"بدكين حرية" في مواجهة اللادولة: هل كان لدى السوريين دولة؟

"بدكين حرية" في مواجهة اللادولة: هل كان لدى السوريين دولة؟
أطلق السوريون على ثورتهم اسم ثورة الكرامة، وهتفوا: حرية حرية. وذلك لمعرفتهم أن الحرية هي الضامن الوحيد لصيانة الكرامة.. لكنهم قوبلوا بالسؤال الاستنكاري المقترن مع الضرب والعفس: بدكين حرية؟

 والحرية كمفهوم: هي القدرة على ممارسة الخيارات الذاتية، فكرية وعملية، في سياق ما هو مشروع ومتاح، دونما تعدٍ على حرية الآخرين، أو إتلاف لملكية عامة، أو إضرار بالصالح العام، وكذلك، دونما إعاقة قسرية من أية جهة خارجية، ودونما ممانعة متعسفة من أي نوع. وفق هذا المفهوم تعتبر الحرية حقا إنسانيا أصيلا، إلا أنها توازن بالمسؤولية الاجتماعية، وبذلك يغدو الاثنان بمثابة كفتي قسطاس مستقيم يلزم وجودهما في تقابل في جميع الأحوال.

ضرورة وجود السلطة والدولة

إذن، هناك ضوابط وقوانين، وهناك ملكية عامة، وهناك مشروعية، وهناك مسؤولية اجتماعية. كل هذا يحيلنا إلى ضرورة وجود السلطة، وجود الدولة. لذلك، لا يجانب الصواب من يقول: "لا حرية ولا كرامة خارج إطار الدولة". وبلغة أخرى، لا يمكن التفكير بالكرامة والحرية خارج نطاق التفكير بالدولة. بل ويذهب البعض من أمثال "جوزيف شتراير" إلى اعتبار الإنسان لا شيئا بدون دولة، بقوله: إن أفظع مصير يمكن معرفته في العالم الراهن، هو مصير من لا وطن له"، ويؤكد "شتراير" أن شخصاً بدون عائلة، وبدون سكن ثابت، وبدون انتماء ديني يمكن أن يعيش حياة مكتملة بصورة كافية، لكنه بدون دولة ليس شيئاً، وليست له حقوق، ولا أمن، وعلى الأرض لا خلاص خارج إطار دولة منظمة، وهذه لم تكن الحالة دائماً، لقد كانت ثمة عهود ليست بعيدة جداً على قياس التاريخ، حيث لم تكن الدولة موجودة، دون أن يوجد أحد يعترض على هذا الغياب.

هل الثورة السورية محاولة لإسقاط الدولة؟

هذه المقدمة تطرح عدة تساؤلات لا بد من الإجابة عنها، فهل الثورة السورية محاولة لإسقاط الدولة كما يقول النظام السوري؟ وبالتالي هل هي ثورة تهدف إلى تقويض الحرية؟ هل كان لدى السوريين دولة؟ ما هي الدولة؟

في مقدمة كتابه "مفهوم الدولة" يلفت عبد الله العروي الانتباه إلى موضوع هام بقوله: "يعيش المرء طوال حياته وحتى مماته دون أن يتساءل مرة واحدة عن مضمون الدولة، ذلك ما يقع بالفعل لأغلبية الناس، وذلك أيضا ما يتمناه أصحاب السلطة". بالفعل، هذا ما يحدث، ويبقى مفهوم الدولة بحاجة إلى التناول بكثير من الاهتمام، لأنه مفهوم كثير التداول، أو كلي الحضور في عالمنا المعاصر. فكلمة دولة هي كلمة حديثة الاستعمال نسبيا، ولم تعرف في أوروبا قبل عصر النهضة، فقد ظهر المفهوم الحديث للدولة نتيجة تطور مفهوم السلطة وتحولها من سلطة مغفلة، إلى سلطة مجسدة، فسلطة مؤسسة. وللدولة خصوصية تمتاز بها عن سائر الوحدات السياسية المتعددة والمتنوعة تبعا لتنوع وتعدد المجتمعات، والأزمنة، ومتطلباتها ومصالحها وهو ما جعل الأنظمة السياسية في العصور والمجتمعات السابقة تتخذ أشكالها التقليدية المعروفة المناسبة والمتناسبة معها، مثل: رئاسة الجماعة الأولى، مشيخة القبيلة، زعامة القرية، دولة المدينة، المملكة، الإمبراطورية، الإمارة الإقطاعية، الخلافة، السلطنة. وهذه كلها أنظمة سياسية لكنها ليست دولاً، فليس كل مجتمع سياسي منظم دولة، ثمة أشكال من السلطة لا تمت بصلة إلى الدولة. فلا يجوز اعتبار كل تنظيم سياسي قائم بذاته دولة، إذ تمتاز الدولة عن غيرها بوجود سلطة مؤسسة. أي، سلطة قائمة على قواعد قانونية تحدد مدى هذه السلطة، وتنظم العلاقات بين المواطنين والدولة، وبين المواطنين أنفسهم. ومن جهة أخرى، لا يمكن اعتبار الدولة مجرد منظومة لمجموعة قواعد قانونية، فرغم أن هذه القواعد تلعب دورا أساسيا في تأسيس السلطة وفي إعطاء الدولة إطارا دستوريا يميزها عن سائر المؤسسات، تبقى الدولة قبل كل شيء حقيقة سياسية نابعة من إرادة سياسية، هي إرادة العيش المشترك. فالدولة هي كيان سياسي بالإضافة إلى كونها كيانا حقوقيا.

خصائص الدولة الحقيقية

في كتابه "علم الاجتماع السياسي" تحدث "فيليب برو" عن ثلاث ميزات تميز خصوصية الدولة الحديثة تجاه كل الأشكال الأخرى المعروفة للسلطة السياسية وهي: تخصص الوكلاء، ومركزية القهر، والطابع المؤسساتي. ولأنه لا مجال للإسهاب في الحديث عن هذه المزايا الثلاث يمكن الاقتصار على المزية الثالثة كونها الأكثر أهمية وقربا لموضوع هذه المقاربة، وبهذا الخصوص يقول "برو": "ويتجلى الطابع المؤسساتي في مستويين. فهناك أولا الفصل بين الشخص الطبيعي للحكام والتصور المجرد للقوة العامة". وهكذا نلاحظ في "المَلَكِيَّات"، تمييزا بين الملك والتاج... إن الحكام يصبحون حينذاك "أجهزة للدولة" ورئيس الجمهورية مثله مثل الوزراء يمارسون وظيفة. ويسمح هذا الفصل بتصور استمرارية الدولة التي لن يضيرها بعد ذلك تعاقب الأشخاص الطبيعيين القابلين لأن يجسدوها وقتيا.

ويعبر الطابع المؤسساتي عن نفسه أيضا في تعميم الأنظمة القانونية لدولة القانون. ويكمن موضوع هذه الأنظمة في تحديد امتيازات كل أولئك الذين يمارسون السلطة باسم الدولة والتزاماتهم، وأولئك الذين تتحكم السلطة بهم. إنها السلطة القانونية– العقلانية بالمعنى الذي يفهمها به "ماكس ويبر" فالحكام والوكلاء الإداريون، على حد سواء، يجب عليهم احترام الدستور والقوانين النافذة. وسلطتهم لا يمكن أن تمارس إلا وفق الأشكال الإجرائية المحددة، وفي ميادين اختصاص محصورة. وعليه فإن التعسف المزاجي وعدم اليقين بالنسبة للقانون القابل للتطبيق يستبعدان على كل المستويات، من البناء التسلسلي للدولة.

مما سبق، فليس للدولة سوى شكل واحد هو الدولة بالمعنى الذي تمت الإشارة إليه باختزال شديد، أو كما يقول "محمد جمال باروت": يمكن القول "بلغة النمذجة، إن الدولة الحديثة هي الدولة نفسها وما سواها نوع ما من السلطة قد يقترب أو ينقطع بهذا القدر أو ذاك مع نموذج الدولة إلا أنه يبقى نموذج سلطة". 

كيانات تسمى دولاً!

فإذا كان مستحيلاً وجود دولة دون سلطة فإنه من الممكن على الدوام وفي كل العصور والمجتمعات بما في ذلك عصرنا ومجتمعاتنا الراهنة، أن توجد سلطة دون دولة، فثمة أشكال من السلطة لا تمت بصلة إلى نموذج الدولة ومن هنا ينكر الفكر السياسي الأوروبي وجود دولة بالمعنى الدقيق قبل نشوء الدولة الحديثة، فيعتبر أن كل ما جاء قبلها هو مجرد أطر شكلية للسلطة لا علاقة لها بالدولة بالمعنى الدقيق. ومن هنا يمكن القول: إن كلمة دولة عندما نعثر عليها في كتابات تسبق نشوء الدولة الحديثة من مثل: دولة القرامطة، الدولة الحمدانية، الدولة الفاطمية. فهي تعني هنا الجماعة المستقلة بالسلطة والمستأثرة بالخيرات، وتعني الامتداد الزمني لتلك الاستفادة، وكذلك الأمر بخصوص الاستعمالات الأخرى لهذه الكلمة.

إذن، فهذه الكيانات السياسية والتي تسمى جزافا بالدول، ليست بدول. وعليه، فما يحاول السوريون إسقاطه ليس بدولة، بل هو كيان سياسي معاد للحرية، ففي مثل هذه الكيانات تحتضن الدعاية الرسمية المنطق الصوري؛ فتؤكد على أن بناء دولة منيعة هو شغلها الشاغل، فيطالب الفرد بكل التضحيات، وخاصة تلك التي تمس حريته. 

التوجه نحو بناء الدولة

قد نكون نحن السوريين نعلم معنى الحرية ومعنى الكرامة، لكن الأهم الذي يجب أن نعلمه أن الزحف نحو بناء الدولة هو الأساس. أو لنقل إننا أمام خيارات ثلاثة: فإما التوجه نحو بناء الدولة من خلال بناء المنظومة الفكرية وإزالة وإسقاط العوائق الثقافية المعطلة لمثل هكذا مشروع. وإما التخلي عن فكرة الحرية، أو ابتكار شكل آخر للتنظيم السياسي والسلطة باستطاعته ضمان الحرية وصون الكرامة، باعتبار أن البيئة الوحيدة التي تزدهر فيها الحرية والكرامة بشكل طبيعي وتلقائي، حتى الآن، هي الدولة، والدولة فقط.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات