لماذا لا تكون ناجي الجرف ولقمان سليم؟ لماذا هم ولستم أنتم؟

لماذا لا تكون ناجي الجرف ولقمان سليم؟ لماذا هم ولستم أنتم؟
"اكتملت رؤياك، ولن يكتمل جسدك. تبقى شظايا منه ضائعة في الريح، وعلى سطوح منازل الجيران، وفي ملفات التحقيق".

لا أدري لماذا قفزت من ذاكرتي هذه الجملة التي كتبها محمود درويش في رثاء غسان كنفاني آن قرأت خبر الرصاصات الخمس التي استقرت في رأس وظهر الكاتب والناشط السياسي اللبناني لقمان سليم في الرابع من شهر شباط/ فبراير الجاري، وبقيت عالقة في ذهني وأنا أتابع ردود الأفعال من مقالات وتغريدات تلت الخبر، ولا أبالغ إن قلت إنني قرأت معظم ما كتب؛ وخصوصاً ما كتبه أصدقاؤه ومن عرفوه عن قرب؛ بلا شك كان اغتياله فاجعة كبيرة، حتى وإن كانت "الجنازة يُعد لها منذ سنوات، ووحده لقمان من كان يؤجل وقوفها على باب دارة العائلة في حارة حريك، عبر صموده الاستثنائي فيها." كما يقول الصحافي اللبناني حازم الأمين مقالة له في موقع درج.

كذلك لم يفارقني طيف فقيد الثورة السورية وأحد وجوهها المشرقة "ناجي الجرف"؛ الصحافي والناشط السياسي السوري الذي تم اغتياله في عملية مشابهة عام 2015. الأمر الذي استغربته بادئ الأمر؛ فبالتأكيد هناك قواسم مشتركة عديدة بين ناجي ولقمان، ومواقفهما، ومناهضتهما لتنظيمين إرهابيين، وشخصيتيهما اللتين لا يمكن اختصارهما بشرح بسيط، وطبيعة قاتليهما المافيوية، وطريقة اغتيالهما باستخدام كاتم الصوت الذي يحمل -بعيداً عن المجاز- رسالة واضحة عمّا أُريدَ من وراء هذا العمل؛ إنما ليس هذا السبب الذي أعاد ناجي إلى ذهني في هذا التوقيت، وليس تشابه الأسى والفقد العظيم الذي شعرته لحظة سماع خبر اغتيال كليهما، على الرغم من أن لا معرفة شخصية ولا مواقف مباشرة جمعتني بأيّ منهما.

إنها الغيرة؛ لا أخجل أن أقول ذلك صراحة؛ الغيرة التي اعترتني منذ سنوات هي ذاتها التي أشعر بها الآن، وقد يبدو هذا ضرباً من الجنون بالنسبة للبعض، لكن المشتغل في حقل الكتابة والإبداع، الملتزم في إبداعه بقضايا حقيقية كالثورة والحرية والعدالة وحقوق الإنسان، سيفهم جيداً هذا النّوع من الغيرة، إن لم يصل الأمر حد الحسد.

تلدُ البلاد العربية في كل مرحلة مئات آلاف العاملين في مختلف صنوف الإبداع، وأسماءً لا حصر لها ولا عد؛ في الصحف والمجلات والتلفزيون والسينما وغيرها، عدا عن الكتب التي استهلكت حبر المطابع، وفي مرحلتنا الحالية سيلزمك عمر فوق عمرك فقط لتستطيع الإحاطة بما يكتب في المواقع الإلكترونية ومنصات التواصل الاجتماعي وما ينشر عليها يومياً من أبحاث ودراسات ومقالات رأي وبرامج وأفلاماً وثائقية، لكنك من بين هذه الكثرة الهائلة ستجد قلّة قليلة استطاعت بالكلمة وحدها أن تزلزل جهازاً استخباراتياً أو جماعة تكفيرية أو حزباً شمولياً أو حتى نظاماً كاملاً ليستنفر جهوده كافة في استهداف كاتب أو صحفيّ أو مخرج أو فنان، واللحاق به أحياناً إلى خارج الحدود لتصفيته والتخلص من خطره، وفي أحسن الأحوال الإلقاء به في الزنازين والأقبية إلى أجل غير مسمى أو يقتل تحت التعذيب. 

أذكر أنني يوم اغتيال ناجي الجرف وجدت نفسي، ولأول مرة، أمام مجموعة من الأفكار الجديدة على هاوٍ مثلي؛ يتخذ من الكتابة متنفساً شخصيّاً أو سبيل عيش لا أكثر، ولا يلقي بالاً لفعل الكلمة أو جدواها، فأجنح بكتابتي باتجاه السخرية واليوميات والمسائل السطحية، وبعض القصائد التي لا تعدو عن كونها هواجس ذاتية ونادراً ما تحمل قضيّة أو همّاً جمعياً، معتبراً أن زمان الكلمة ولّى وصار أثراً بعد عين، غير أن الرصاصة التي اخترقت رأس ناجي فجرت أمامي نبع الحقيقة، وسيلاً من الحنق وجلد الذات؛ أنت وأمثالك فقط من لا تعرفون كيف يصبح لكلمتكم فعلاً يحفر في صخرة الظلم الصمّاء بل ويستطيع تفتيتها، أنت وأمثالك الذين لا تؤمنون بـ"خوف الطغاة من الأغنيات" وربما البعض يؤمن لكنه خوفه أكبر.

يومها شعرت بالغيرة من ناجي، وكان ثمة صوت يخرج من أعماق حزني على فقد ناجي ويسألني بغضب: "لماذا لا تكون ناجي؟" 

ثمّ يهزأ بي قائلاً: "هو لم يمت كما أراد قاتلوه، أنت الميت، أنت أصغر من أن يقتلك أحد" 

تمكّنت من هزيمته وإسكاته في النهاية، وعدت إلى ما أنا عليه من السطحية التي يعرفها المقربون مني، وأعترف أنني بقيت فترة طويلة أبتعد كل ما يذكرني بالأمر، حتى حين قدمت إلى مدينة غازي عينتاب بقيت إلى فترة قريبة أتحاشى المرور بجانب (اغور بلازا) حيث اغتيل ناجي.

 الآن عاد الصوت: لماذا لا تكون ناجي ولقمان؟ لماذا لا تكون فرج فودة وحسين مروّة وغسان كنفاني وناجي العلي وسمير قصير ومصطفى العقاد وناهض حتر وهشام الهاشمي....؟

لا أتمنى أن أستطيع كتمه هذه المرة - وقد أفعل - أريده أن يعلو هذه المرة، أن يشتمني ويلعنني، أن يهددني بتفجير حنجرتي إن لم أجد إجابة لسؤاله، أريده أن يغرغر في صدري ليل نهار وينتقل إلى كل مدّعي الثقافة، والمستعرضين لغتهم وإنجازاتهم الإبداعية وجوائزهم، اللاهثين وراء الأجر الأعلى وبريق الشهرة، أن يثقب آذانهم بصراخه: لماذا هم ولستم أنتم؟ لماذا ترعبكم حتى فكرة المحاولة؟

التعليقات (3)

    سوري

    ·منذ 3 سنوات شهرين
    مقال مهم

    أحمد

    ·منذ 3 سنوات شهرين
    جميل انت يا محمد

    سوري للعظم

    ·منذ 3 سنوات شهرين
    ممكن كاتب المقال يرد عالتعليق ويرفقلنا كم مادة من مواد ناجي الجرف التي زلزلت من قتله. اتحداه ان يستطيع. الكاتب يعلم ان ناجي قتل بسبب خلاف مالي وسرقات ضمن مجموعته الاستخباراتية التي كان يعمل معها، فبلاها هالسلبات والكشات
3

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات