ماذا يحدث في مدينة الباب؟

ماذا يحدث في مدينة الباب؟
ما يدفعنا للحديث عن وضع الناس بالشمال السوري هو التزامنا الأخلاقي والوطني والثوري أمام هذا الشعب ولسنا بأوصياء عليه (كما يريد البعض أن يروج ليخفي حقيقة أدائه السيئ) ولا نريد أن نكون، لكن انحدار الوضع الأمني بمناطق قيل لنا إنها (محررة) يترافق مع وضع اقتصادي متهالك لعدم توفر مصادر دخل للنازحين والمهجرين وحتى للمقيمين بعد أن تم تشريدهم على يد نظام الأسد وحلفائه، وبعد تدمير شبه كامل للبنية التحتية وسلب الأراضي كمصدر مهم من مصادر أرزاقهم، وزاد عليهم تضييق وجشع مسؤولين فاسدين، وهو المحرك الأساسي الذي يدفعنا دائما للبحث بمعاناة أهلنا الذين ضحوا بالغالي والرخيص ثمناً لحريتهم وثورتهم.

في خريطة الشمال تبرز للواجهة وبشدة مدينة الباب، بتعدد التفجيرات الإرهابية التي تطالها وبتعدد التجاوزات الأمنية فيها، وحتى الإعلام وحرية الإعلام نال نصيبه من الإرهاب في مدينة الباب عندما تم اغتيال الصحفي حسين خطاب وبدم بارد، وبعدها أيضاً كانت هناك محاولة لاغتيال الإعلامي والناشط بهاء الحلبي، وهذا الأمر بدا يطرح الكثير من التساؤلات حول ماذا تخفي مدينة الباب حتى يتم كل هذا التركيز والتعتيم الأمني عليها؟، ومن هذا المنطلق كان لا بد من تسليط المجهر عليها من الداخل لمعرفة الأسباب، ومعرفة حقيقة ما يحصل فيها، بحثاً عن الحقيقة، وعن المواجع، لوضع ملامح حلول إن كان هناك من يبحث عنها!!

لدى محاولتنا السؤال عن بعض التفاصيل داخل مدينة الباب اصطدمنا بحائط الخوف المعشعش في نفوس الأهالي وبحالة شبيهة لمن يعيش في مناطق نظام أسد الديكتاتوري أو مناطق إرهاب الجولاني، وخشية الناس من الحديث خوفاً من أصحاب المقاعد والمناصب، وخشيتهم من الاعتقال والترويع والإخفاء القسري، وهذا سبب لنا صدمة كبيرة من حيث المبدأ خصوصاً أننا بثورة خرجت تبحث عن الحرية فكيف لا زال يوجد من يكمم الأفواه بيننا؟؟

سؤالنا الأول كان من الفصائل التي توجد في مدينة الباب؟؟

الفصائل الموجود فيها متعددة وكثيرة وأهمها: فرقة الحمزات، فرقة السلطان مراد، حركة أحرار الشام، الجبهة الشامية، أحرار الشرقية، جيش الشرقية، جيش الإسلام، فرقة محمد الفاتح، فرقة المعتصم، فرقة المنتصر، لواء الشمال، لواء الاحفاد.

أكثر ما لفت الانتباه هو كثرة الفصائل الموجودة هناك (طالما أن كل هؤلاء يوجدون قرب حلب تبرز عدة أسئلة أهمها: لماذا لا تزال حلب تحت سيطرة النظام؟؟)، والأمر الثاني هو وجود معظم قادة الصف الأول من تلك الفصائل بمدينة الباب، والأمر ليس صدفة وهذا أيضاً ما دفعنا للتدقيق بتلك الجزئية.

عند التدقيق بتلك المعلومات ومحاولة البحث عن الأسباب، برزت لنا بعض النتائج التي قد تكون السبب بتعاظم وجود الفصائل بمدينة الباب، وبأسباب وجود قادة الصف الأول فيها، ومن أهم الأسباب كان وجود المعابر اللانظامية التي يتم من خلالها جني المرابح والمكاسب لهؤلاء القادة عبر المتاجرة بأرزاق وقوت المحرر وأرواح البشر.

ما هي المعابر غير الشرعية الموجودة في مدينة الباب؟؟

بالتدقيق مع بعض المسؤولين القدامى أفادونا بالتالي: يوجد في مدينة الباب عدة معابر أهمها:

_ معبر أبو الزندين وهو تحت سيطرة فصيل "السلطان مراد" وهو مختص بالتهريب لمناطق نظام الأسد، ومنه تعبر بعض شحنات الوقود والمواد الغذائية واللحوم بالتعاون مع تجار محددين من الطرفين.

 _ معبر قرية السكرية "التفريعة" وهو تحت سيطرة فرقة "الحمزات" و"الأحفاد" ويقوم بالتهريب من الناحية الجنوبية باتجاه النظام ومن الناحية الشمالية الشرقية باتجاه العريمة يتم التهريب نحو "قسد" ومنه يتم تهريب خردة الحديد والنحاس والألومنيوم، وكذلك تهريب المواشي والمواد الغذائية والخضار وأيضاً يتم عبره تهريب البشر.

_ معبر المقلع وهو تحت سيطرة "حركة أحرار الشام" مختص بالتهريب لمناطق "قسد والبي كي كي" وأيضاً منه يتم عبور صهاريج الوقود إضافة للمواد الغذائية وتهريب البشر باتجاه مناطق تل رفعت ومحيطها والشيخ نجار والمنطقة الصناعية بحلب وقرى كردية.

_ معبر الحمرات باتجاه الغندورة وهو تحت سيطرة "الجبهة الشامية" ويقوم بالتهريب باتجاه "قسد" في منبج والعريمة، ومنه تعبر المواشي وخردة الحديد والوقود وتهريب البشر.

كل تلك المعابر تعمل باتجاهين وبمعرفة كل القادة العسكريين الموجودين في مدينة الباب، ويتم السكوت عنها من قبل القادة الأمنيين والعسكريين من خلال تبادل المنافع أو عبر سياسة الترهيب لمن يعارض، وهذا بدوره أجابنا عن سؤال غاية بالأهمية هو سبب تعدد القادة الأمنيين وتبديلهم بتلك المدينة وأسباب استبعادهم أو دفعهم إلى تقديم استقالتهم.

في محاولة الغوص بتفاصيل الوضع الداخلي كان لا بد من السؤال عن القوى الأمنية التي توجد داخل المدينة والمكلفة بضبط الأمن وتأمين الاستقرار وحماية الأهالي.

إضافة للشرطة المدنية والشرطة العسكرية التابعة للحكومة المؤقتة من خلال وزارتي الدفاع والداخلية، تبين أن لكل فصيل عسكري في مدينة الباب ما يزال هناك "كتيبة أمنية أو قوة أمنية" خاصة تتبع لقادة الفصائل، بعيداً عن الشرطة المدنية والشرطة العسكرية، بل إن تلك الكتائب الأمنية هي أقوى من أجهزة الشرطة المدنية والعسكرية، ولا يملك أحد السلطة أو الرقابة على عملها إلا من قادة الفصائل التي يتبعون لها بعيداً عن أي قوانين أو أنظمة داخلية، حتى بالسجون تبين أن هناك السجن المدني التابع لوزارة الداخلية عبر الشرطة المدنية والسجن العسكري التابع لوزارة الدفاع عبر الشرطة العسكرية، لكن أيضاً هناك سجون أخرى، حيث يوجد سجنان لدى فصيل الحمزات أحدهما بمنطقة "الزراعه" والآخر يسمى سجن "المغاره" وأيضاً هناك سجن لـ"حركة أحرار الشام" بمنطقة "المقلع" وتلك السجون الثلاثة هي الأخطر وهي مرعبة للأهالي هناك، ويوجد أيضاً سجن يتبع لفصيل "أحرار الشرقية" يتموضع داخل مزرعة العماد حكمت شهابي، وسجن لفصيل "السلطان مراد" في منطقة "حور كلس".

أما عن طريقة التعامل مع الموقوفين بتلك السجون غير الشرعية فقد حصلنا على شهادات (يرفض أصحابها ذكر أسمائهم خوفاً من ملاحقتهم كونهم يعيشون بالداخل، وحتى الذين في تركيا رفضوا ذكر أسمائهم خوفاً من ملاحقة أهاليهم وأقاربهم بالداخل)، الجميع تحدث عن الظلم الذي يلحق بمعظم الموقوفين وأن التهم للموقوفين تكون جاهزة (العربي تهمته قاعدة والكوردي تهمته بي كي كي) وهذا لا ينفي وجود عناصر إرهابية من داعش وحزب العمال الكوردستاني في تلك السجون، لكن هناك من أخبرنا بالإفراج عن كثير من الدواعش وعناصر بي كي كي من تلك السجون مقابل فديات مالية ضخمة يتحصل عليها القائمون على السجون والمعتقلات، علماً أن تلك السجون بلا أي قيود رسمية أو سجل دخول وخروج وبدون أي وثائق قانونية حول عملها أو حول الموقوفين، وقد رويت لنا إحدى القصص التي حصلت داخل سجن من تلك السجون:

كمثال صغير ومن عشرات الأمثلة نورد قصة 12 شابا أرادوا العودة لمناطق النظام بعد أن سدت الطرق بوجوههم ونتيجة الضائقة الاقتصادية (كما يقولون) واتفقوا مع مهربين لإخراجهم من الشمال المحرر عن طريق معبر قرب مدينة الباب، لسبب ما لم تتم العملية وتم إلقاء القبض عليهم من إحدى الفصائل وتم وضعهم بأحد السجون غير النظامية، وبدأت رحلة أهاليهم البحث عنهم، بمراجعة أحد فروع الشرطة قيل لهم إن أبناءهم غير موجودين لدينا ولسنا نحن من ألقى القبض عليهم، لكن الأهالي استطاعوا تحديد السجن اللاشرعي الذي يحتجز أولادهم بعد تلقيهم رسائل تطلب فدية مالية ضخمة عن كل شاب منهم مرفقة بصور أبنائهم تحت التعذيب، وأكدوا للشرطة أنهم يراجعون السلطة الأمنية الرسمية التي يُفترض أنها ملاذهم ومرجعيتهم لاسترجاع أبنائهم، وأنهم يطالبونها بتطبيق القانون فقام أحد الضباط بالاتصال بالمسؤول عن السجن الذي  يعتقلهم سائلاً عن مصير هؤلاء الشباب. لكن مسؤول السجن نفى أي معرفة له بتلك الأسماء وأنهم غير موجودين لديهم.

باليوم الثاني عاد الأهالي لقسم الشرطة ليطلبوا منه كف السؤال عن أولادهم ونسيان قدومهم إليه ومراجعتهم، لأن جرعة التعذيب والضرب زادت على أولادهم بالليلة الفائتة وأن الفدية المالية تضاعفت بسبب لجوء الأهالي للشرطة.

بالعودة لقادة أمنيين سابقين وسؤالنا عن كيفية عمل الأجهزة وكيفية تعاطي الكتائب الأمنية غير الشرعية التابعة لقادة الفصائل، أفادونا أن التهور والارتجالية والمصالح الشخصية وملاحقة أبناء الأغنياء والتجار هي من تتحكم بعمل تلك الكتائب الأمنية وقادتها رغم عدم شرعيتها بظل وجود قوى أمنية مدنية وعسكرية مكلفة بالمهمة، وتلك الفصائل مع كتائبها الأمنية تعمل بعيداً عن أي ضوابط مسلكية أو قانونية تتحكم بعملها، وإن التهور والظلم هم السائدان بحق الأهالي والموقوفين، إضافة لغياب أي رقابة قانونية عليها، فهم من يسنون الإجراءات وهم من يشرعها ويطبقها وفق منافعهم ورغباتهم وبمباركة من قادتهم غير المعترضين طالما أن الأموال تتراكم في خزائنهم، حتى الغرامات والمصادرات "في حال طبقت على البعض"، فإن تلك الأموال والمصادرات لا تذهب للحكومة المؤقتة عبر وزاراتها كما يفترض أن يكون، بل تذهب لجيوب القادة، وللجباة حصة من تلك الأموال والمصادرات، وبالتالي أصبحت عاملاً مشجعاً لتلك المفارز الأمنية لزيادة مكاسبهم.

بالعودة للقوى الأمنية الرسمية من شرطة عسكرية وشرطة مدنية قيل لنا إن هناك صراعا كبيرا بين تلك الكتائب الأمنية وبين بعض القادة الشرفاء من الأجهزة الأمنية الشرعية، والتي ترفض تلك التجاوزات وترفض الأساليب المتبعة، لكن منطق "القوة والضعف" هو من يفرض عليها السكوت أو طلب تبديلها ونقلها لمناطق أخرى، عدا عن أخطاء أيضاً بصميم عمل الأجهزة الرسمية، فمعظم عناصر الشرطة المدنية في مدينة الباب ليسوا مؤهلين ولا يملكون الحس الأمني، لأن قيادة الشرطة معظمها ضباط خلبيون وغير اختصاصيين وغير حقوقيين بعد استبعاد ضباط الشرطة المنشقين الحقيقيين أو اغتيالهم، حتى إن قائد الشرطة المدنية بمدينة الباب هو شرطي مدني برتبة رقيب وُضعت له رتبة نقيب وأصبح قائداً للشرطة هناك، وكذلك قائد قوات "الكوماندوس" هو رجل يعمل بمهنة (الدهان) وُضعت له رتبة "رائد" وأصبح قوة لا يستهان بها في مدينة الباب، أما الشرطة العسكرية فهي صاحبة الرقم الأكبر من حيث حالات الاصطدام بكتائب أمن الفصائل غير الشرعية، لكنها بالنهاية تخضع لقوتهم لعدم وجود سند لها، وغالباً ما يطلب قادة الشرطة العسكرية نقلهم لمواقع أخرى رفضاً لما يحصل، لكن الملاحظة الأهم التي وردت لنا أن هناك ضباطا فاعلين بأجهزة الشرطة المدنية والعسكرية هم معينون من قبل قادة فصائل ويتبعون لهم ويتلقون تعليماتهم من هؤلاء القادة وليس من قيادتهم بوزارة الداخلية التي يتبعون لها وفق القانون والأصول.

وعندما سألنا بعض أصحاب المناصب الرافضين لتلك التجاوزات عن سبب عدم نقل الصورة للمستوى الأعلى أو للحليف التركي، قيل لنا إن معظمنا لا يتقن اللغة التركية ولإيصال الحقيقة يجب الاستعانة بمترجمين، وهؤلاء محددون مسبقاً، ويتبعون لقادة الفصائل، ويتقاضون راتباً منهم، ومهمتهم عدم ترجمة ونقل إلا ما يرضي قادة الفصائل وأولياء نعمتهم، ومن يشذ عن المعمول به من بعض المترجمين الصادقين يتم استبعادهم وطردهم من عملهم أو التضييق عليهم بأشكال مختلفة لإجبارهم على ترك العمل، ومنهم من تُلصق به تهم مزورة وملفقة ثم يتم طرده.

حتى بعض الأهالي والعشائر تشارك الفصائل بعملية تجاوز القانون، عندما تحصل مشكلة مع أحد أفراد العائلات وتريد مؤسسات الشرطة العسكرية أو المدنية تطبيق القانون غالباً ما تهجم عائلة أو عشيرة المذنب على المؤسسة وتجبرها على إطلاق سراحه، وكذلك تفعل الفصائل عند اعتقال أحد عناصرها حيث يقوم الفصيل المعني والذي يتبع له العنصر المذنب أو الذي تم توقيفه بالهجوم على المؤسسة (شرطة عسكرية، شرطة مدنية) وإخراجه بالقوة.

لا أدري إن كان مهماً أن نتابع بهذا الكلام، لكن هي صرخة نضعها أمام الشرفاء وأمام من يملك القرار لإصلاح ما يمكن إصلاحه لشعب يستحق منّا كل تضحية ويستحق منا كل احترام، وما يحصل بمدينة الباب هو عينة مما يحصل بكل البلدات والمدن بالشمال السوري.

هي مناشدة للتدخل وإعادة الحق لنصابه، وعلى أصحاب القرار أن يعلموا أن الفساد كالسرطان يتغلغل بسرعة، وما تعالجه اليوم يصعب معالجته بالغد، ومن بعد الغد يستحيل العلاج.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات