رحيل أكبر الأدباء الدمشقيين سناً: نصر الدين البحرة.. هام بأسرار دمشق وسحر المستمعين بصوته الإذاعي

رحيل أكبر الأدباء الدمشقيين سناً: نصر الدين البحرة.. هام بأسرار دمشق وسحر المستمعين بصوته الإذاعي
نعت الأوساط الثقافية والأدبية الأديب والصحفي والإذاعي السوري نصر الدين البحرة، الذي رحل في دمشق اليوم عن عمر يناهز سبعة وثمانين عاماً، ليكون بذلك أكبر الأدباء الدمشقيين سنا.

 

وكتب الأديب السوري خيري الذهبي على صفحته على الفيسبوك: "الوداع يا صديق العمر ..نصر الدين البحرة ...رفيق الأيام الخوالي ..وصاحب دمشق الأسرار.. أحد ظرفاء دمشق... حزن شديد لخبر رحيلك".

أما ابنته الممثلة والناشطة السياسية عزة البحرة فقد نعته بالقول: "بابا حبيبي نصر الدين البحرة.. يغادرنا اليوم.. وحيدا في دمشقنا". 

وكان الأديب الكبير والمثقف الدمشقي اليساري الميول، قد عاش سنواته الأخيرة في دار المسنين بدمشق، في ظل هجرة الكثير من أبنائه وأحفاده خارج سورية هربا من بطش نظام أسد.. أو بحثا عن فسحة أخرى للحياة. 

ورث عشق الفلسفة عن أبيه

ينتمي نصر الدين البحرة المولود في حي مئذنة الشحم بتاريخ 15 آب/ أغسطس عام 1934 لأسرة دمشقية عريقة.. فهو نجل الأديب السوري سعيد البحرة ضابط المدفعية في معركة جناق القلعة الشهيرة في العهد العثماني، الذي درس الفلسفة في إسطنبول ثم في جامعة السوربون في عشرينيات القرن العشرين، حيث كان عضواً في أول بعثة سورية لدراسة الفلسفة في باريس.

ورغم أن نصر الدين قد فقد والده وهو في السابعة من العمر، إلا أنّ تأثره به، وبالمكتبة التي تركها له، دفعته للسير على خطاه، حيث درس الفلسفة في كلية الآداب بجامعة دمشق، بعيد تخرجه من دار المعلمين في دمشق، وبعد حصوله على الإجازة في الفلسفة والدراسات الاجتماعية، توجه للتدريس في ثانويات دمشق في ستينيات القرن العشرين. 

كاتب قصة بميول يسارية

عرف نصر الدين البحرة في مطلع شبابه ككاتب قصة، وقد أصدر أولى مجموعاته الأدبية (هل تدمع العيون) عام 1957 التي أثارت سجالا نقديا ساخنا حول مفاهيم الواقعية والبساطة في عرض النماذج الاجتماعية.. وحول دعوات الواقعية الاشتراكية التي كانت تغزو الأدب السوري في تلك الفترة وتثير المعارك النقدية بين رموزه... إلا أن مجموعته القصصية الثانية (أنشودة المروِّض الهَرِم) صدرت بعد (15) عاما من صدور مجموعته الأولى، فيما جاءت مجموعته الثالثة (رمي الجمار) عام 1980 وبعد ثمان سنوات على صدور مجموعته الثانية.. تجربة جريئة في البحث عن تقنية وشكل جديدين، وكانت في المجموعة سبع جمار هجا في كل واحدة منها ما رآه الكاتب ظواهر التخلف في الحياة الاجتماعية المعاصرة... فيما استمر نصر الدين البحرة في إصدار مجموعاته القصصية في تسعينيات القرن العشرين، فأصدر (رقصة الفراشة الأخيرة) 1989 و(محاكمة أجير الفران) عام 1998  

في اتجاهاته وميوله السياسية كان نصر الدين البحرة، مثقفا شيوعياً متأثرا بالمد اليساري العالمي وقد نال في 1955 الجائزةَ الأدبية الثانية في مهرجان (وارسو الدولي للشباب والطلاب) الذي صمم ليكون تمريناً دعائياً ومكاناً للقاء لشيوعي أوروبا الشرقية ورفاقهم من أوروبا الغربية وآسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية. وقد حصد نصر الدين البحرة الجائزة الثانية عن قصّته "أبو دياب يكره الحرب". وكان رئيس لجنة المحكمين الأدبيين في مهرجان الشاعر المشهور ناظم حكمت.

إلى جانب حضوره الأدبي ومساهمته في تأسيس رابطة الكتاب عام 1951 والتي ورثتها عام 1954 (رابطة الكتاب العرب) وكان جل أعضائها من الشيوعيين.. كان نصر الدين البحرة ناشطا في صحافة الخمسينيات والستينيات، كما واظب منذ عام 1952 حين كان طالبا في الصف الثاني من دار المعلمين، على العمل في الإذاعة، وشارك في برنامج (ركن الطلبة) الذي كان يقدمه الشاعر الفلسطيني عصام حماد، قبل أن يتجه لتقديم برامج أدبية وثقافية لونت صباحات إذاعة دمشق بالأحاديث الثقافية الراقية، ولطالما سحر المستمعين بصوته الإذاعي العذب والرخيم. 

دمشقي مولع بأسرار مدينته

ولد نصر الدين البحرة في حي مئذنة الشحم، وقضى جزءا من طفولته في حي المهاجرين ثم عاد ليقطن دمشق القديمة ويسكن حي القيمرية... ثم عاش العقود الأخيرة من حياته في حي ركن الدين... ولهذا بدت علاقته بدمشق علاقة حميمية تختزن الكثير من الذكريات والأسرار التي أودعها في كتابه (دمشق الأسرار) الذي أصدره بطبعة أنيقة مزينة بصور ابنه عمر في تسعينيات القرن العشرين... الذي أودعه فيه حبه لدمشق، وتعلقه بأسراها.

 كان نصر الدين البحرة دمشقيا على طريقته.. ينتمي لدمشق التي  تميل للانفتاح.. والتي تقدر الفنون والآداب.. والتي تتحول فيها طقوس الحياة الشعبية إلى مادة للتفكه والتندر، لا مادة للتعصب والجهل.. ولهذا اعتبر من ظرفاء دمشق.. ومن رواة حكاياتها... ولا أنسى المحاضرة التي حضرتها له قبل أكثر من ربع قرن في صيف عام 1994 عن المرأة في دمشق. وعن قصص لقاءات الحب ومواعيد العشاق الخاطفة البريئة، التي كانت تقتنص فرصة لها في غفلة من الزمان. تبدأ في سن اليفاعة الأولى، ثم يصبح الصبي أو الفتى شابا، وتكبر الصبية كما الهوى الطفولي الذي كان.. وأذكر أن الأستاذ البحرة روى لنا في المحاضرة قصصا من هذا النوع غالبا ما انتهت نهاية مأساوية، تذكرنا بما حدث لبعض مشاهير العشاق العرب في التاريخ القديم، يوم كان أهل الحبيبة يرفضون زواجها ممن شبّب بها، كما يرفض رب الأسرة المتحكم الصلة التي قامت في الخفاء بين الخطيبين من غير علمه! 

الانتماء للمؤسسة الثقافية الرسمية

بعد تجربة سجن تعرض لها في مطلع شبابه بسبب انتمائه الشيوعي، حرص نصر الدين البحرة بعد انقلاب البعث على الانتماء للمؤسسة الثقافية الرسمية. وجسدت علاقته الطويلة باتحاد الكتاب العرب كعضو في المكتب التنفيذي لسنوات طويلة ورئيسا لتحرير مجلة (التراث العربي) الصادرة عن الاتحاد لسنوات أطول.. جسدت إيمانه بالعمل الثقافي في أحلك الظروف، وإن ببعض التنازلات.. لكن بقي نصر الدين البحرة، عنوانا من عناوين الروح الدمشقية في الثقافة السورية، والاهتمامات الموسوعية المتعددة والبالغة الثراء التي صاغت شخصيته وتجربته الطويلة المليئة بالهمة العالية، والذهن المتقد، والروح السمحة... معاصراً لكل رؤساء سورية منذ عهد الاستقلال حتى عهد (الأسد أو نحرق البلد).  

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات