السوريون والعودة إلى حضن الوحش

السوريون والعودة إلى حضن الوحش
جاء في مرافعة الشاعر والمعتقل السياسي السابق فرج بيرقدار في مواجهة محكمة أمن الدولة العليا عام 1992: "إن دولة تعتبر فيها الكلمة جريمة يحاكم عليها المرء، هي دولة غير جديرة بالحياة، ولا حتى بالدفن، وبشكل خاص ذلك الطراز من الدول التي تفترس فيها الكلمة بالسياط والبنادق والزنازين"

في الوقت الذي ذكرت فيه وكالة "سانا" بتاريخ 22 شباط/فبراير الجاري أن قوات النظام افتتحت معبراً في قرية الترنبة قرب سراقب لخروج المدنيين من مناطق شمال غربي سوريا الخاضعة لسيطرة المعارضة إلى مناطق سيطرة النظام؛ أكد فريق "منسقو استجابة سوريا" عبر حسابه في فيسبوك أنه لم يرصد عبر فرقه الميدانية خروج أي مدني من هذا المعبر؛ لكن هيهات أن يمر حدث كهذا من دون أن تستخدم آلة النظام الإعلامية عصاها السحرية في قلب الحقائق، وتدّعي أن الإرهاب، ولا شيء سوى الإرهاب، هو من احتجز المدنيين ومنعهم من التوجه إلى ممر نظامها الإنساني، مع اتهامات روسيّة بضلوع تركيا في فشل العملية، متجاهلة كعادتها حقيقة معرفة الأهالي لواقع مثل هذه المعابر، وتفضيلهم الموت جوعاً وبرداً أو تحت القصف، على العودة إلى حضن الوحش الذي تسميه هي "حضن الوطن".

لم يتوقف نظام أسد منذ بداية الثورة السورية عن محاولاته لتركيع الشعب السوري، والالتفاف على انتفاضته وخنقها بشتى الوسائل، فإلى جانب العمليات العسكرية وسياسة الأرض المحروقة، يسعى بين الحين والآخر إلى استقطاب المدنيين والعسكريين الثائرين عليه، بطريقة علنية؛ من خلال مراسيم العفو العامة وما يعرف بالمصالحات أو التسويات، وصولاً إلى مؤتمر عودة اللاجئين الذي عقد في العام المنصرم، أو بشكل سرّي؛ من خلال أذرعه الاستخباراتية المنتشرة في كل مكان. 

بيد أن محاولات الاستقطاب تلك، التي تأتي بتوجيهات وغطاء روسي وإيراني، لتجمّل صورة النظام وتظهره بمظهر الأب الحنون الراغب بلم شمل أولاده تحت سقف الوطن الآمن، باتت مكشوفة لدى غالبية أبناء الثورة السورية، فهي لا تعدو عن كونها فخاخاً ينصبها للإيقاع بمناهضيه من الثوار وأبناء المناطق الثائرة، حيث إن أغلب من عقدوا مصالحات معه تعرضوا إما إلى الاغتيال في ظروف غامضة أو إلى الاختفاء القسري والقتل في السجون والمعتقلات.

 لم يعد خافياً على أحد أن نظام بساط الريح والدولاب والكرسي الألماني وصاحب أكثر من سبعين طريقة مبتكرة في التعذيب؛ لن يوفر أيّاً من أساليبه الشنيعة في تصفية الأحرار الذين وقفوا في وجه آلته القمعية، وإننا إن استوقفنا أي سوري من أبناء المناطق المحررة وسألناه أين يرى نفسه في حال عاد إلى "حضن الوطن"، سيقول جازماً إن مصيره الاعتقال والموت على يد السّجّان لا محالة؛ فالمتابع لمجريات الثورة والمطّلع على تاريخ دولة الهلع والأغلال منذ استلام حافظ أسد للسلطة يدرك أن العقلية الأسدية الفاشية لا ترى حلاً إلا من خلال الدم، فهي تستخدم التعذيب كأسلوب رديف للبراميل والقصف والأساليب الأخرى في التنكيل بالشعب السوري؛ ولم تعد غايتها من التعذيب مجرد التحقيق والحصول على الاعترافات بل صار شكلاً من أشكال ترهيب الشعب وإعدام المعارضين.

وهذا ما بينته أرقام منظمة العفو الدولية؛ حيث أكدت أنه في سجن صيدنايا سيئ الذكر وحده قام النظام بتنفيذ إعدامات جماعية سرية بحق عشرات الآلاف من المدنيين المعارضين له، فضلاً عن الذين قضوا تحت التعذيب في ذلك السجن وفي الأفرع الأمنية التي عرفت بأنها مسالخ بشرية من قبل الثورة وازدادت فظاعة ودموية بعدها، ليصبح أمر الخروج حيّاً من تلك السجون قدرة ما بعدها قدرة، وضرباً من المستحيل في أغلب الحالات، وما صور قيصر إلا قطرة من بحر الدم الذي سال في تلك المعتقلات.

منذ استيلاء حزب البعث على السلطة ومجيء الدكتاتور الأب إلى سدة الرئاسة شهدت سوريا أسوأ مراحل حياتها الاجتماعية والسياسية، وعلى الرغم من غناها بالثروات إلا أن التخلف كان واضحاً في جميع القطاعات؛ وحدها المؤسسات الأمنية والسجون السرية شهدت ازدهاراً منقطع النظير، وطرأت التعديلات على أغلب السجون وتوزعها في المحافظات، وشيّدت سجون أخرى، فأصبحت المعتقلات السورية تكتسب شهرة عالمية في وحشيّتها، وشهدت كبريات المجازر بحق المعتقلين منذ 1980 حين تم إعدام مئات السجناء في سجن تدمر إلى يومنا هذا، فضلاً عن سجون لم نعرفها، حتى بات المواطن السوري يشك أنه أينما وقف فإن تحت قدميه قبواً للتعذيب أو سجناً سريّاً وأن بشراً تحت قدميه يئنون من سياط الجلادين و"كبالهم الرباعية" وغيرها من الوسائل التي لم تخطر على بال شيطان، وأصبحت عبارات مثل "بيت خالتك – عازمينك على فنجان قهوة بالفرع" أشد وقعاً على نفس السوري من الرصاص، وامتلأت ذاكرتنا بقصص أناس ذهبوا لمراجعة فرع أمني من أجل قضية بسيطة ثم لم يعودوا أبداً ولم يروا نور الشمس بعدها، حتى إن القارئ لأدب السجون سيجد أن أقبية نظام الاستبداد الأسدي كانت مادة دسمة وغنية له، وأكثر الروايات رعباً دارت أحداثها في تلك الزنازين الرطبة.

وبالعودة إلى معبر سراقب اللا إنساني وكذبة حضن الوطن؛ فإنه لا يخطر في البال إلا ما قاله يوماً سفّاح عصابة الأسد عصام زهر الدين حين نطق بحقيقة يراوغ سيده عند التطرق إليها "نصيحة من هالدقن لا ترجعوا".

التعليقات (1)

    سعيد المقبولي

    ·منذ 3 سنوات شهر
    اللهم انظر لإخواننا في سوريا بعينك التي لا تنام
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات