( جزء من النص مفقود) لعماد كركص: القصة الشعبية بروح شبابية.. و"الضحيّكة" تنافس أم الطنافس

( جزء من النص مفقود) لعماد كركص: القصة الشعبية بروح شبابية.. و"الضحيّكة" تنافس أم الطنافس
بخطى متسللة، تشبه مفردات عالم الرياضة التي عشقها وأدمن مشاغباتها الصحفية والكروية، يتسلل عماد كركص من أجواء الصحافة إلى عالم القصة القصيرة.. وتبدو مجموعته القصصية الأولى (جزء من النص مفقود) الصادرة في إسطنبول عن دار موزاييك للدراسات والنشر، مثيرة للاهتمام على أكثر من صعيد..  ربما كان أولها ما عرّف الكاتب به مجموعته على الغلاف حين وصفها بأنها (ما يشبه الكوميديا)، ذلك أن محاولة كتابة كوميديا في مثل هذه الأجواء التي يعيشها السوريون هي نوع من الانفصال المتعمد عن الواقع.. وربما لهذا فضل الكاتب أن يختار اسما وهمياً لقرية تدور فيها أحداث قصصه، التي تشترك كلها في أنها تدور في أجواء هذه القرية.. ما يشكل رابط دراميا بينها، وثانيها أن هذا الرابط الدرامي والمكاني يجعلها تبدو في جانب من الجوانب أشبه برواية، في الوقت الذي تحتفظ فيه ببنية القصص القصيرة أيضاً.

"الضحّيكة" على الجغرافيا الإدلبية 

إذن يهرب عماد كركص من أجواء الحرب إلى مكان وهمي هو (الضحيكة) وهي قرية من الواضح أن لهجة أهلها العامية التي تبرز في حواراتهم تتطابق مع اللهجة الإدلبية..  فهي إذن تقع في الجغرافيا الإدلبية، كما يهرب من زمن الحرب إلى ما قبلها، زمن سورية الأسد ودولة الاستبداد التي يخاف فيها الناس من سماع نكتة سياسية لا من مجرد قولها فقط.. وهاهنا لا يمكن للمرء أن يخطئ ذلك الزمان الذي يعرفه كل السوريين، وكل من عاش في سورية في مملكة الصمت التي كانت تبسط طقوس النفاق لتصبح نمط عيش، ولغة حياة. 

ومع ان (الضحّيكة) ليست اسما موجودا على الخارطة السورية، إلا أنها في الواقع تبدو جزءا أصيلا منها.. فكل ما فيها هو وجع سوري، وكوميديا سورية مضحكة حتى البكاء، وتفاصيل حياة سورية حاول الكاتب أن يموه حتى اسم عملتها دون أن ينجح في إخفاء روحها الحقيقية.. وربما هو لم يكن ساعيا لذلك.. فقد كان تمويها من الدرجة العاشرة.. أي يمكن التعرف على الملامح الأصلية بسهولة.. حتى لو أخفى اسم (البعث) واستعاض عنه باسم (الحزب الحاكم)، وحتى لو أخفى اسم حافظ الأسد وصدام حسين وبشار الأسد واستعاض عنه بـ (رئيس الدولة في تلك البلاد) و(رئيس دولة مجاورة). وهكذا يلعب عماد كركص لعبة تمويه ماكرة.. ليس هدفها دفع القارئ إلى فك طلاسم وشيفرات يصعب تفكيكها بل هدفها نوع من التواطؤ المكشوف على لعبة ملء الصفات بأسماء أصحابها التي تنطبق عليهم من قمة الهرم إلى قاعدته.

إحياء تقاليد القصة الشعبية

ليس الهدف الأساسي في هذه المجموعة كتابة قصة سياسية ساخرة.. على طريقة عميد هذا الأدب عزيز نيسين مثلا.. لكن كركص رغم تأثره بأدب نيسين، إلا أنه يسعى للسير على خطى وتقاليد القصة الشعبية السورية التي كان يكتبها أدباء وقصاصون كبار أمثال حسيب كيالي وأديب نحوي وغيرهم.. وسواء قرأ كركص لهؤلاء أم لم يقرأ لهم، فإنه يسير على خطاهم في استلهام البيئة ذاتها، وفي تصوير تفاصيل حياة الطبقة الشعبية بزخمها وحرارة شخوصها وتقاطع أمزجتها وتصاعد أحداث حياتها اليومية التي تبدأ على نحو اعتيادي وهادئ... ثم تتصاعد نحو ذرى التوتر الدرامي الذي يطور الحدث، ويبلور سمات الشخصيات، ويبرز خصوصية تركيبتها الداخلية لتغدو هذه الشخصيات بيد النساج الماهر، أداة نسج هذا القص الشعبي المتدفق، الزاخر بالدلالات.

ولعل ما يعطي هذه القصص الشعبية أهميتها الأدبية هو العمل على منظومة الدلالات التي تكشفها الأحداث.. فليس هدف هذه القصص تركيب جملة من الأحداث المتصاعدة على نحو دراماتيكي كما أسلفنا وحسب، بل هدفها الأبعد والأكثر عمقا وجاذبية هو كشف دلالات الحياة التي يعيشها مجتمع قرية الضحيكة.. حيث تبرز الروح الجماعية في مقارعتها المنهكة للأنانية الفردية التي تفشل المشاريع والأحلام الصغيرة والكبيرة... وحيث تسير حياة الخوف جنبا إلى جنب مع الادعاء والنفاق... وحيث يصنع الكذب أمجاده الأسطورية والخيالية التي تحاول أن تملأ هامشية الحياة وخواءها لدى بعض الشخصيات.

عناصر روائية في قصص قصيرة!  

وعلى المسرح الدرامي الذي تجسده قرية (الضحيكة) المكان الأساسي الذي تدور فيه أحداث هذه المجموعة القصصية، تتكرر الشخصيات ذاتها، التي تكون بطلة القصة الأساس هنا، ثم تغدو سخصية هامشية أو سنيدة هناك. ولولا أن الكاتب جعل من قصصه صورا متناثرة عن حياة وشخوص القرية، أي بلا تصاعد درامي أو زمني يسير بالقصص ضمن خط متصل، لأمكن لهذه القصص أن تشكل في مجملها رواية.. لكن البنية الروائية تضيع حين تغدو كل قصة حدثا منفصلا بذاته، لا يجمعه مع القصة التي يليها سوى استخدام الأمكنة نفسها، واستمرار حضور الشخصيات لتلعب أدوارا أخرى.. تخدم بنية الحدث في القصة الجديدة، وليس اللوحة العامة التي ترسمها القصص ككل. 

أم الطنافس الفوقا.. صور وشخصيات مقارنة!

ربما كانت أقرب الصور الدرامية لهذه الحال، هي صورة مسلسل (ضيعة ضايعة) للكاتب ممدوح حمادة.. فكأن الكاتب كان يرسم في (الضحيكة) صورة أخرى لقرية على نمط (أم الطنافس الفوقا)، ليس على صعيد استعارة الأحداث أو الشخصيات، فهي مختلفة تماما هنا، بل على صعيد تأثر الأدب بالنص التلفزيوني.. وهذه حالة نادرة وفريدة من نوعها بغض النظر عن مدى إيماننا بوقوعها.

 إن تصوير واقع قرية افتراضية من خلال حكايات ويوميات أبنائها وشخوصها.. يحيلنا بشكل أو بآخر إلى المقارنة مع (أم الطنافس الفوقا)..  لكن شخوص (الضحيكة) هي أكثر واقعية من حالة التصعيد الكوميدي (الغروتسك) التي رُسمت من خلاله شخصيات (أم الطنافس الفوقا).. فشخصيات الضحيكة نماذج بشرية مرسومة بريشة واقعية بعيدة عن المبالغات الفنية الفاقعة – رغم نجاحها الفني هناك -  والكوميديا التي تجسدها حكايات تلك الشخصيات نابعة من تنافر الطبائع حيناً، ومن كوميديا السلوك الانساني حينا آخر.. فالمرأة الثرثارة الفضولية التي تشعر بالإحباط بعد مغادرتها العاصمة وعودتها مرغمة إلى هذه القرية، والتي تعوض عن هذا الإحباط بجلسات النميمة وإفشاء أسرار الجيران.. والرياضيون الموهمون بخبراتهم الذين ينشؤون فريقا يصنع من الفشل فضيحة مدوّية للقرية، والمراهنون الذين يبيعون ويشترون أوهام الفوز الكروي، والبقال الذي يشعل أعواد ثقاب الفتنة في كل معركة ثم يحاول أن ينسل منها كي لا تتأثر تجارته.. والرجل المتأنق المفلس الذي يروي القصص عن أمجاده ولقاءاته بكبار رؤساء الدول، بما في ذلك صدام حسين الذي خرج من بئر بيته وشرب معه كأسا من الشاي حين كان في مرحلة الهرب والتخفي قبل أن يقبض عليه الأمريكان في الحفرة، والضابط النابغة الذي دخل إلى كلية الطب ذات مرة ودعا إلى إشعال شرارة التغيير فيما يشبه الإيحاء بوقوع انقلاب عسكري، فجعل كل الطلاب والأساتذة يخشون مغادرة الكلية خشية أن يعاقبوا على ما سمحوا لآذانهم أن تسمع به.. والمطرب القبيح الصوت الذي لا يفارقه سوء الطالع حتى حين يحاول استغلال مناسبة تجديد البيعة للسيد الرئيس، وصاحب النكتة المتهور الذي ألقى بنكتة ثقيلة عن القيادة القطرية أمام مسؤول أمني لم يستطع أن يكتم غيظه من جرأته رغم أنه أعطاه الأمان أمام الجميع، فظل يخشى من أن يكتب أحدهم فيه تقريراً لأنه سمع النكتة أمام الملأ.. كل هذه الشخصيات وغيرها، ترسم بانوراما حياة شعبية زاخرة بمفردات وطبائع وسلوكيات درامية، ربما كان أجمل ما فيها قدرة الكاتب البارعة على رسم تفاصيلها الخارجية والداخلية معا بأناة وصبر ومكر.. بانوراما لشخصيات بقدر ما تبدو كوميدية صرفة، فإنها تحمل مرارة تراجيدية عميقة تختزل ملامح الحياة السورية التي كانت في عهد سورية البعث والأسد. 

عيوب السرد والقفلة الدرامية

على نحو متدفق وسلس يسير السرد في قصص (جزء من النص مفقود) حيث بنية الراوي الكلي المعرفة، تجعل السارد خارج الشخصيات وداخلها، ورغم عدم اهتمام الكاتب بجماليات اللغة على نحو أدبي مترف، إلا أنه ينجح في الإمساك بسياق القص، وفي المضي به على نحو خلاق.. كما أنه يحقق لمسة خاصة في تكثيف المشهد الافتتاحي لقصصه بما ينقل القارئ إلى قلب المشكلة أو لحظة التأزم الدرامي، بحرارة لافتة، وبعيدا عن برود المقدمات وترهل التمهيد التقليدي لأحداث القصة.  

لكن ما يعيب هذا السرد المحكم والمتماسك أحياناً، كثرة الشرح في متن النص، وفي توصيف ردود أفعال الشخصيات، وكثرة الجمل التي تفسر ولا تترك مجالا للقارئ أن يملأ أي فراغ شعوري في تفاعله مع الشخصيات.. وربما كان العيب الأبرز في هذه القصص ضعف القفلة الدرامية لبعضها.. كما في قصص (أبو قيلة) و(جائزة أفضل مدرب) و(القيادة القطرية في الأمازون) التي لا ترقى نهاياتها إلى مستوى السرد الحيوي الأخاذ، وبناء الشخصيات المشبع بالتفاصيل بالغة الثراء. 

درامية عالية.. وشغب طفولي

أما أعظم قصص المجموعة برأيي الشخصي، فهي قصة (مدرسة التغيير) التي يقدم فيها الكاتب، بحس الطالب المشاغب، أقذع هجاء لمنظومة تعليم كاملة في زمن حكم البعث والأسد.. حيث المدرسات المملوءات بالكراهية والعقد الشخصية، ينتقمن من الطلاب والطالبات المتفوقات بأكثر الطرق إيغالا في تدمير شخصية الطالب المتفوق الموهوب.. لكن الموهبة تنتصر في النهاية... والزمن الذي لا يتغير في مدرسة التغيير يغدو شيئا آخر خارجها. قصة تختزن روحا انتقامية عنيفة، لا ينشغل الكاتب خلالها بتقديم أي مبرر إنساني لتلك المدرسات المسكونات بعقد النقص... ولا يُعنى أيضاً بتقديم أي نموذج إيجابي آخر لدفع تهمة التعميم الظالم عن قصته المفعمة بالهجاء المر. 

أخيرا: إن عماد كركص في مجموعته القصصية الأولى (جزء من النص مفقود) يبدو أمينا لتقاليد القصة الشعبية على النمط الإدلبي الذي أرساه عميد هذا الأدب حسيب كيالي.. لكنه رغم ذلك ينجح في أن يقدم لنا بدرامية عالية، شخصيته الخاصة، المشاكسة، المسكونة بالشغب الطفولي، والدهاء الصحفي، والمكر السياسي والاجتماعي اللاذع حيناً.. والحاذق أحيانا.   

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات