيقة بالمدرسة الرومانسية التي ميزت الفن الرحباني عموما.. حيث الحنين إلى الماضي وزمن الطفولة، وليالي السهر.. وربما كانت أغنية (كان عنا طاحون) التي كتب كلماتها ولحنها إلياس الرحباني هي خير مثال عن الاندماج الحقيقي للأخ الرحباني بتجربة الأخوين رحباني: 

كان عنا طاحون عَ نبع المي

قدامه ساحات مزروعه فيّ

وجدّي كان يطحن للحي قمح وسهريات

ويبقوا الناس بهالساحات

شي معهن كياس شي عربيات

رايحين جايين وعطول الطريق تهدر غنيات

آه يا سهر الليالي.. آه يا حلو على بالي

غني آه... غني على الطرقات

وراحت الأيام وشوي شوي

سكت الطاحون عَ كتف المي

وجدّي صار طاحون ذكريات

يطحن شمس وفيّ

بهذه الروح الشعرية السلسة كتب إلياس الرحباني، وعزف على أوتار الحنين الرحبانية في العديد من الأغنيات التي صارت جزءا من الكلاسيكيات الفيروزية، والتي حاول من خلالها أن يرسم صورا شعرية للقرية اللبنانية وتبدلاتها التي كانت موضوعا أثيرا في التجربة الرحبانية:

حلوة بيت الجيران راحت بليلة عيد

وانهدت الدكان و اتعمر بيت جديد

وبعدو حنا السكران على حيطان النسيان

عم بيصور بنت الجيران

إلياس وهدى والتجربة الموازية 

التقط إلياس الرحباني الذي كان غزير الإنتاج، متعدد المواهب، اللحظات الفارقة التي تنتج البنية الشعرية لأغانيه، وفي نهاية الستينيات وبداية سبيعينات القرن العشرين، رأى في هدى حداد (شقيقة فيروز) حلما لتجربة أراد أن يثبت نفسه خلالها بموازاة الحضور الفيروزي مع الأخوين رحباني... لم يكن الأمر سهلا ولا في متناول اليد... فالتجربة الفيروزية الاستثنائية لها خصائص عمل الأخوين رحباني على بلورتها بصبر وأناة، وجعلوا منها عنوانا لفن لا يختزل بساطة الحياة وجماليتها فقط، بل يمتح من عمقها وتعقيداتها أيضا.. لكن إلياس استطاع أن يترك بصمات خالدة في مسيرة الشقيقة هدى.. يذكرها أبناء الجيل الذي بهرته أغنية ( ع الشارة التقينا) التي كتب كلماتها ولحنها. أغنية أشبه بقصة قصيرة في شارع مزدحم يعابث أقدار الحب ومصادفاته الغريبة: 

ع الشارة التقينا والشارة حمرا 

والتقوا عينينا لأوّل مرة 

جرّب يحكي كلمة..

يسألني على اسمي.

هدر الهدير وعليو الزمامير

ومشيت الشارة الحمرا

استمر إلياس مع هدى حداد يبدع أغنيات خاصة تحت مظلة الأخوين رحباني اللذين كتبا كلمات واحدة من أجمل أغنيات هدى، وتولى إلياس تلحينها: (بيني وبينك يا هالليل) مستلهما الروح الرومانسية المتأصلة في الفن الرحباني وهي تسبح في هدأة الليل:

بيني وبينك يا هالليل فـي حـب و غـنيـّـة 

على بابي بتقـعـد يا ليل ومنـســهر ليليـّة 

بيني و بينك في أسرار وبتعرف أحزاني

تبقى امرقلي على هاك الدار وقـلـّها ما تنساني 

بــفيْ البيت العتيق ال غافي على الطريق 

وغافي حده الزمان 

يمكن بكره الحبيب يمرق متل الغريب 

ما يذكر اللي كان

واستمرت تجربة الياس مع هدى حداد في أغنيات (أنا واهل الدار) و(بتذكر يا حبيبي) و(آخدني لوين) وراح الثنائي المستظل بأفياء المدرسة الرحبانية يبدع أغنيات خاصة.. منسوجة برهافة أداء هدى، ورغبة الياس الرحباني أن يجد صوتا يحمل ألحانه وكلماته.. كما حمل فيروز ألحان أخويه على أجنحة الحلم والغموض والشجن والحنين.. تقول كلمات (بتذكر يا حبيبي):

بتذكر يا حبيبي مرة بالخريف 

كيف كنا عم نمشي والشتي خفيف 

وكيف طافت علينا واركضنا اتخبينا 

بتذكر يا حبيبي مرة بالخريف؟

لوحة شعرية رقيقة تستلهم الذكرى، وترسم مناخها العاطفي بمفردات الطبيعة وتبدل الفصول، والرغبة الجامحة باستعادة اللحظة في وجدان عاشقين بللهما المطر. 

كان إلياس الرحباني على العموم متأثرا بالموسيقى الغربية وقوالبها من جهة، وبالروح الموسيقية الشرقية التي طورها الأخوان رحباني من جهة أخرى.. حاول أن يجسد مزجا أكثر حداثة بين التيارين في أعماله، إلا أن موسيقاه نحت منحى تغريبياً.. وكان عشقه للبيانو الذي بدأ حياته عازفا عليه عنوان غلبة الغربي على الشرقي في موسيقاه وأغانية.. إلا أنه على صعيد الكلمة ظل أسيرا للروح الشعرية الرحبانية وإن بدا اللحن غربيا خالصا، ولهذا كتب في هذه الأغنية التي غناها محمد جمال:

كنا أنا وأنت نتمــــــشى ع الطرقات

 كانت كل الجيرة تحكي عنا حكايات

شي يقولوا بحبا شي يقولوا ما بحبا

لكن أنت كنت شمسي وقمر السهرات

موسيقى تصويرية سينمائية وتلفزيونية

إلياس رحباني أكثر من 2500 أغنية ومعزوفة، وألّف موسيقى تصويرية لخمسة وعشرين فيلماً، منها أفلام مصرية اعتبرت موسيقاها عنصرا من عناصر نجاحها، ويمكن اعتبار مرحلة السبعينيات هي المرحلة الذهبية لانتشار موسيقى الياس الرحباني التصويرية في الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية؛ ففي عام 1973 

قدم موسيقى الفيلم الشهير (دمي ودموعي وابتسامتي) الذي لعب بطولته نور الشريف وحسين فهمي وأخرجه حسين كمال، والتي كانت معزوفاته الرائعة إحدى مرتكزات نجاح هذا الفيلم وانتشاره.. أما في عام 1974 فقد تعاون  مع المخرج هنري بركات في اثنين من أفلامه الرومانسية (أجمل أيام حياتي) بطولة نجلاء فتحي وحسين فهمي، و(حبيبتي) بطولة فاتن حمامة ومحمود ياسين.

أما في الدراما التلفزيونية اللبنانية في السبعينات فمن ينسى(ألو حياتي) و (عازف الليل) و(ديالا) لنجمَي تلك المرحلة هند أبي اللمع وعبد المجيد مجذوب... في دراما تجاوزها الزمن اليوم ولم يبقَ من ذكريات مشاهدتها سوى موسيقاها التي كانت تعلن موعد العرض اليومي. 

من فيروز ووديع الصافي إلى هيفاء وهبي!

كتب إلياس الرحباني الشعر والأغنية والمسرحية، واستمر بعد انفراط عقد المؤسسة الرحبانية بموت الكبير عاصي عام 1986، يبدع ويكتب المسرحيات ويلحن الأغاني. لحن للعمالقة (فيروز، صباح، نصري شمس الدين، وديع الصافي، ملحم بركات، محمد جمال) كما لحن لهيفاء وهبي.. وحين حكم على أحد متسابقي برنامج (سوبر ستار) الذي كان رئيس لجنة تحكيمه بين عامي (2003- 2008) على شاشة تلفزيون المستقبل، بأنه لا يصلح للغناء.. انبرى الشاب الموهوم بموهبته يعيّر الياس الرحباني قائلا: (أنت تراجع مستواك من وقت لحنت لهيفا وهبي).. وبقدر ما أدهشت هذه العبارة إلياس بقدر ما أثارت غضبه.. فكأنه كان يعي أنها كلمة حق ولو أنها قيلت في غير مكانها ومن غير أهلها. 

هكذا ودع لبنان قبل سنوات

كان إلياس الرحباني عنوانا لاستمرار التجربة الرحبانية وتأثيرها "الجيني" في المحيط العائلي القريب وفي المحيط الفني العربي الواسع.. ولهذا مشى ولدا إلياس (غسان) و(جاد) على خطى الأب والأعمام.. كما أولاد عمومتهما.. ولهذا ظل إلياس عنوانا خفيفا وأصيلا من عناوين الفن المنفتح على الحياة والتجدد والنغمات الخفيفة السريعة.. التي لم يكتب لبعضها البقاء طويلا، وكتب لبعضها الآخر الخلود في الوجدان. 

لكن يبقى أخيرا أن إلياس الذي غاب عن (83) عاما متأثرا بإصاباته بكورونا، كان في سنواته الأخيرة ابن عصر مضى.. وابن لبنان الذي لم يعد موجودا كما آمن به الأخوان رحباني، وكما لحن له وكتب لليالي سهره وذكريات طرقاته الأخ الثالث.. وليس هذا الكلام على سبيل الاستنتاج أو التأويل النقدي، فقد سبق لإلياس الرحباني عام 2016 أن ودع لبنان في منشور له على صفحته على (فيسبوك) قائلا:

وداعاً لبنان

وداعاً لبنان… وداعاً للعباقرة

وداعاً للشرف … والأخلاق

وداعاً للمفكرين، ولمؤلفي عمالقة الموسيقى…

وداعاً لشُعراء مجدُ هذا الشرق الكبير…

وداعاً لقلعة بعلبك… ولبيت الدين…

وداعاً للأرز… أرز الرب…

وداعاً للكبار، من المُغنين والشعراء ومؤلفي الموسيقى…

وداعاً للشعبِ النبيل، الذي كان يُقدّر ما يرى وما يسمع، من الأصوات الرائعة، والمسرحيات العظيمة، خلال سنين وسنين….

إننا اليوم… لا صوتٌ يصدح…ولا قلم يضيء… ولا شعب يُفرِق بين نواح.   

التعليقات (2)

    خلية الربيع العربي

    ·منذ 3 سنوات شهرين
    يجب العمل على إنتاج افلام وبرامج ومسلسلات شارلي ايبدو الدولية وإعطاء جوائز سنوية شارلي ايبدو في امريكا وأوروبا

    محمد

    ·منذ 3 سنوات شهرين
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أستاذ محمد. قسماً بالله عرفت من السطور الأولى أن هذه المقالة يجب أن يكون الذي كتبها هو محمد منصور وكلما قرأت أكثر زاد يقيني بذلك، لأن روحك وبلاغتك وعبقريتك الأدبية كانت تشع مع كل كلمة فيها. أنت أروع كاتب مقالات قرأت له في حياتي، بالإضافة لمواقفك السياسية التي عبرت عن أخلاقك وثقافتك وتربيتك. حماك الله.
2

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات