شرق سوريا بعد المصالحة الخليجية: كيف يمكن مواجهة النفوذ الإيراني وآثاره المدمرة؟

شرق سوريا بعد المصالحة الخليجية: كيف يمكن مواجهة النفوذ الإيراني وآثاره المدمرة؟
أنهكت الحرب وتبدل سلطات الأمر الواقع شرق سوريا خلال السنوات الماضية أهالي المنطقة وأضعفت قدراتهم على تحمل أعباء مقاومة أي مشاريع جديدة في ضوء المآسي التي لحقت بهم جراء المشاريع السابقة، لذا بات الكثير من أهالي المنطقة ينخرطون في أي مشروع يتصدر المشهد لحماية أنفسهم وتأمين قوت يومهم. 

آخر المشاريع المتصدرة في المنطقة هما مشروع "قسد" المدعوم أمريكياً من جهة، ومشروع الحرس الثوري الإيراني الذي يحظى بتسهيل واضح من قبل النظام السوري وقبول على مضض من قبل روسيا من جهة أخرى، وعلى الرغم من عدم وجود خلافات كبيرة بين مشروعي "قسد" والحرس الثوري الإيراني، فكلاهما يحاول التمسك بالسيطرة على منطقة -ترفضه- إلى أبعد وقت ممكن، وتغيير ما يمكنه تغييره خلال وجوده فيها على المستوى السياسي والاجتماعي والديموغرافي والاقتصادي، إلا أن المشروع الإيراني قد يكون الأخطر على الإطلاق من جميع المشاريع التي مرت بها المنطقة خلال السنوات الأخيرة، كونه يحاول العبث في النسيج الاجتماعي والثقافي والديني والطائفي والعشائري للمنطقة وتدمير الأجيال القادمة فيها من خلال استدراجهم للإدمان على المخدرات التي يتم تهريبها من قبل الميليشيات التابعة لإيران في المنطقة، بالإضافة إلى تسميم أفكارهم وتغيير معتقداتهم، ومحاولة خلق جيب شيعي في المنطقة تكون له سطوة عسكرية واقتصادية مستقبلاً على غرار حزب الله في جنوب لبنان.

يحظى الموقع الجغرافي لشرق سوريا -خاصة محافظة دير الزور - بأهمية كبيرة لدى إيران كونها تشكل جسرا يربط بين طهران وبغداد ودمشق، والضاحية الجنوبية في لبنان ما يجعلها بوابة ومعبراً برياً حيوياً ومهماً لنقل السلاح والقوات العسكرية والميليشيات، إضافة إلى تهريب المخدرات والمشتقات النفطية، لذلك تحاول إيران تثيبت وجودها بكل ما أوتيت من قوة في هذه المنطقة من خلال الوجود العسكري والاقتصادي والاستثماري والديني والخيري الإنساني، ويتركز الوجود الإيراني حالياً في مركز مدينة دير الزور والريف الشرقي وصولاً إلى الحدود العراقية في مدينة البوكمال، وهناك بعض الجيوب في الريفين الغربي والشمالي.

فعلى الجانب العسكري تمتلك إيران قوات نظامية في المنطقة تتبع للحرس الثوري الإيراني وهناك عشرات الضباط الإيرانيين الذين يقومون بمهام مختلفة في دير الزور وريفها، إلى جانب نشر العديد من الميليشيات العراقية والأفغانية الموالية لها مثل (فاطميون، زينبيون.....) والميليشيات المحلية التي عملت على إنشائها وتدريبها خلال السنوات الماضية مثل (لواء الباقر، فيلق أسود عشائر سوريا، المقاومة الشعبية...)، وتعمل إيران على تقديم الدعم المادي والتدريبي لعناصر هذه الميليشيات لتوطينها في المنطقة، ولتصبح اليد الضاربة لها هناك، خاصة وأنها لا تثق بميليشيا أسد بل تركز على الميليشيات التي يسهل التحكم بها مستقبلاً، وربما هناك عدة عوامل تدفع الشباب إلى التطوع في هذه الميليشيات منها؛ التخلص من الشبهات الأمنية وملاحقة الأجهزة الأمنية السورية لهم خاصة أولئك الذين سبق أن انخرطوا في العمل العسكري أو المطلوبين للخدمة الإلزامية حيث توفر هذه الميليشيات الحماية المطلوبة لهم.

على الجانب الديموغرافي والثقافي تقوم إيران بمحاولة العبث بتركيبة المنطقة من خلال نشر التشيع مستغلة الأوضاع الاقتصادية التي يعاني منها الأهالي، ويتم ذلك من خلال تقديم المساعدات العينية والمالية للمحتاجين تحت غطاء الأعمال الخيرية الإنسانية لكسب ولاء المجتمعات المحلية، حيث تنشط هناك العديد من الجمعيات المحسوبة على إيران مثل منظمة "جهاد البناء" التابعة لحزب الله والممولة إيرانياً، والمركز الثقافي الإيراني، إلى جانب ذلك تقوم عن طريق ما يسمى بــــ"كشافة المهدي" بافتتاح مراكز لتجنيد الأطفال اليافعين وتربيتهم عقائدياً وثقافياً على حب إيران وتدريبهم على حمل السلاح والمشاركة في العمليات العسكرية مقابل بعض الأموال التي يتم منحها لذويهم. 

على الجانب الاقتصادي والاستثماري تحاول إيران السيطرة على مقدرات المنطقة لعدة أعوام من خلال حصولها على عقود لاستثمار الثروات وإعادة إعمار البنى التحتية التي دُمرت خلال السنوات الماضية، خاصة الجسور والمشافي والمراكز الصحية والمدارس والحدائق العامة، ومنح تنفيذ هذه العقود لشخصيات محلية موالية لها لكسب تأييدها، كما تمسك بملف التهريب عبر الحدود العراقية خاصة المخدرات والحشيش بأنواعه وجميع أنواع السلع الأخرى بما فيها المشتقات النفطية إلى جانب المتاجرة بالنفط الخام السوري.

على الصعيد الاجتماعي تستغل إيران حالة الضعف التي تعاني منها المجتمعات المحلية بسبب الحرب لتجنيد شخصيات محلية وعشائرية ودينية واقتصادية للعمل لصالحها، حيث استقطبت خلال السنوات الماضية الكثير من هذه الشخصيات ونظمت لها زيارات دورية إلى طهران التقوا خلالها بعدد من المسؤولين الإيرانيين هناك، كما تتحكم إيران بالتعيينات الرسمية للمناصب الرئيسة في دير الزور ابتداءً من المحافظ إلى أئمة الجوامع مروراً برؤساء الأجهزة الأمنية وغالباً ما تضغط إيران لتعيين أشخاص موالين لها في مثل هذه المناصب لتنفيذ أجندتها هناك.

رغم ذلك لا يمكن القول إن إيران تسيطر على المنطقة بشكل كامل رغم خطورة ما تقوم به حيث تبقى هناك الكثير من العوائق والتحديات التي تواجهه مشروعها القديم الجديد في المنطقة مثل العداء التاريخي للفرس، و وجود بعض التيارات الإسلامية التي تحظى بشعبية واسعة وترفض التشيع وتعتبره خروجا عن الإسلام الصحيح، و وجود قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وتنامي الدور الروسي هناك على حساب الميليشيات الإيرانية، والهجمات الجوية التي تتعرض لها المراكز الإيرانية بشكل متكرر من خلال الطيران المسير والتي ألحقت الكثير من الخسائر البشرية في صفوف العاملين فيها.

لكن هل من طريقة لمواجهة تنامي المشروع الإيراني شرق سوريا قبل استفحاله كما حدث في العراق خاصة بعد إعادة وحدة الصف الخليجي؟ بالتأكيد الأمر لا يخلو من الصعوبات في ضوء ما حققته إيران في المنطقة حتى الآن، بل يشكل ذلك مهمة صعبة ومعقدة لارتباط هذا المشروع بالنفوذ الإيراني في المنطقة العربية ككل، لذا يحتاج الأمر لجهود متضافرة محلياً وإقليمياً ودولياً لإخراج إيران من سوريا عامة وشرقها بشكل خاص. 

على مستوى الدور الخليجي، لا شك أن الأزمة الخليجية انعكست على الملف السوري بشكل عام وعلى شرق سوريا بشكل خاص، حيث استفادت إيران من الخلافات بين الدول الخليجية لسد الفراغ الذي خلفه تراجع اهتمام هذه الدول بالقضية السورية وانشغالها بأزمتها الداخلية حيث زادت من نفوذها بشكل كبير وترافق ذلك مع تراجع الدعم الخليجي للثورة السورية على كافة المستويات.

اليوم وبعد أن عادت المياه الخليجية إلى مجاريها يمكن وضع استراتيجية خليجية موحدة لمواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة العربية بشكل عام وفي سوريا بشكل خاص تتضمن بناء مشروع مواجهة لإخراج شرق سوريا من مخالب السطوة الإيرانية عبر وسائل وآليات واضحة وفعالة تركز على دعم الفعاليات المحلية المناهضة للوجود الإيراني بدلاً من تهميشها أو محاربتها والسماح بوصول المساعدات الفورية إلى المنطقة وإحداث توازن فعال مضاد في المنطقة من خلال استقطاب العشائر العربية هناك واستغلال حالة التنافس -والخصومة أحياناً - بين إيران والروس لتقليص الوجود الإيراني شرق سوريا.

إلى جانب ذلك هناك خيارات أخرى منها ما يرتبط بتغيير النظام في دمشق، أو حدوث تغييرات سياسية وعسكرية في المنطقة بضغوط أمريكية تجبر إيران على سحب قواتها وميليشياتها، والاستمرار بفرض العقوبات الاقتصادية الدولية ضد طهران حتى تغير من سلوكها التدخلي التخريبي، وتشكيل خلايا سرية من أهالي المنطقة تستهدف القوات والميليشيات الموالية لإيران بشكل مستمر وتكبيدها خسائر تدفعها للانسحاب، أو التوعية السياسية والفكرية للأهالي حول خطورة النفوذ الإيراني على مستقبل المنطقة، أو تدخل دولي من قبل المنظمات الدولية خاصة الأمم المتحدة لسد الفراغ وتأمين الخدمات الأساسية واستقطاب الشباب نحو مشاريع وطنية تنعكس على تنمية المنطقة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وفكرياً، وإسقاط جميع الفعاليات الشعبية والميليشياوية المحلية التي تعمل لصالح طهران قبل تفاقم سطوتها، أخيراً، وهذا الأمر مرتبط بالتوصل إلى حل سياسي في سوريا بشكل عام من خلال ربط أي تسوية سياسية بخروج جميع القوات والميليشيات الأجنبية وجلائها عن الأراضي السورية وعلى رأسها القوات الإيرانية والميليشيات الموالية لها.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات