الثورة المنهكة بعد عشر سنوات.. والتراجع المحظور من خيارات السوريين!

الثورة المنهكة بعد عشر سنوات.. والتراجع المحظور من خيارات السوريين!
كثيراً ما يردد السوريّون مقولة "نحتاج إلى ثورةٍ جديدةٍ على النظام المجرم" ثمّ.. نحتاج ثورة أيضاً على القوى الّتي قادت الثورة إلى مسار لا يريده السوريّون الأحرار الّذين كان هدف ثورتهم هو إسقاط النظام ونقل الوطن من "دولة البسطار" إلى "الدولة السوريّة".

ولكنّنا إلى الآن ونستمر في ذات الألم المُعاد، وكلّما أصلحنا خللاً اتّضح أنّنا غفلنا عن آخر، ويعود السؤال الكبير الّذي يلهج به السوريّون في كلّ لحظة: إلى متى سنبقى نعلّق فشلنا في إنجاز مشروع الدولة السوريّة المأمولة على عوامل خارجيّة؟ وإذا كان صحيحاً أن العلم والمنطق يفرض علينا الاسترشاد بتجارب الشعوب الأخرى، والاستفادة من إنجازاتها في التحول الديمقراطي والتنمية الاقتصادية والسير على المسار الصحيح لنبلغَ الغاية المرجوة، فإن الضرورة تفرض علينا أيضا التوقف عن استنساخ واجترار الماضي، والاعتراف أولا ” وقبل كل شيء ”بالواقع وأنّنا نحتاج إلى التخلّي عن آمال حدوث المعجزة أو ظهور مخلّصٍ أسطوريّ ما، كخطوة أولى في مسيرة الألف ميل المنشودة.

كي تنتصر الثورة

إن الثورة لكي تنتصر هي بحاجة إلى قوة منظمة، وواعية، ومناضلة، وكل هذه الصفات لم توجد لدى أيٍّ من الأحزاب القائمة والشخصيّات المتصدّرة للمشهد والناطقة باسم السوريين على اختلاف مشاربهم، من يمين ويسار وديني ولاديني. 

 كل ذلك يوضح جوهر إشكالية الثورات، حيث تمرّدت الشعوب بكل القوة والجرأة، لكن لم تجد القوة التي تعطيها الأفق والآليات والهدف. لهذا، غرقت في الفوضى لأنّها خضعت لتجارب وبساطة من ركب موجتها، وتسيّد فيها محاولاً أن يكون قائداً دون أن ينتبه إلى مساره الّذي لزمه، وسمح للسلطة أن تناور لكي تلتفّ عليها، لكن كذلك سمحت لتدخلاتٍ متعددةٍ، كانت معنية بحرف عجلتها عن سكّتها الصحيحة.

وكل ماحدث واجهته ثورات كبيرةٌ في التاريخ، فمن يظن أن الثورة الفرنسية انطلقت جراء الظروف السائدة قبيل الثورة فحسب، فالكثير من شعوب العالم واجهت ظروفا مشابهة من حيث القهر والظلم والفقر ولم تقم بالثورة، لكن ما ميّز الحالة الفرنسية وجود كوكبة من رجال الفكر والفلسفة تمكنت من تشجيع الناس ودفعهم للثورة، عبر إعادة الاعتبار ” للعقل ” ، وقد ضمت هذه الكوكبة رواداً كباراً أمثال ” موليير وفولتير ومونتسكيو وروسو وآخرين ” ، صحيح أن إشكالية العلاقة بين الفكر والثورة بقيت قائمة، إلا أن السؤال الذي سيطر على الحراك الفكري هو: هل هناك رابط بين التغيير الفكري والتغيير السياسي؟ وهل الثورة الفكرية هي التي تخلق الثورة السياسية أم العكس؟.

الثورة السوريّة لم تحدث قطيعة سياسية مع الأنظمة السياسية القائمة، ولم تحدث قطيعة معرفية مع الماضي، ولم تحدث نهضة فكرية مدنية قبل هذه الثورات، لا بل فإن ما حدث عكس ذلك تماماً، فقد دعت إلى تبني الماضي واستعادة أمجاده ورموزه، ونظراً لضعف الحركات المدنية وقوة الكثير من الأيديولوجيات، فقد بدأت الثورة السوريّة بشعارات ذات طابع مدني وأهداف واضحة، "حريّة، مافي للأبد، الشعب السوري واحد" إضافة إلى المطالبة بالمعتقلين، وتغيير النظام والشروع في بناء سوريا للجميع، ثم في لحظة فارقة ظهرت حركات لم تدعُ للقطيعة مع الماضي  أو تركه جانباً ” بل إلى الوصل معه وإعادة المجتمع بكلّ أحماله إلى الخلف".

الحاجة للمثقف والمفكر

إنّ الثقافة الّتي تتواجه فيها العقول المنتجة لتحقيق التحرر للشعب السوري كانت شبه غائبة عن المشهد السوري، سوى من بعض الأصوات العقلانيّة، الّتي تكفّلت جهاتٌ كثيرةٌ في تكميم أفواهها وخنق صوتها، وجعل صوت الضياع هو السيّد.

ولذلك، نحن بحاجة إلى كتلة ثقافية صلبة، تخترق جدران الانسداد المعرفي، تحتاج الثورةُ السوريّة العظيمة التي قدّمت مالم تقدّمه ثورة أخرى، للمثقف النقدي الذي يهب الزخم للأفكار، ويعمل على بثها، ونحتاج المفكر الذي يصنع لها تلك الأفكار، ومن ورائهما، نحتاج العقل الذي يحفر مجرى نهر و يكون مورداً لهذه الأفكار، نعوّل على الكتلة الثقافية في التغيير، لأن النخب الأخرى في المجتمع لا تجيد التعامل مع أساليب الهيمنة الحديثة، وتقع فريسة لها في العادة. يتحدث فلاسفة معاصرون أن عبارة "أنا حر" حين يطلقها الفرد المعاصر، هي مقولة كاذبة، فهو لو ترك وحده سيقع ضحية الأنساق التي خلقها الأقوياء في زمانه، فعبر هذا التحكم والهيمنة، شكّل الأقوياء الثقافة التي حصرت خيارات الفرد، وجعلته يظن أن الحرية تقع ضمن اختياراتها. 

فالثورةُ السوريّة الآن تحتاج إلى الحريّة العقليّة الجمعيّة والفرديّة، إلى إعادة صوت العقل المنظّم لكلّ صوت أكثر من حاجتها إلى شعاراتٍ لاتمنح الجائع لقمة خبز أو المتجمّد ناراً.

حيث إن العالم الذي يفقد قدرته الحيوية على النقد، عالم يكون الفرد فيه أحادي البعد والتفكير، على الرغم من كثرة المزاعم.

مرحلة الثورة الوقائية

لسنا في مرحلة ثورة مضادة، فالكيانات الثورية لا تُزاحم "سياسيّاً" اليوم، وغُيبت سريعاً، بل نعيش مرحلة "الثورة الوقائية"، حيث إن الأنظمة القائمة تستفيد من ذكائها وخبرتها الطويلة، لتتحسس وتلغي بوادر ودروب التغيير الكامنة، فمن المهم أن ندرك أن الثورة والتغيير لا يرتبطان بالضرورة بتلك الصورة الدرامية التي نعرفها عن ثورات تسقط العروش بلحظة واحدة، بقدر ما تكمن في حيوية القدرة على التغيير والارتقاء، بحسب ما تتطلبه الأوضاع الجديدة، والمواصلة على كبح الجماح وإطلاق العنان للعقل ليجد مخرجاً.

فالسوريّون الذي يسعون لتحرير وطنهم من السلطات المستبدة لا يستحقون بالتأكيد أن يوضعوا تحت استبداد أي آيديولوجيا سوى الّتي تدفع بهم نحو الخلاص.

ولذلك رأينا كيف فشلت الكثير من التيّارات في كسب الدعم الشعبي وإنقاذ ثورة السوريين من مأزقها الّذي يؤلم الملايين منهم، لأنها لم تفهم الشعب السوري، ورفضت أن تقدم لها المراجعات الجريئة التي يستحقها هذا الشعب في سبيل الحرية. ولا أعني، هنا، حريتها السياسية فقط.، فهناك أحداث ظلم، وهناك ردة فعل شرعية عليها، وعلى الاضطهاد، لكن الكثير من هذه التيارات لا تمثل رؤية ومشعلاً للناس الذين يهدفون إلى حياة طبيعية محرّرة. ولا شك في أن الثورة السورية بعد عقد كامل من المأساة قد وضعت حجر الشاهد على قبر هذه التيّارات كلها.

مخاطبة حاضنة النظام الشعبية

 القوى الّتي قادت الثورة السورية لم تستطع التقاط حالة الحاضنة الشعبية التي يتمترس خلفها النظام الأسدي، فالخطاب الديمقراطي كان ينبغي له أن يكون حامله الثوري على قدرة تنظيمية فكرية سياسية واضحة البرنامج والأهداف، بحيث تشكّل قاعدة تلتف حولها كل قوى المجتمع المعنية بالتغيير الديمقراطي.

ولم تستطع أيضاً أن تلجم الخطاب الذي حاول تصوير الأمر وكأن الصراع في سوريا هو صراع طائفي بين طائفة صغيرة تسيطر على الحكم في البلاد وطائفة كبيرة يتمّ حكمها بطريقة تعسفية قهرية. 

عدم لجم قوى الثورة السورية لهذا الاتجاه الذي ساد لاحقاً، ساهم في هدم أية إمكانية للتغلغل ضمن نسيج حاضنة النظام من بوابة القوى الوطنية الديمقراطية فيه، بحيث كان المطلوب إشراك هذه الحاضنة أو أجزاءٍ منها متضررة من النظام في الثورة. هذا الأمر كشف عن غياب رؤية استراتيجية لدى الكثير من القوى الّتي تعاقبت على الثورة في فهم طبيعة النظام وتكوينه، وفي فهم آليات عمله، وكذلك في فهم طبيعة الثورة وبرنامجها وأدواتها.

ولم تقم حتى اللحظة بإجراء مراجعة نقدية لبنيتها الذاتية، وإجراء مراجعة نقدية لبرنامجها السياسي، وهذا يمكن اكتشافه من خلال عدم قدرة هذه القوى على بلورة موقفٍ ثوري يمثّل تطلعات الشعب السوري في إنجاز مهام ثورته، وتحديداً في ترسيخ حرياته والعمل على بناء دولته الديمقراطية.

تدويل الملف وتعدد الأجندات

غياب الرؤيا النقديّة لدى هذه القوى، سمح لقوى إقليمية ودولية بلعب دورٍ حاسمٍ في اتجاهات الثورة، إذ استطاعت هذه القوى الإقليمية والدولية على تحويل سوريا إلى ساحة صراع عسكري وسياسي بينها، في الوقت الذي تراجعت فيه مطالب الشعب السوري وأهداف ثورته إلى درجة متدنية.

إنّ الحالة التي وصلت إليها الثورة السورية بعد عقد كامل من النضال الشعبي لا تبعث الطمأنينة لدى السوريين، فملف النضال بينها وبين النظام الأسدي لم يعد ملفاً خاصاً بهما، بل أصبح هذا الملف يخضع للصراعات الدولية بين الدول المنخرطة في الصراع السوري، كلّ دولة لها أجندتها وأذرعها.

هذه الحالة تجعلنا نقول: إن الثورة السورية في مرحلتها السابقة هي في حالة ثورة مفوّتة، لم تستطع إنجاز مهامها ولو بالحدّ الأدنى، ولكن هذا لا يعني أنّ الثورة تلاشت أو ماتت، فالأهداف التي قامت لأجلها الثورة السورية لم يتم إنجازها، وبالتالي هي أهداف ما تزال قائمة، ما دام نظام القهر والاستبداد يقف حائلاً دون تحقيقها.

 فإن عجزت القوى التي قادت الثورة بصيغتها السابقة عن إنجاز ماهو مأمول فهذا يتطلب صيغةً جديدة للحامل الثوري، تختلف بنيوياً عن الصيغة الأولى، وتكون أكثر وعياً لدورها، وأكثر ارتباطاً بواقعها، بحيث يمكن تحويل دور الخارج إلى معادل قوة، وليس معادل تخريب وهيمنة وسيطرة كما جرى.

الثورة السورية بصيغتها الحالية هي ثورة منهكة مرحلياً، وتحتاج بالضرورة إلى عملية نقدٍ واسعةٍ وعميقةٍ على المستويين الذاتي والموضوعي. فهل تتمّ عملية النقد أم أننا سنحتاج إلى ثورة أخرى تصحح مسار ثورتنا الحالية، سيما وأنّ عدد الّذين يقفون في الجهة المقابلة للثورة ازدادوا أو سقطت أقنعتهم، وأن السوريين ليسوا في مرحلة ترف للتراجع.

التعليقات (1)

    نيروز

    ·منذ 3 سنوات شهر
    رائع أدهم
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات