هل بشار الأسد حقا هو الملاك الحارس للأقليات في سوريا؟

هل بشار الأسد حقا هو الملاك الحارس للأقليات في سوريا؟
نشر معهد الشرق الأوسط مقالاً حول محاولة بشار أسد الترويج لنفسه منذ بداية الثورة على أنه حامي الأقليات وكيفية محاولة تقسيم سوريا طائفياً، وهذا نصه:

يعد هذا المقال الثالث في سلسلة مقالات تستهدف وتدحض حجة "شو البديل"؟ ("ما هو البديل؟") التي تزامنت مع الفترة التمهيدية للانتخابات الرئاسية هذا العام، فمن المتوقع أن يسعى بشار الأسد، الذي يستمر في حكم سوريا منذ عام 2000، نحو إضافة ولاية رابعة، تمتد لسبع سنوات جديدة، إلى رصيده في الحكم.

التقطت الصور الموجودة في المنشور المعلق على أحد جدران مدينة حمص المدمرة، في زيارة قمت بها في نيسان/ أبريل 2018 للمدينة. حيث يظهر بشار الأسد، رئيس سوريا، متجهماً بزيه العسكري ونظاراته السوداء. بينما نرى، في الجهة المقابلة، مريم العذراء، محومة في السماء فوق رأس جندي شهيد. هكذا يوضع بشار مع مريم العذراء في كفتي ميزان متساويتين، ويصور على أنه الملاك الحارس لمسيحيي سوريا.  كما تتضح الرسالة  بشكل لا لبس فيه في شعارات الحرب التي كتبتها ميليشيات النظام دون رادع أخلاقي  على جدران الأبنية في كل مكان، بما في ذلك الجوامع  -"لا إله إلا بشار" و "لاتركعوا لله، بل اركعوا لبشار".

سعى بشار الأسد، منذ بداية الحرب الدائرة في سوريا، نحو الترويج لنفسه على أنه حامي الأقليات- أكانوا مسيحيين، علويين، شيعة أو دروز-  من المتطرفين الإسلاميين باستمرار. كما أغرى العديد من الجماهير الغربية بمظهره العادي، وبزوجته أسماء الأنيقة التي تحمل الجنسية البريطانية وأصبحت تحظى الآن بنفوذ متزايد في الدولة.  وبينما ستجرى الانتخابات الرئاسية في الأشهر المقبلة برعاية روسية، فإن ترشح الأسد لخوضها يعد من المسلّمات، حيث تظل مزاعمه بشان حماية الأقليات موضع شك. فما الذي حدث للأقليات خلال السنوات العشر الماضية من الحرب، وكيف يمكن مقارنة ذلك بالطريقة التي عوملوا بها تاريخياً في سوريا؟

على الرغم من أن دستور سوريا علماني، إلا أنه ينص على وجوب كون الرئيس مسلماً. وعندما استولى حافظ، والد بشار، على الحكم عام 1970، كان أول علوي يصبح رئيساً للدولة. إذ اعتاد المتدينون من الأكثرية السنية التي تشكل نحو 75% من سكان سوريا، النظر إلى العلويين على أنهم فرع مارق من الشيعة. ولذلك دبر حافظ الأسد فتوى مقنعة من موسى الصدر، رجل الدين الشيعي المعروف، أعلن فيها أن الإسلام يضم العلويين. شكل العلويون نحو 10% من سكان سوريا قبل اندلاع الثورة السورية. وبالطبع فإن تحديد أرقام دقيقة غدا أمراً صعباً اليوم في سوريا، إلا أن معظم الخبراء يعتقدون بارتفاع النسبة إلى ما يقرب من 15%، ويعزون ذلك بشكل جزئي إلى حقيقة أن الملايين الذين هجروا من سوريا كانوا من الأغلبية السنية. كما يشكل المسيحيون 10% من السكان، ويمثل الدروز والإسماعيليون (فروع أخرى من الطائفة الشيعية) حوالي 5%. 

الطائفية والانقسامات الداخلية

من التصورات المغلوطة الشائعة لدى الغرب هو تصور الطائفية  في المنطقة كظاهرة تاريخية متأصلة في نزاعات ممتدة لقرون من الزمن. وهو أمر يدركه آل الأسد ويفهمون جيداً  كيف يسخرونه للعب على مخاوف الغرب المتمثلة في اضطهاد المسلمين المتطرفين للمسيحيين، خصوصاً مع ظهور تنظيم داعش وعمليات الذبح التي مارسها ضد المسيحين الغربيين على الملأ. إلّا أن الانقسامات العادية التي تحدث بين الناس سبق وحدثت على الأرجح بين كثير من الطوائف المسيحية والمسلمة على مر التاريخ، ولا تزال قائمة إلى يومنا هذا في سوريا، كما توجد كذلك بين المجتمعات الدينية المختلفة نفسها. 

روى لي طبيب أسنان سوري نشأ في قرية من قرى وادي النصارى ذي الأغلبية المسيحية المتدينة قصة شيقة عن أن كنيسته شعرت بالفخر بعد تدمير كنيسة إنجيلية جديدة "منافسة"  كانت قد شيدت بأموال الحلفاء عقب الحرب العالمية الثانية! ما يعني أن مسيحيي سوريا ليسوا مجموعة واحدة متجانسة –بل تعاني انقسامات داخلية عديدة، كما هو الحال بين الجماعات الإسلامية وبطبيعة الحال، اليهودية. وكثيراً ما يكمن أصل المشكلة في التباين الاقتصادي لا الاختلاف الديني.  

تعد مذبحة دمشق في 1860 التي راح ضحيتها آلاف المسيحيين مثالاً تاريخياً صارخاً. إذ غطت الصحافة الأوروبية المذبحة آنذاك على أنها حدث طائفي، مما أثار موجة عارمة من الغضب والتعاطف الشعبي، أعقبها إرسال حملة من القوات الفرنسية تحت مسمى أول تدخل إنساني للدفاع عن الأقليات. 

ومع ذلك كله، لم تكن المشكلة طائفية قط –بل بدأت في النزاع حول صناعة الحرير في جبل لبنان. حيث كان الكاثوليك المارونيون الأقرب إلى الفرنسيين تجارياً، وعاش العديد منهم حياة مرفهة في عزلة اجتماعية ترتع بالامتيازات التي منحتها لهم القوى الغربية بسعي منها نحو أسواق جديدة في زمن الركود الأوروبي. ومع ضعف القبضة العثمانية على الإمبراطورية، سادت في الولايات العثمانية حالة من الاضطراب، وخصوصاً مع تنافس المصالح الأجنبية على الغنائم. ولم تقتصر النتيجة على العنف بين الأديان الذي نشأ داخل المجتمعات التي تعايشت فيما بينها سلمياً إلى حد بعيد حتى ذلك الحين وحسب، بل كذلك تسببت الأحداث آنذاك بتقويض كلي لصناعة الحرير المحلية. إذ تم احتكارها تدريجياً من قبل الأجانب، وخصوصاً، الكاثوليك الفرنسيين، ما تسبب في فقدان العديد من السكان المحليين لسبل كسب عيشهم.

في ضوء ذلك كله، حرق ونهب الحي الراقي ذو الأغلبية المسيحية الكاثوليكية في دمشق القديمة من قبل عصبة من الفقراء الدروز والبدو، في حين أن العديد من المسيحيين الأرثوذكس الأصليين الذين يعيشون خارج أسوار دمشق في منطقة الميدان الفقيرة في الجنوب نجوا بعد أن حماهم جيرانهم المسلمون وأنقذوهم. تترسب مثل مشاعر الضغينة والاستياء هذه في سوريا اليوم، حيث تتم إعادة إعمار الكنائس في حمص وحلب بينما تقبع الضواحي الواسعة السنية ومساجدها المحلية في الخراب. في الوقت ذاته يتم إعادة بناء الجامع الأموي في حلب وجامع خالد بن الوليد في حمص كهياكل جوفاء بلا فائدة بهدف الاستعراض.  

كما هو الحال في الحرب الدائرة اليوم في سوريا، وصفت مذبحة دمشق 1860 خطأً بأنها حرب أهلية. فلطالما أساء الأوروبيون قراءة أحداث الاضطهاد على أنها طائفية، بدلاً من كونها اقتصادية بطبيعة الحال. بيد أن ذلك أسهم في تجذر المظالم، وتكثيف التدخل الأجنبي وتعميق حججه، الأمر الذي ينطبق على الحرب الحالية في سوريا. عشية قدوم القوات الفرنسية إلى سوريا، شرعت الوكالات التعليمية والإنسانية في الوصول إلى البلاد بقيادة مبشرين كاثوليكيين، حيث أسسوا دور أيتام، ومدارس داخلية، ومستوصفات غدا فيها دينهم المسيحي  هو المفضل.

التغيير الديموغرافي الهندسي

استمرت فرنسا في أساليب "فرق تسد" عقب فرض انتدابها على سوريا بعد الحرب العالمية الأولى، وذلك عبر إنشاء دويلات منفصلة، بما في ذلك تلك الخاصة بالعلويين والدروز. بيد أن الثورة الكبرى التي بدأت في منطقة الدروز الجنوبية عام 1925 قاومت المحاولات الرامية لتقسيم سوريا. أظهر الشعب السوري تعدديته الفطرية عبر رفض الطائفة كمحدد للهوية. في المقابل، مثّل الانقلاب البعثي عام 1963  الصيرورة الحقيقة والجدية للطائفية في سوريا، وذلك عندما تحول الشعور بالإقصاء الذي تعرض له العديد من السنة إلى أول نضال سني حقيقي في ثمانينيات القرن الماضي، ما أفضى إلى مجزرة حماة بقيادة عم بشار الأسد، رفعت، الذي استهدف الإخوان المسلمين. 

فرضت اتفاقيات "التجويع أو الاستسلام/المصالحة" على السكان الذين اعتبروا "غير موالين"، منذ عام 2012. وكانت الاتفاقية التي نُفذت في حمص الأولى من نوعها، حيث تم ترحيل معارضي حكومة الأسد إلى محافظة إدلب الثائرة، التي تضخم تعدادها السكاني بقدوم المزيد من النازحين، ومعظمهم من المسلمين السنة، عبر "الباصات الخضراء" الشهيرة التي تحولت إلى رمز لمعاناة السوريين.  وبحلول عام 2016، تبجح بشار الأسد في مقابلة أمريكية بأن "النسيج الاجتماعي غدا أفضل من أي وقت مضى" وذلك بعد أن هَجّر نصف سكان سوريا ومنح الجنسية السورية لعشرات الآلاف من المرتزقة الإيرانيين الطائفيين الذين حاربوا في سبيل بقائه في السلطة. 

 إن الحرب الدائرة تستمر في هندسة التغيير الديموغرافي السوري وتعجيله، الأمر الذي لطالما تكرر في تاريخ سوريا. أعاد سيف الدولة، مؤسس الدولة الحمدانية، توطين جل سكان حران (تركيا اليوم) من الطائفة الشيعية في حلب لإعادة الحياة إلى عاصمته التي دمرها هجوم بيزنطي. وبعد انتهاء حرب القرم، أراد الروس إيجاد أغلبية مسيحية، فجلبوا المسيحيين، وفي عام 1865 طردوا أكثر من نصف مليون مسلم إلى الأراضي العثمانية. وفي عام 1939، انتزعت فرنسا لواء إسكندرون من سوريا وتنازلت عنه لتركيا، ما أثار موجة نزوح لآلاف الأرمن واللاجئين العلويين، والسنة، والمسيحيين الذين يتحدثون اللغة العربية إلى شمال سوريا. وبعد الاستيلاء على هضبة الجولان عقب حرب الأيام الستة في عام 1967، باشرت إسرائيل على الفور في توطين اليهود الإسرائيليين هناك، وذلك قبيل ضم الجولان إلى الأراضي الإسرائيلية على نحو غير شرعي عام 1981. وبينما تظهر  مرتفعات الجولان على أنها أراض إسرائيلية في خرائط إسرائيل، تستمر الخرائط السورية بإظهار كل من مرتفعات الجولان ولواء إسكندرون (التي أعادت تركيا تسميتها بهاتاي) على أنها أجزاء من سوريا. في ضوء ذلك كله، ستختلف خرائط سوريا المستقبلية اعتماداً على ناشرها بلا شك. 

تكمن المفارقة الساخرة في كون الطائفية والانقسامات، داخل ما يسمى بسوريا العلمانية التي يمثلها حزب البعث العلماني اسمياً فقط، في تصاعد استمر طيلة فترة حكم الأسد على مدى خمسين عاما. حيث تقوم عقلية آل الأسد على أنك إما أن تكون بعثياً أو لا تكون. إما أن تكون معنا أو أن تكون ضدنا. إن الأنصار الموالين لحزب البعث يتمتعون بالحماية بلا شك، أكانوا من السنة أو من العلويين أو من المسيحيين أو أياً كان. بينما كان مصير كل من اعتبر  معارضاً لحزب البعث السجن أو الاعتقال أو التعذيب. 

كانت الهويات الدينية تعددية بالفعل قبل وصول آل الأسد إلى الحكم، ولم تكن هامة إلا على المستوى الاجتماعي. لم تكن ذات طابع مؤسسي، ولم تسيس قط. بينما استطاع الأسد تحويل سوريا إلى مجتمع طائفي لخدمة مصالحه الخاصة، وذلك باتباع نموذج الانتداب الفرنسي، عبر تحويل المجتمع إلى عدو لذاته. لكن المجتمع السوري بأغلبيته السنية سيعود، بمرور الوقت، إلى حالته الطبيعية من التسامح والتعايش الديني مع الأقليات إذا أعطي الفرصة بمجرد رحيل الأسد وأسرته. هذا الموقف يتبناه جميع السوريين الذين أعرفهم، فقد أسفوا للانتصار الحالي للطائفية العلمانية الزائفة للأسد وكلهم يصلون من أجل أن تزول سريعاً.  

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات