رواية (خربة الشيخ أحمد) للسوري عيسى الشيخ حسن: شرق الفرات في ثمانينات القرن العشرين

رواية (خربة الشيخ أحمد) للسوري عيسى الشيخ حسن: شرق الفرات في ثمانينات القرن العشرين
حالما بدأت بقراءة رواية (خربة الشيخ أحمد) للروائي السوري عيسى الشيخ حسن؛ إحساس راودني أن غيمة بيضاء تتلبسني وترافقني حتى أنهيت الرواية، حالما أنهيتها رافقني شعور بالارتياح، شيء في الرواية واضح وأقنعني، حينما يحب رجل امرأة تقنعك لغة الكاتب وأسبابها، وإن تبادل اثنان الحب تقنعك المفردات بهذا الحب..أجد نفسي حزينا بعمق، حساسا لأبسط المواقف الإنسانية، وأبكي بلا سبب واضح، أبحث في داخلي جيداً، فأدرك أن السبب، هو عبقرية السرد الذي يقارب بيئة الحدث، تعابير ومفردات وتراكيب من بلاغتها الشاوية بمحاورة الفصحى السردية تصدمك.

أجزم أنه سيكون لهذه الرواية حظوةً في المشهد السردي الروائي العربي،  بما ستناله من اهتمام القراء، وبما ستحظى به من جدل الخصوصية السردية لدى النقاد على صعيد مستوى آخر من الاهتمام.

الحكاية:

تجري أحداث رواية (خربة الشيخ أحمد) في قرية "الصفيرة" السورية بريف الحسكة في ثمانينات القرن المنصرم، حيث يموت والدا "ياسين" وتتبناه أسرة أخرى في القرية، يكبر الصبي وتجمع بينه وبين "حسنة" قصة حب تختفي بالعواطف بعيداً عن الاحتفاء بالجسد الإنساني، نظراً للعادات والتقاليد في "الصفيرة" حيث العادات والتقاليد القبلية صارمة، الحب السؤال غير المرئي، الحب هو الباب الذي يطرق للرد على جميع الأسئلة الوجودية التي يحملها الكاتب عبر الرموز والدلالات الواضحة.

لا تخفى براعة الكاتب في السرد والتحكم في اللغة، ونجاحه في تقديم الفكرة لقراء مختلفين، حيث استطاع الكاتب النفاذ إلى عوالم تقع في الظل، حيث المسكوت عنه في القرية التي دائماً ما تنسب عوالمها للفضيلة والبراءة. 

قدرة الكاتب السردية وتقنياته وخصوصيته؛ أشياء تمنح الكاتب القدرة على أن يخوض في محليته، وبيئته وينجح في إشراك القارئ في الفكرة، في الحكاية ولكن بلغته هو، ولعل أصعب الترجمات ترجمة الواقع وترجمة الحياة بحذافير مشاعرها إلى من ليس منها، من أن يعشقها قبلاً. الرواية في فضاء وعوالم القرية شديدة البساطة والجمال، عمل يخطف الألباب برغم كثرة شخوصه وتنوع أحداثه وتشعب حكاياته، القرية التي تحكي عن كل شيء وتخفي كل شيء، بتتبع سردي رائع لأحداث كاملة، وظهور مختلف الشخصيات في أوقاتها المناسبة، لتجعلك كقارئ تستطيع الإلمام بكل ما يحصل أمامك، ينقلك الشيخ عيسى لعالم القرية لترى بعينك ما يحصل عبر صور متتابعة، وتجهد عقلك لمعرفة التفاصيل فيأتي بها في الصفحات التالية أمامك. رواية (خربة الشيخ أحمد) هي قصة قرية صغيرة، ولكن بتفاصيل دقيقة عن كل شخصية في الرواية. تصف حال عامة البشر في الحياة عموماً، وفي حياة القرية بشكل خاص، حيث أبدع الكاتب في تصوير كل شخصية من وجهة نظر الناس لها، ومن وجهة نظر الشخصية بحد ذاتها، بطريقة تجعلك تعيش مع أهل القرية، ولعل ما أعجبني في الرواية أنه رغم وجود بطل معين، يمكن القول أن البطل الرئيس في الرواية هو المكان، قرية "الصفيرة" بما فيها من شخصيات وأحداث وبما في مجتمعها بكافة أنواعه.

المكـــــان:

إن العبقرية في رواية (خربة الشيخ أحمد) هو أنك تكاد تشعر أنها لم تغادر صغيرة ولا كبيرة في فضاء القرية إلا شملته وأحصته و عددته، ووصفته مستعملةً تارةً اللسان العربي الفصيح وتارةً أخرى باستعمال اللهجة الشاوية، وبتصرفات شخوص الرواية بصدق وأمانة دون تصنع أو ارتباك، بل كنت كأنك تشهد الحدث، وتتلمس سذاجة الناس والأبطال وهم يتحركون في الفضاء والوهم والحسب والنسب والقبيلة والقرية والطرق وولائم الطعام وركوب الخيل بحماس منقطع النظير، والهوادج والعرائس والزيف والصوفية والشيخة والوجاهة والغباء اللعين، والذي أوقع  الكثير من شخوص الرواية في أخطاء قاتلة لهم ولبلدهم ولوطنهم، وكأننا أمام إعادة كتابة للتاريخ، ولبيان ما أهمله التاريخ، أو هو اعتذار واعتراف بالذنب.

وللإنصاف إذا كنت تريد أن تكتب عن رواية(خربة الشيخ أحمد) لمؤلفها عيسى الشيخ حسن، فستجد نفسك تؤلف كتاباً جديداً إن كنت مصرا على إتقان دورك وبأمانة. أغبط كاتبنا عيسى على صبره وطول نفسه، وعلى الجهود التي بذلها ليجمع هذا الكم الهائل من المعلومات والحقائق والقصص التي كانت حقيقة بل تجسيدا واقعيا لأمس مضى.

الســـــرد:

يمتاز السرد في رواية(خربة الشيخ عيسى)لعيسى الشيخ حسن، بأنه ينفصل عن الحوار ويستقل كل منهما بذاته للكشف من ناحيته وبطريقته عن جوانب الشخصية الروائية وأسرارها.

 فجاء السرد بضمير الغائب الأمر الذي جعل الراوي يسيطر  على البطل "ياسين" ويحيط بمعلومات الشخوص جمعياً، ويسرد الراوي بطريقة هادئة، وواضحة. 

واستخدم الراوي الاسترجاع للحوادث الماضية المتعلقة بشخصية "ياسين" وحبيبته "حسنة" التي يتزوجها في نهاية الرواية.

ويوظف الراوي في فقرات السرد قراءة ما يجري في أعماق الشخصية الروائية، وهو يقرأ ما يدور في ذهن "حسنة" وما تحس به في أعماق كيانها، من إحساسات غامضة ومن سرعة في خفقان قلبها كلما سمعت أو رأت حبيبها "ياسين" وهكذا تسجل القراءة نفحة من نفحات الرومانسية التي تشدنا إلى أجواء هذه القرية.

يدرج الراوي أسلوب الاستطراد لأجل إدخال تنويع في النسيج السردي، والخروج بالقارئ من متابعة الأحداث الحاضرة إلى مشاهد ولوحات متعددة في شتى أنواع القرى البعيدة والمتجاورة. ومن خلال هذا التنويع يبرز الراوي قدرته على الاطلاع على قرى عديدة في هذه البلاد ليعود في نهاية الاستطراد إلى هذه اللحظة الحديثة قيد المعالجة، وفي كل ذلك يستعرض الراوي قدرته على استيعاب مؤثرات عديدة. ويطعم الراوي النسيج السردي بالأمثال الشعبية.

الحــــوار:

يعد السرد خلفية جيدة يقوم عليها الحوار منطلقاً لما سيقدم من مشاهد، عبر الأقوال والأفعال والأفكار  التي نحسها من خلال المشاهد المعروضة. لكن الحوار في هذه الرواية غني بالتقنيات الفنية التي جعلت منه حواراً منوعاً.

 هكذا يسيّر الراوي الحوار الموجه بجزء منه إلى المشاهد إذ يستهله بفعل وما يتخلل ذلك من الشخوص وتعليق على الأحداث وقراءة أفكار الشخوص لربط الوقائع وسلسلتها في انسجام وتتابع سببي. ويُدخل الراوي على أسلوب الحوار تقنيات عديدة منها المونولوج، أو الحوار الذاتي الداخلي الذي تتحدث فيها الشخصية مع نفسها.

أيضاً يُدرج الراوي حلم اليقظة في خدمة تقنيات الحوار  لضمان التنويع الفني للأسلوب، لسبر عالم الرواية وكشف أعماقها، خدمة لنمو العمل الروائي، وتطويره نحو النضج والكمال... وكذلك يزخرف الراوي ثنايا الخطاب بأبيات شعرية لتفجير الحدث بصورة مؤثرة.

الوصـــــــف:

تتناثر في الرواية عديد اللوحات الوصفية وزعها الراوي لشد انتباه القارئ إلى صورة بيئة الأحداث الروائية المتميزة بمسحة رومانسية مؤثرة تصف الطبيعة على علاتها، ولكن هذا الوصف لم يكن مجانياً بل متعلقاً برؤية البطل والراوي، وقد راعى الراوي في هذه اللوحة الوصفية ما يتطلبه الانسجام مع حالة البيئة التي يعيش فيها البطل.

يورد البطل وصفاً للطبيعة وتعلق البطل بها على طريقة الرومانسيين والتغزل بها، ومن المميزات العامة لهذا الوصف اعتماده على وصف التفاصيل الصغيرة، فهو وصف جزئي، يعتمد على الدقة. كما مزج الوصف في بعض الحالات بأسلوب ساخر مثير لضحك عميق، مستمد من سخرية البيئة المحلية، ويسجل أن الوصف كان متماشياً مع الحالة الملائمة لطبيعة الحدث. وعلاوةً على الحالة النفسية التي يراعيها الوصف، نراه يلتزم بميزة الطبيعة والتغزل بها وتشخيصها وخلع صفات عليها، بدلاً من توصيف العلاقة الجسدية كونها لا تتماشى مع الوصف.

"الصفيرة" سوريا كلها

تأتي رواية (خربة الشيخ أحمد) للروائي السوري عيسى الشيخ حسن، كديتسوبيا خارجة من جمر المكان، ولكنها تحرص على قراءة المجتمع قراءة أخرى أعمق، وفي ذلك دعوة صادقة وصريحة لعدم التخفي وراء لغة مباشرة.. لأن الحرية تكمن في قراءة أفضل لما يحدث وما سيحدث على حد سواء، فتصبح "الصفيرة" هي سوريا كلها.

التعليقات (6)

    أحمد الجرجيس

    ·منذ سنتين 11 شهر
    كتابات عيسى الشيخ حسن هي كنز معرفي يضاف إلى تراثنا الجميل كل الأمنيات لهذا الجهبذ بالمتابعة

    علي الحسين

    ·منذ سنتين 11 شهر
    مايشدني لقراءةالروايه هي طريقه السرد الرائعه لشخوص الروايه وطريقه توضيف اللهجه المحليه في بناء الروايه واكاد اجزم ان اللهجه المحليه هي مونة البناء وعامل شد وجذب. انتباه القارئ

    موسى يوسف الجعفر

    ·منذ سنتين 11 شهر
    النص جميل ومشوق واتمنى ان يكون هناك أعمال قادمة من الكاتب ومن أخرين يتناول ثقافة وحياة الناس في الجزيرة السورية وإبراز مكنون الفطرة والطيب والكرم

    عبود الحجي العبود الشيخ أحمد

    ·منذ سنتين 11 شهر
    الشاعر يتكلم عن قريتا وخربت جدي

    سامر

    ·منذ سنتين 11 شهر
    رابط تحنيل الرواية ان امكن

    سامر

    ·منذ سنتين 11 شهر
    رابط تحميل الرواية ان امكن
6

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات